كان كل شيء في الشرق الإسلامي يمهد السبيل للغزاة. فقد كان العالم الإسلامي أشبه بإقطاعات "أتابكيات" يتوزعها أمراء متنابذون متحاربون. ولم يكن ليخفي هذا الأمر علي أوروبا الصليبية فاستغلته لصالحها أفضل استغلال وتقدمت جيوشها إلي الشام. وربما وجدت من بعض هؤلاء الأمراء الخونة كثيراً من العون. فالفاطميون يرسلون السفارة بالتأييد للصليبيين وهم يحاصرون أنطاكية. وأمير شيزر يرسل إليهم وهم بالمعركة يطلب الموادعة علي أن يشاطرهم بعض ما يملك. ويرسل إليهم الهدايا العظيمة من أموال المسلمين. والسلوك نفسه يسلكه أمير طرابلس الشام .. وهكذا. ونتيجة لهذا سقطت أنطاكية "491ه" وداهموا بيت المقدس سنة "492ه". حيث قتلوا من أهلها عشرات الألوف في الأقصي والصخرة.. ووقع أمراء الشام الأقزام الخونة تحت رحمة ¢جود فردادي بويون¢ وإخوانه الصليبيين الذين لا يرحمون. ونجحت الحملة الصليبية الأولي وتكونت إمبراطورية لاتينية نصرانية في فلسطين والشام. وخيم اليأس علي المشرق الإسلامي كله. وفي ظل هذا المناخ فشلت كل محاولات المقاومة التي اعتمدت علي الفردية أو علي التوحيد الجزئي عن طريق اتباع أسلوب قيام بعض الأحلاف الصغيرة لمواجهة الخطر الصليبي الكبير وهو أسلوب لجأ إليه بعض الأمراء المسلمين في ساعات العسرة. واشتهرت به الإمارات الارتقية كما حدث سنة "503ه" حيث تم تشكيل حلف إسلامي بقيادة "مودود بن التونتكين" حاكم الموصل السلجوقي الذي حل محل ¢جاولي¢ بناءً علي أمر من محمد بن ملكشاه سلطان السلاجقة. وقد ضم هذا الحلف الأمير ايلغازي الذي تقدم علي رأس قواته الضخمة من التركمان. وسكمان القطبي أمير أرمينية. وعدداً كبيراً من المتطوعين. واتفقت آراؤهم علي بدء عملياتهم بمهاجمة الرها والاستيلاء عليها فاتجهوا إليها ونزلوا عليها في شوال 503ه - 1109م. وشددوا عليها الحصار. ولما عرف المسلمون قرب الصليبيين منهم. قرروا فتح الطريق أمامهم ليتمكنوا من لقائهم في السهول الممتدة شرقي الفرات. فغادروا الرها في أواخر ذي الحجة سنة "502ه" وعسكروا في أرض حران. خدلعاً للصليبيين» وكانت حران آنذاك تابعة لايلغازي. وإذ أدرك الصليبيون الهدف من هذه الحركة. ووردتهم أخبار تشير إلي تحرك رضوان لمهاجمة المواقع التابعة لإنطاكية. وتحرك المصريون لمهاجمة فلسطين أيقنواعدم جدوي مهاجمة المسلمين. وقرروا الانسحاب من الجهات الواقعة شرقي الفرات وإخلاءها من المسيحيين "الأرمن واليعاقبة" إلي الجهات الغربية التابعة للصليبيين. وتقوية الإمكانيات الدفاعية للرها. ولكن ما أن بدأ الصليبيون بالانسحاب واتمام نقل المسيحيين المدنيين حتي نهض المسلمون في أثرهم. وأدركتهم طلائع القوات الإسلامية فغنموا سوادهم واثقالهم وقتلوا وأغرقوا وأسروا عدداً كبيراً منهم. ومن ثم اتجهت القوات الإسلامية ثانية لحصار الرها. وفي مطلع عام "597ه - 1113م" تحرك مودود بن التونتكين علي رأس تحالف إسلامي آخر. بناء علي استنجاد طغتكين أمير دمشق الذي تعرضت إمارته لهجمات شديدة من قبل صليبيي بيت المقدس. ولذا كانت فلسطين هدف الجهاد هذه المرة وقد اشترك في هذا الحلف أمير سنجار وطغتكين. أما ايلغازي فقد أناب