رسم المصريون لرمضان لوحة فريدة.. مبهجة يتلاشي منها كل رتوش الزمن وتجاعيده. لوحة شكلت وجدان وأخلاق الشعب المصري جيلاً بعد جيل. فالأرض تتزين. والقصور تتزخرف والمساجد بضيائها تعانق السماء. والشوارع تفيض بالبهجة والسمر. والنفوس تتجلي لربها. وتتخلص من أدوات الزمن. فتغلق الخمارات. وحانات القمار.. وتفتح الخزائن للإنفاق علي اطعام الفقراء والمحتاجين وتتلألأ المسابح في أيدي الرجال لترطيب اللسان بذكر الرحمن. مازال المصريون يتوارثون مظاهر وعادات رمضانية لا يبرحونها ولا ينفكون عنها حتي يومنا هذا.. ومن هذه المظاهر ما هو إبداع متوارث عن الدول المتعاقبة علي المسلمين. ومنها استعير من الماضي السحيق.. منذ الفراعنة وتم تطويره وتوريثه حتي الآن.. اذكر من هذه الموروثات المقولة التي يرددها الأطفال مع قدوم رمضان.. ويستمرون في ترديدها "وحوي يا وحوي.. أيوحه" فكما تقول الدراسات التي أجراها عدد من المؤرخين الأثريين فإن هذه الأنشودة كان يرددها المصرون القدماء. ويستند المؤرخون إلي أن كلمة "أيوحا" يستخدمها المصريون بمعني "القمر" وكان الأطفال يحيون القمر بها حتي وصلت إلي الدولة الفاطمية واستعملت في تحية شهر رمضان. ومن المظاهر الرمضانية التي استدعاها المسلمون من الفراعنة.. ظاهرة الفوانيس. فهذه العادة التي مازالت حاضرة في اللوحة الرمضانية المصرية وكان أول ظهورها في مصر عام 1500ق.م. حيث تصنع من الذهب أو الفضة مع الزجاج الملون واستعمل الفانوس في بعض الأوقات كوسيلة حربية. إرشادية حيث كان الأهالي يضعون الفوانيس أثناء الليل أثناء وجود الفرنسيين في مصر للارشاد عن الجنود الفرنسيين لسهولة الانقضاض عليهم. كنافة معاوية كما تعود صناعة الكنافة كما يقول بعض المؤرخين إلي معاوية بن أبي سفيان.. الذي كان يعاني بصفة دائمة من آلم ببطنه استشار أهل الشام في ذلك فأشاروا عليه بعمل الكنافة طبعاً بصورة بدائية. حيث كانت تصنع من السمن والدقيق. وانتشرت فكرتها في الشام ووصلت إلي مصر واضيفت إلي المائدة الرمضانية المصرية. وتعد الدولة الفاطمية الدولة الأولي التي تلاقت مع طبيعة الشعب المصري في الاحتفالات وارساء طقوس خاصة بكل احتفال. وكذلك اقامة المهرجانات.. فهي الدولة الأولي التي استوعبت التراث المصري وطورته واصبغته الصغبة الإسلامية. ليلة الرؤيا فمع قدوم شهر رمضان كان الخليفة الفاطمي يخرج في مهرجان لإعلان حلول شهر رمضان المبارك. يخرج من أحد أبواب القصر الفاطمي. حيث كان للقصر عدة أبواب لكل باب مهمة خاصة. ولا يفتح إلا لما رسم له. يخرج الخليفة متحلياً بملابسه الفخمة والمميزة والخاصة بهذا المهرجان. ويلتف حوله الوزراء بملابسهم المزركشة علي خيولهم بسروجها المذهبة وفي أيديهم الرماح والأسلحة. ويتقدمهم الجند والموسيقي ويلتحق بهذا الموكب وهذا الاحتفال التجار والحرفيون والصناع ورجال الصاغة. وتتزين جميع الحوائط بأنواع الزينة المختلفة. فكانت تبدوا شوارع وطرقات القاهرة في هذا الوقت في أبهي زينة عرفتها مصر. موكب الرؤية ويبدأ الاحتفال الموكب من بين القصرين بشارع المعز بالصاغة الآن ويسير في منطقة الجمالية حتي يخرج من باب الفتوح أحد أبواب سوق القاهرة الشمالية ثم يدخل من باب النصر عائداً إلي باب الذهب مرة اخري وأثناء سير الموكب وتجوله في شوارع القاهرة كانت توزع الصدقات علي الفقراء. والمساكين وحينما يعود الخليفة الفاطمي إلي قصره يستقبله المقرءون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه حتي يصل إلي خزانة الكسوة الخاصة. فيغير ملابسه ويرسل إلي كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوي. وتتوسطه سره من الدنانير الذهبية. وتوزع الكسوة والصدقات والبخور. وأعواد المسك علي الموظفين والفقراء ثم يتجه بعد ذلك إلي قبور أبائه. فإذا ما انتهي الخليفة من ذلك يكتب إلي الولاة والنواب بحلول شهر رمضان. أما الاحتفال بقدوم شهر رمضان فقد اختلفت مظاهره في عهد الدولة المملوكية حيث يخرج قاضي القضاة لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الفوانيس والشموع. ويشاركهم المحتسب وكبار تجار القاهرة رؤساء الطوائف وشيوخ الصناعات والحرف ليشاهدوا الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون المدرسة المنصورية بين القصرين. وكان اختيار هذه المدرسة لهذا الغرض يأتي لوقوعها أمام المحكمة الصالحية "مدرسة الصالح نجم الدين أيوب" فإذا تحققوا من الرؤية أضيئت الأنوار علي الدكاكين وعلي المآذن. وتضاء المساجد ثم يخرج القاضي في موكب كبير تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتي يصل قاضي القضاة إلي بيته ثم تتفرق الطوائف إلي احيائها ليعلنوا بداية الصيام. ويذكر الرحالة ابن بطوطة عام 727 هجرية الاحتفال برؤية الهلال في إحدي مدن بحري فيقول "وعادتهم في هذا اليوم أن يجتمع فقهاء المدينة وتتوجه بعد العصر إلي بيت القاضي. حيث يقف علي باب الدار نقيب المعممين وهو ذو اشارة هيئة حسنة فإذا أتي أحد الفقهاء أو الأعيان. تلقاه هذا النقيب ومشي بين يديه قائلاً "باسم الله سيدنا فلان الدين. ويجلسه النقيب في مكان يليق به. فإذا تكاملوا جميعاً وعلي رأسهم القاضي. وتبعهم من المدينة من الرجال والصبيان حتي إذا ما انتهوا موضع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال عندهم وقد فرش الموضع ببسط والفرش فينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال ثم يعودون للمدينة بعد المغرب وبين أيديهم المشاعل والفوانيس فيكون ذلك دليلاً علي ثبوت الرؤية فيوقد التجار الشموع بجوانبهم وتكثر الأنوار في الطرقات والمساجد. ومما يميز هذا الشهر الكريم منذ الاعلان عن رؤية الهلال خروج الأطفال في الشوارع والميادين والحارات والأزقة وهم يحملون الفوانيس التي كانت تضاء بالشموع.. وهم يرددون "وحوي يا وحوي أيوحه" وتأتي هذه العادة لتكون ابرز ملامح الاحتفال بشهر رمضان الكريم لدي اطفال المصريين في جميع القري والمدن وذلك منذ عهد الدولة الفاطمية. ويرجع ذلك إلي إسراف الدولة الفاطمية في بدايتها في تقديم الهدايا للأطفال احتفالاً بقدوم الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فقام الأطفال بحمل الفوانيس في الخامس من رمضان لاستقبال الخليفة ويقول المؤرخ د.أيمن سيد فؤاد أن الفوانيس ظهرت في مصر في عهد عصر المعز لدين الله الفاطمي. وذلك عندما وصل إلي مصر استقبله المصريون ليلاً وهم يحملون الفوانيس وكان هذا الاستخدام الأول للفوانيس. موائد الرحمن وبعد أن تنتهي مراسم ومواكب الرؤية. ويبدأ المسلمون في الصيام يبدأ السلاطين والولاة في تقديم الولائم وموائد الرحمن.. وهذه العادة سلوك أصيل عرفته مصر منذ عهودها الأولي الإسلامية فقد اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في عمليات البر والإحسان طوال شهر رمضان. وعرفت الحديقة الكبري القريبة من قصر أحمد ابن طولون اكبر مائدة إفطار جماعي عرفته مصر.. حيث كانت تقام الموائد أسفل اشجار الحديقة ويشرف عليها شخصياً ابنه ضما روية الذي عين والياً علي مصر بعد أبيه ويقوم بيده بتوزيع الأطعمة المطهية والعيش وغيره علي كل من يحضر للافطار وكان إبن طولون محباً مستبركاً بهذه المائدة. واعتاد السلطان برقوق طوال شهر رمضان أن يذبح كل يوم من أيام رمضان خمسة وعشرين بقرة يتصدق بلحومها بالاضافة إلي الخبز والأطعمة علي أهل المساجد والروابط والسجون. حيث يخصص لكل فرد رطلاً من اللحم مطبوخاً وثلاثة أرغفة وسار علي سنته من بعد السلاطين فأكثروا من ذبح الأبقار وتوزيع لحومها كما وصل قيمة السكر الذي يوزع علي الفقراء في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون ثلاثة آلاف قنطار وتقدر ب ثلاثين ألف دينار. وكي نتمم المظاهر الرمضانية المتوارثة.. فيجب أن تتوقف علي "طبلة" المسحراتي والتي كانت ومازالت تستعمل في السحور. فترجع المراجع التاريخية إلي أن المصريين هم أول من ابتكروا الطبلة في السحور. وكان أشهر من قام بهذه المهمة شخص يدعي "ابن نقطة" شيخ المسحراتية في عصره. وكان صاحب فن "القومة" وهي احدي اشكال التسابيح والابتهالات التي تستعملها الطرق الصوفية. وكان المسحراتي يقوم بالتجول ليلاً في الحواري والأزقة ينادي علي الأهالي للقيام للسحور وكأن ينادي في غناء مبهج علي أسماء الأهالي في المنطقة التي يختص بها. وكان الأهالي يقدمون للمسحراتي الحلوي والمأكولات سواء خلال الشهر وفي الغالب تكون هديته أول أيام العيد