المواطنة مستمدة من الوطن. وهو الإقليم من الأرض الذي اتخذه مجموعة من الناس موضعاً للإقامة والسكن والعيش المشترك. في ظل الانتماء والولاء لهذا الإقليم. وأحقية كل فرد في التمتع بالحقوق والحريات الإنسانية في مقابل القيام بالواجبات المستحقة عليه للعيش في هذا الوطن بغية ترسيخ قيمة مجتمعية كبري هي قيمة المواطنة. والوطن هو موضع الإقامة. ومنه كلمة مواطن التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالي"لقد نصركم الله في مواطن كثيرة" التوبة آية "25". وفي المنار: المواطن جمع موطن. والأصل فيه مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن. وهذه المواطن كانت مكاناً للنصرة والعلو. وقد يكون الاستخدام الشائع للوطن في القرآن: الديار والدار. والأول جاء في قوله تعالي:"للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم" الحشر "8" والثاني يشير إليه قوله تعالي "والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" الحشر "9". كذلك فإن مصطلح الأرض بمعني الوطن. جاء في قوله تعالي"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" النور "55". والدلالة في النص علي مكانة الوطن. وقيمة الانتماء إليه في المرتبة العليا. فهو موضع القيام بواجب الخلافة عن الله في الكون. وفيه يكون التمكين والتثبيت. وهو فوق ذلك واحة الامان والسكينة. ومكان الإيواء. ولكون الوطن هو المأوي والملاذ. وبه تكون النصرة والاحتماء. اعتبره القرآن أساسا فارقاً ومعلما محدداً لطبيعة العلاقة بين الأديان والأمم والشعوب. فهو علاقة قائمة علي المودة والتفاهم والعدالة. طالما اعترف فيها غير المسلم بحق المسلم في الأمن والأمان علي نفسه ودينه وأرضه. وعكس ذلك يحدث إذا قام الآخرون بأعمال طرد المسلمين من أوطانهم. وفتنتهم في دينهم. والافتئات علي حقوقهم بقوله تعالي "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون" الممتحنة "8 - 9". وفي هذا بلاغ قرآني بأهمية الوطن وبيان بما ينبغي أن يعم فيه من الأمان والسكينة تتغلغل بين قاطنيه وأصحابه من جهة. ومن جهة أخري فهو الموضع الذي يسوده السلام الاجتماعي في معناه الشامل والكامل. لعله مستمد من حقائق يشتمل عليها العديد من النصوص في القرآن والسنة. تعضد الأمن النفسي والسلام الأممي. وهو سلام يبتغيه الإسلام للفرد والجماعة والأمم والشعوب والدول ويقوم بين المختلفين في الأديان والأوطان والأجناس والألوان واللغات. وهو أقوم بين أصحاب الوطن الواحد. بهذا المسلك جعل الإسلام من الاختلاف في العقائد والتمايز الكامنة في الطبائع البشرية والجارية علي السنن الكونية. وسيلة إلي التلاقي والتعاون طلبا للحق. وتكريماً للعدالة. ولم يجعل الإسلام ألبته من هذا التخالف بابا للتقاتل أو الصراع. بل التعاون والائتلاف. وهو مقصد عام لقيام العلاقات بين الناس. وهو أحري بين شركاء الوطن طالما قامت العلاقات علي الاحترام والتفاهم وتلمس المصلحة مناطه أن الإنسان كائن اجتماعي فالاجتماع الهادف والتعاون البناء علي البر والخير والعدل من دعائم النظام الاجتماعي في الإسلام. وتمضي السنة المطهرة علي درب القرآن الكريم في ترسيخ قيمة المواطنة في النفوس. كما يتغلغل الإيمان في أعماق النفس المؤمنة ويشكل شخصية المسلم ويضبط تصرفه فيشيع بالحب والاخلاص والتفاني وإنكار الذات والتضحية وهي مرتكزات الحب الإيماني المنبعث من الإنسان يتجه بها مخلصاً نحو الله والوطن. يقول الرسول صلي الله عيله وسلم حب الوطن من الإيمان. وقد روي النسائي وابن حبان وأخرجه الترمذي أيضاً: والله إنك لخير أرض الله إلي الله. ولولا أني أخرجت منك ماخرجت" وفي الفتح الكبير: والله إنك لخير أرض الله. وأحب أرض الله إلي. ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". وهو قول ينبض بمضامين فذة من آيات الولاء والانتماء لذلك البلد الأمين الذي جعله الله ملاذا وأمنا للمقيمين فيه. وللقاصدين إليه. وكان مما فعله رسول الله علي رأس أولويات تأسيس تقوية مجتمع المدينة. أن عقد معاهدة تعايش وأمان بين المقيمين في المدينة وكتب بينه وبين اليهود كتاباً وادعهم فيه وبذلك وضع أساس السلام الاجتماعي. هذا التوجه الذي تشير إليه النصوص. يحدد ملامح الوطن الإسلامي ويكشف عن نظام الاجتماع فيه بين أفراده وجماعاته في أنه يعد مظلة ولباساً للقاطنين فيه. يظلهم بأمنه وأمانه. ويرعي فيه أفراده وفئاته وجماعاته بعضهم بعضاً ليكونوا به ومعه أمة دون سائر الناس. بحيث ينضوي فيه الكافة الصغير والكبير والمرأة والرجل والمسلم وغير المسلم. والعربي وغير العربي تحت لواء هذا الوطن. ينعم فيه الجميع بحقوقه. ويوفي كل منهم بالتزاماته منشؤه ارتباط كل منهما بالآخر. وتجسده فيه. إذا الوطن يعيش في المواطن كما يعيش المواطن فيه. فهما قرينان لا يفترقان. مصير كل منهما وكرامته مرتبط بالآخر ارتباطاً لا يقبل الانفكاك أو التفكيك. ولا تحول دونه الفروق البشرية والاختلافات الطبيعية والمكتسبة.