عنه ابنه إياز. وفي الثالث عشر من المحرم كان اللقاء عند طبرية وانتهي بهزيمة الصليبيين بعد قتال شديد أعقبته سلسلة من الانتصارات ضدهم. أسفرت عن مقتل ما يقرب من ألف ومائتين وخمسين منهم لكن هذه الأحلاف الجزئية لم تؤد الأغراض المرجوة وبقيت سيطرة الصليبيين قوية علي الشام في ظل إماراتهم الكبري القوية التي تقف أوربا كلها وراءها. آل زنكي .. أساتذة وموجهو صلاح الدين : وفي هذه الظروف شاء الله سبحانه أن يمنح المسلمين الفرصة. وأن ينقذ دينه وبلاد الإسلام. بعد أن عاش المسلمون نصف قرن في ¢عز ذليل¢ بين أيدي الغاصبين. يقول ضياء الدين بن الأثير "فتدارك سبحانه دينه وأهله بدعوة الوحدة ينادي بها نفر من فرسان الإسلام بالموصل وما زالوا يجاهدون ويستشهدون ويعقب بعضهم بعضاً علي حمل الراية ¢وهؤلاء هم آل زنكي وأشهرهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود ووزيرهم صلاح الدين الأيوبي" وكانت الخطوة الأولي في المقاومة هي ¢الوحدة الإسلامية¢ فقام عماد الدين زنكي بتوحيد المنطقة لمواجهة النصاري من الموصل إلي حلب في دولة واحدة » وقضي علي الأمراء المنافسين بطريقة شرعية. وسعي إلي تكوين دولة متحدة من أرمينية إلي حدود مصر ولم تمض عدة سنوات حتي نجح هذا البطل المسلم في ظلال هذه الوحدة في أن يهاجم أنطاكية حتي وصل إلي اللاذقية. وفتح حصن يعرين. واستولي علي ما بين حلب وحماة. من الحصون الفرنجية. واستولي علي الاثارب وزردنا ومعرة النعمان وكفر طاب وجميع الريف. وأعاد إمارتي أنطاكية والرها إلي الإسلام وبهذا قضي ¢زنكي¢ علي أكبر الإمارات الصليبية في الشام وأخطرها بعد بيت المقدس وأدي خدمة عظيمة لقضية الوحدة الإسلامية. حين قضي علي هذين الوتدين النصرانيين القويين اللذين كان يحولان دون الاتصال المباشر بين الموصل وحلب. ودون اتصال أتراك إيران بأتراك آسيا الصغري. وانقطع أمل المنافقين من أرمن هذه النواحي في الكيد لجيرانهم المسلمين والتدبير عليهم. وبوفاة ذلك البطل العظيم ¢عماد الدين زنكي سنة 541 ه¢ فقد المسلمون علماً فذاً من أعلام الوحدة الإسلامية والشرف الإسلامي. لكنهم سرعان ما وجدوا أن بذوره الصالحة قد تركت وراءها ابناً كريماً من أبنائه هو ¢نور الدين محمود¢ الذي كان في الثلاثين من عمره حين مات أبوه .. فشق طريقه ليحمل الراية الإسلامية ومضي يؤدي الرسالة بالمستوي نفسه الذي كان عليه أبوه رحمه الله. كان لنور الدين فضل صد الحملة الصليبية الثانية والقضاء علي الخونة الأرمن الذين تواطأوا مع الصليبيين. كما قضي علي الخونة المسلمين من أمثال الخبيث ¢معين الدين أنر¢ وتابعه والي بصري التونتاش. وضم نور الدين دمشق إلي الجبهة الإسلامية كما أن ضم مصر إلي الجبهة يعتبر مأثرة من مآثره. فهو الذي أرسل إليها أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ليخلصاها من ضعف الفاطميين وصراع الوزيرين شاور وضرغام. وبوفاة أسد الدين شيركوه آلت مصر إلي صلاح الدين بخاصة بعد وفاة الخليفة الفاطمي "العاضد" سنة 567ه. ظهور صلاح الدين علي المسرح التاريخي : وقد سار صلاح الدين علي الدرب نفسه الذي سار عليه عماد الدين زنكي ونور