لقد ضرب نبينا "صلي الله عليه وسلم" أعظم المثل في الأخلاق الإنسانية. كيف لا وقد قال الحق سبحانه وتعالي عنه : "وإنك لعلي خلق عظيم"؟ فهو كما وصفته السيدة عائشة بأنه "صلي الله عليه وسلم" كان قرآنا يمشي علي الأرض. أي أنه "صلي الله عليه وسلم" كان ترجمة عملية لأخلاق القرآن الكريم وأوامره ونواهيه. وتتجسد في رحلة الإسراء والمعراج أعظم معاني الوفاء. فقد جاءت هذه الرحلة بعد العام الذي سُمُيّ في حياة النبي "صلي الله عليه وسلم" بعام الحزن. لوفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة بنت خويلد. أما عمه أبوطالب فقد كان النبي "صلي الله عليه وسلم" يقول : "ما نالت مني قريش ما نالت إلا بعد وفاة أبي طالب" حتي أنه "صلي الله عليه وسلم" اضطر للخروج من مكة إلي الطائف لعله يجد عند أهلها النصرة. فكانوا أشد أذي له من أهل مكة. ولم ينس "صلي الله عليه وسلم" ما كان من عمه أبي طالب يوم أن أرسلت إليه قريش لإثناء ابن أخيه عن أمره واعدة ومتوعدة. فقال أبوطالب لنبينا "صلي الله عليه وسلم" : يا ابن اخي إنهم يعرضون عليك أن كنت تريد بهذا الأمر مالا جمعوا لك من المال ما يجعلك أغناهم. وإن كنت تريد به جاها جعلوك ملكا عليهم. وإن كنت تريد به نسباً وصهراً فتخير من بنات أشرافهم من تريد ليكون لك صهراً. فقال "صلي الله عليه وسلم" قولته المشهورة : "والله يا عماه لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن شمالي علي أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتي يُظهره الله أو أهلك دونه". فقال أبوطالب : "امض يا ابن آخي حيث تحب. فوالله لن نسلمك إليهم أبداً. وأنشد يقول : فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولما تبن منا ومنكم سوالف وأيد أترت بالقساسية الشهب كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتي نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل وأما خديجة "رضي الله عنها" فكانت الصدر الحاني علي رسول الله "صلي الله عليه وسلم". ولما عاد إليها مرتجفاً أول نزول الوحي قالت له : "يا ابن أخي والله لن يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم. وتقري الضيف. وتحمل الكل. وتنصر المظلوم. وتعين علي نوائب الدهر" [صحيح البخاري]. وكان النبي "صلي الله عليه وسلم" يذكرها بما هي أهله. فيقول : "أمنت بي إذ كفر الناس. وصدقتني إذ كذبني الناس. وواستني بنفسها ومالها. ورزقني منها الولد" "مسند الإمام أحمد". وكان "صلي الله عليه وسلم" وفيا حتي لصديقاتها. فكان يُكرم عجوزاً تزورهم في بيت عائشة. يقول "صلي الله عليه وسلم" : "إنها كانت تأتينا علي عهد خديجة" "المستدرك للحاكم". وكان لوفاة أبي طالب وخديجة قبل ظهور دعوة النبي "صلي الله عليه وسلم" حكمة كبيرة. هي ألا يقول الناس إن الإسلام انتشر بفضل حماية أبي طالب أو مساندة خديجة "رضي الله عنها". إنما هو بفضل الله وحده الذي أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون بغض النظر عن الأسباب والمسببات. ولكن الجانب الإنساني عند رسول الله "صلي الله عليه وسلم" كان في أعلي درجاته في وفائه لزوجه وعمه حتي سمي عام وفاتهما بعام الحزن. فجاءت رحلة الإسراء والمعراج. ليكون من حكمها الواسعة التسرية عن رسول الله "صلي الله عليه وسلم". أما النموذج الثالث فهو نموذج أبي بكر الصديق "رضي الله عنه". ذلك أن النبي "صلي الله عليه وسلم" لما أسري به. وعاد فأخبر القوم بما كان جاء بعض المشركين إلي أبي بكر "رضي الله عنه" فقالوا : إن صاحبك يزعم أنه قد أسري به إلي بيت المقدس وعاد لليلته. ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً إياباً. فقال الصديق "رضي الله عنه" : إن كان قال فقد صدق. إني لأصدقه في أبعد من هذا في الأمر يأتيه من السماء. أفلا أصدقه في جيئة وذهاب؟! "المستدرك للحاكم". وكان رسول الله "صلي الله عليه وسلم يقابل وفاء أبي بكر "رضي الله عنه" بوفاء أشد. فكان "صلي الله عليه وسلم" يقول : "لو كنت متخذاً خليلا لاتخذته خليلا ولكن أخي وصاحبي" "متفق عليه". وكان "صلي الله عليه وسلم" يقول : "إن أحسن الناس عليّ في صحبته وماله أبوبكر". وفي الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء "رضي الله عنه" قال : كنت جالسا عند النبي "صلي الله عليه وسلم" إذ أقبل أبوبكر آخذا بطرف ثوبه حتي أبدي عن ركبته فقال : "صلي الله عليه وسلم" "أما صاحبكم فقد غامر" فسلم. وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت. فسألته أن يغفر لي فأبي عليء. فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتي منزل أبي بكر فسأل أثم أبوبكر؟ فقالوا : لا. فأتي إلي النبي "صلي الله عليه وسلم" فسلم فجعل وجه النبي "صلي الله عليه وسلم" يتمعر "وغضب" حتي أشفق أبوبكر فجثا علي ركبتيه. فقال : يا رسول الله. والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي "صلي الله عليه وسلم" : إن الله بعثني إليكم. فقلتم : كذبت. وقال أبوبكر : صدق. وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟! مرتين فما أوذي بعدها. فليتنا نتعلم الوفاء من رسول الله "صلي الله عليه وسلم" فنكون أوفياء لديننا ولوطننا من أحسنوا إلينا. ونقابل الحسنة بأحسن منها.