كانت الهجرة النبوية من مكة إلي المدينة هي المرحلة الثالثة في حياة النبي صلي الله عليه وسلم التي بدأت بالهجرة وانتهت بوفاته وكانت المرحلة الثانية من مبعثه إلي هجرته والمرحلة الأولي من ميلاده إلي مبعثه صلي الله عليه وسلم. ولا يكفي في ذكري الهجرة أن نحتفل بها بإنشاد القصائد وإلقاء الخطب واجترار الماضي الجميل والغرور بما قد مضي وولي من ذلك التاريخ الحافل المجيد ولاينبغي أيضا فيها الشكوي مما يحيط بنا من يأس وضعف إنما يجب علينا أن نتدبر ونتعلم ما يصلح أحوالنا ويغير مستقبلنا ويعلي شأننا. ومن دروس الهجرة التي استنبطها مفكرو الإسلام حب الوطن الذي اتضح في قوله صلي الله عليه وسلم " أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب البلاد إلي الله وأكرمها علي الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". وحب الأوطان لايتنافي مع الإيمان ويستلزم هذا الحب العمل والبذل والعطاء والصبر حتي يتقدم هذا الوطن وينهض من كبوته وتحقق السعادة لأهلة كما كان صلي الله عليه وسلم يسعي دائما لتحقيق تلك الآمال بإخراج الناس من ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة. والرسول صلي الله عليه وسلم لم يهاجر رغبة في الانتقال وفرارا من الظلم والبطش وفقط وإنما كان هدفه أن بنجز مشروعه وأن يستكمل مسيرته وأن تنتشر دعوته وبذلك يتحقق له ما أراد ويصدق عليه قول ربنا سبحانه وتعالي :" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وبعد أن أتم الله عليه النعمة وتحقق قوله عز وجل :" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلي معاد". عاد صلي الله عليه وسلم إلي وطنه - الذي نشأ فيه وابتلي فيه وأوذي فيه - حافظا عهده لوطنه معظما له مؤمنا أهله علي أموالهم ودمائهم وأعراضهم محرما علي البشر محيطه وحدوده مؤكداً علي ذلك ومشرعا له قائلا:" إنها لم تحل لأحد كان قبلي . ولا تحل لأحد كائن بعدي . وما أحلت لي إلا ساعة من نهار . ثم هي من ساعتي هذه حرام . لا يعضد شجرها ولا يحتش خلاها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد". هذه تربيته صلي الله عليه وسلم وهذا خلقه الذي أرشدنا إليه إجلالا وإكراما لمكان نشأتنا يغرس حب الوطن في نفوسنا اعتزازا به وحرصا علي رفعة شأنه وتحمسا للدفاع عنه مهما عانينا في أوطاننا من جور وتضييق وقسوة وقهر بجب علينا أن نخلص له قلبا وننصح لأهله حبا ونسعي لرفعته قولا وعملا. أفكر في مقامي وهو صعب .. وأصعب منه عن وطني ارتحالي ونحن في بداية عام جديد و"الهجرة هي فرار الإنسان بحريته في فكره ووجدانه وعمله من الأرض التي يضطهد فيها ويظلم إلي الأرض التي يكون فيها حرا عزيزا" محمد رشيدرضا.