الدين محمود. فقام بتوحيد الشرق الإسلامي. واستولي علي دمشق بعد وفاة نور الدين. وضمها إلي مصر مع كثير من بلاد الشام. كما فتح أخوه توران شاه بلاد اليمن. وبعد ذلك نجح صلاح الدين في ضم حلب والجزيرة والموصل وبذلك ضم صلاح الدين الأقطار الإسلامية في نظام اتحاد يمكنه من إعلان الجهاد ضد الصليبيين. بعد أن يكون قد أمّن الخطوط الخلفية لنشاطه العسكري. وضمن موارد عسكرية وبشرية وتموينية كافية لقتال الأعداء. ولم يلبث صلاح الدين أن هاجم المناطق والمدن التي كان الصليبيون قد احتلوها. وأسسوا فيها إمارات» مضي علي قيامها نحو قرن من الزمان فانتصر في موقعة ¢مرج عيون¢ في لبنان سنة 575 ه. واستولي في السنة نفسها علي حصن الأحزان وأسر مَنْ فيه. وحطم مغامرة ¢ريجنالد¢ في الاستيلاء علي الحجاز. موقعة حطين : وفي سنة 583ه زحف صلاح الدين علي رأس جيش إسلامي كبير سار به من دمشق واستولي علي حصن الكرك وطبرية. وهناك قريباً من طبرية دارت رحي معركة "حطين" الخالدة "583ه " بين جيش المسلمين الموحد. و الجيوش الصليبية بقيادة ملك القدس وأمراء صور وعكا والناصرة والكرك .. وكانت معركة حاسمة انتصر فيها السلطان صلاح الدين وأنزل بالفرنج هزيمة ساحقة. وأسر ملك القدس ¢لوزينان¢ والمغامر ريجنالد حاكم الكرك. ومعظم قواد الجيش و"14" ألف جندي وقتل منهم "9" آلاف. وزحف صلاح الدين بطل الوحدة الإسلامية المنتصر فاستولي بسهولةعلي عكا وصيدا ويافا وبيروت ونابلس والرملة ودخل القدس ظافراً في رجب 583ه. لقد اجتمع الصليبيون في حطين علي اختلاف أهوائهم تجمعاً لم يشهد مثله. فتجمع فرسان الدواية والاسبتارية. و"أرناط" صاحب الكرك. وخصم "صلاح الدين" العنيد. وملك بيت المقدس "جاي". وبطريرك بيت المقدس "هرقل". وأسقف عكا. وقد حملوا معهم في هذه المعركة أعز رموزهم الدينية لديهم. وهو صليب الصلبوت » الذي يعتقدون أنه بقايا الخشبة التي صلب عليها المسيح عليه السلام. وقد تجمع الصليبيون في "حطين"» وهي موقع قليل الماء. يمثل مأساة للمنهزم» لأن الموقع مكشوف لا ملجأ فيه إلا للسيف. أو القوة. وقد فرح صلاح الدين والمسلمون بتحريك النصاري لهذا الموقع. وتفاءلوا بذلك كثيراً. فأعد المسلمون أسلحتهم. وملئوا كنانهم بالنبل» التي وفرت للجيش بكثرة. فكانت أحمالاً مفرقة في المواضع المختلفة ليتزود منها المقاتلون. كما قام المسلمون بردم المياه الموجودة في المناطق المتوقع نزول الأعداء فيها. وقد بدأت أولي المعارك بينهم وبين المسلمين في صبيحة يوم 24ربيع الآخر سنة "593ه". واستمر القتال طوال النهار. وتوقف في المساء. فلما أصبح الفريقان في يوم السبت الخامس والعشرين منه» كان الماء قد قل لدي الصليبيين وأصابهم العطش. وقد حاولوا الوصول إلي الماء ولكن المسلمين كانوا لهم بالمرصاد فردوهم. وأسروا منهم. وتجمع بقيتهم في جبل حطين» ليحتموا به. وهرب بعض قوادهم. فعمل المسلمون علي إشعال النار في الحشائش المحيطة بمعسكرهم. وكانت أرضاً مليئة بالحلفاء. فارتفعت عليهم ألسنة النيران من كل جانب. واجتمع عليهم حر النيران وحر الهاجرة والعطش وقلة المياه. وللحديث بقية في العدد القادم إن شاء الله تعالي