كثيرا ما تغني أبناء المحروسة علي ضفاف النيل بحصاد القمح. ولعل بعضنا يتذكر أغنية أمير الشعراء أحمد شوقي علي لسان الفلاح وفيها هيا للسنبل نحصده في الليل علي ضوء القمر . أنداء الفجر علي السنبل كالفضة في وادي الذهب وهكذا ارتبطت كينونة الفلاح وهويته عندنا بالقمح. ليظل هذا المحصول حديث الساعة وكل ساعة ذلك لأنه طعام الغني والفقير. ولأهمية القمح أفرد الله تعالي له آيات عدة في كتابه العزيز. ربطت بينه وبين مصر من دون بقية الدول . وضع لنا فيها منهجا لتوفيره علي الدوام. وجري تجريبه أول ما جري في بلادنا قبل آلاف السنين. ولو اتبعناه اليوم لتغلبنا علي هذه الأزمة أعني أزمة عدم كفايته. وذلك عندما رأي الريان بن الوليد ملك مصر في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف. وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. فأفتي له نبي الله يوسف عليه السلام تأويلا لهذه الرؤيا : تزرعون سبع سنين دأبا أي متتالية يهطل فيها المطر وتخصب الأرض وينبت القمح. ويعطي محصولا وفيرا. ثم يأتي بعد السبع سنوات المخصبات سبع مجدبات تعاني البلاد خلالها من الجفاف فيعم القحط وتنعدم الزراعة . ولأن الإنسان يجب أن يفكر ويعمل عقله من أجل التغلب علي مشكلاته وأزماته قدم نبي الله يوسف حلا لتجاوز هذه الأزمة فنصحهم بأن ما يحصدونه في السبع سنوات المخصبات يتركونه في سنبله إلا قليلا مما يأكلون. ليستهلكوه في السبع سنوات المجدبات . استحسن الملك هذا التأويل فرجحه وطلب إحضار يوسف من السجن فلما جاءه استخلصه لنفسه وقال له : إنك اليوم لدينا مكين . وهنا درس مفيد يلزم القادة والحكام بتوسيد المناصب إلي أهلها والتمكين للشخصيات صاحبة الخبرة للاستفادة من علمها. لكن ما نراه في واقعنا اليوم ينطبق عليه قول الشاعر : تموت أسد الغابة جوعا ولحم الضأن يرمي للكلاب . وذو جهل ينام علي حرير وذو علم ينام علي التراب . قال يوسف للملك : اجعلني علي خزائن الأرض إني حفيظ عليم . وهنا درس آخر . مغزاه يجب علي من يتولي المسؤولية أن يكون حفيظا. يحفظ مقدرات الشعب وثرواته فلا ينهبها ولا يبددها أو يسطو المقربون منه عليها. ويجب أيضا أن يكون عليما أي ذو علم علي الأقل في مجال وحدود مسئولياته . ولأن الريان كان ملكا حريصا علي رخاء البلاد أمينا علي ثروات العباد جعل يوسف الصديق الوزير المسئول عن الزراعة وتوفير الغذاء. فاستطاع أن يؤمن القمح لشعب مصر وللشعوب من حوله سبع سنوات ساد فيها الجفاف. من محصول سبع سنوات سابقة تمتعت فيها البلاد بالوفرة والرخاء. هي إذن كانت أزمة طويلة المدي قوامها أربعة عشر عاما. ابتكر لها حلا ناجعا قام علي ترشيد الاستهلاك وتقليل النفقات لتحقيق الاكتفاء الذاتي في ساعة العسرة. وتمضي السنون والأعوام ومصر خلالها هي سلة غذاء العالم من القمح. تصدر الفائض منها إلي انحاء الدنيا. وفاقت شهرة القمح المصري كأجود الأنواع علي الإطلاق. فكان المعيار والمقياس الذي تقاس به جودة بقية الأنواع التي تزرع في الدول الأخري لاحتوائه علي العناصر الغذائية المكتملة. لدرجة أن الإمبراطورية الرومانية قررت ألا يدخل في طعام جيشها قمح غير المصري. كما استخدمه حكام وولاة مصر علي مر التاريخ ورقة ضغط حققوا به الكثير من المكاسب السياسية. وحتي وقت قريب كانت أكبر مستورد للقمح المصري هي الدول التي تصدره لنا الآن !. والسبب خراب الذمم وانحطاط الهمم بدءا من خمسينيات القرن الماضي حتي تفاقمت الأزمة واستحكمت في عصر النظام السابق الذي جاء بيوسف والي نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للزراعة فوضع سياسة زراعية يرضي بها الأعداء بمباركة سيء الذكر أحمد نظيف. وقضي علي أفراح الفلاحين وحولها إلي أتراح . وإمعانا في إهانة هذا الشعب ذي العزة والكرامة . أذلوه من خلال الوقوف طويلا في طوابير العيش. وأضروا بصحته عبر ري القمح وغيره من المحاصيل بمياه المجاري. بينما جعل الله تعالي ريه بماء مبارك أي نظيف - ولا أعني بالطبع مبارك المخلوع ولا نظيف المسجون - في قوله تعالي : ¢ ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ¢ آية 9 سورة ق . لا أقصد هنا البكاء علي اللبن المسكوب بل أدعو إلي أخذ العبرة من الماضي وتجاوزه إلي التفكر في المستقبل بعزيمة وهمة . ومن حقنا أن نطلب من وزارة الزراعة نشر خطة واضحة وصادقة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح خلال سنوات قليلة قادمة . فشعب مصر العظيم يستحق رئيس جمهورية ورئيس وزراء ووزير زراعة أولاد ناس يعيدون له مجده ويستردون كرامته فيدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه ويسجلوا أسماءهم بأحرف من نور في أعظم صفحاته . وهذا والله سهل وميسور .. فهل من رجل رشيد ؟. أبناء مصر قادرون علي إعادة مجد القمح المصري ولكن يحتاج الأمر قرارا سياسيا ومساندة شعبية لبعض أبناء مصر البررة منهم الدكتور عبد الرحيم النجار والدكتور حسن سلام اللذين زرعا القمح في تربة مالحة وسقوه بماء مالح وحققا انتاجية عالية . فإذا كان الدكتور رئيس الجمهورية ليس كسابقه مبارك والدكتور رئيس الوزراء قنديل ليس كسابقه نظيف يوفرا لهذا العالم الدعم لنصدر القمح قريبا.