أكثر من هدف نجح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في اصطياده بضربة واحدة.. عندما قام بتعيين هاكان فيدان رئيسا لجهاز المخابرات التركي.. أول هذه الأهداف أن فيدان يعد من الشخصيات المقربة لأردوغان كما أنه عضو في حزب العدالة والتنمية وهو مايعني إحكام سيطرة الحزب علي جهاز المخابرات وإبعاد سيطرة الجيش عليه. علي جانب آخر لعب فيدان دورا مهما في إبرام اتفاق التبادل الثوري الثلاثي بين تركيا إيران البرازيل كما أنه أحد منظمي أسطول الحرية الهادف إلي كسر الحصار عن غزة.. وهو ماجعل إسرائيل تتخوف من تعيينه وتعتبره صديقا لإيران. إضافة إلي ذلك معروف عن فيدان اتجاهه لتبني حل حضاري وحازم للأزمة الكردية التي تعد واحدة من أهم المشاكل الداخلية التي تؤرق الحكومة التركية. يبدو أن قرارات أردوغان واختياراته وتحركاته تصب دائما في اتجاه توتر العلاقات التركية الإسرائيلية وليس غريبا إذن أن يصفه البعض في إسرائيل بأنه أخطر الشخصيات المثيرة للتحريض والكراهية تجاهها.. فمع وصول حزب العدالة وأردوغان لسدة الحكم والعلاقات التركية الإسرائيلية تتجه نحو مزيد من التوتر.. بالرغم مما شهدته هذه العلاقة طوال عقود طويلة من تحالف ودعم وتأييد وصلت لحد عقد اتفاقية تعاون عسكري عام 98 إلا أن وصول حزب العدالة والتنمية لرئاسة البلاد جعل مؤشر هذه العلاقات يجنح نحو التنافر.. توالت تداعيات التوتر بعد الاعتداء الإسرائيلي علي غزة وإدانة تركيا واحتجاجها علي ذلك الاحتجاج والذي ظهر بشكل واضح خلال مؤتمر دافوس بعد انسحاب أردوغان منه احتجاجا علي الصلف الإسرائيلي، ثم جاء المسلسل التركي الشهير وادي الذئاب والذي يدين الجرائم الإسرائيلية ليشكل بدوره عاملا آخر في تأجيج حالة التوتر، والتي انعكست بشكل واضح في قيام إسرائيل باستدعاء سفير تركيا وتعمد المسئول الإسرائيلي إجلاسه علي كرسي أقل انخفاضا وهو ما اعتبرته تركيا إهانة لها وأصرت علي تقديم تل أبيب الاعتذار عنها وتحت الضغط استجابت إسرائيل للطلب التركي. لم تتوقف عوامل التوتر عند هذا الحد بل جاء الاعتداء الإسرائيلي علي أسطول الحرية ليزيدها تأججا بعدما أصرت تركيا علي تشكيل لجنة تحقيق دولي، وتقديم إسرائيل اعتذارا لها بعد مقتل تسعة أتراك كانوا علي متن الأسطول.. فضلا عن تأكيدها علي ضرورة قيام إسرائيل لإنهاء الحصار علي غزة. إلا أن المطالب التركية لم تحظ بقبول لدي الطرف الإسرائيلي والذي بدا واضحا أنه سيقابل العناد التركي بعناد أكبر حيث رفضت إسرائيل تقديم جنودها للمحاكمة وأعلن باراك صراحة بأنه لن يتعاون مع لجنة التحقيق الدولي إذا ما قامت باستدعاء أي جندي إسرائيلي للتحقيق معه. من سيئ لأسوأ بدت العلاقات التركية الإسرائيلية تسير، وجاء تعيين أردوغان لرئيس جديد لجهاز المخابرات ليصب في اتجاه تصعيد التوتر، فمجرد أن طرح اسم هاكان فيدان كرئيس للجهاز حتي جاءت ردود الفعل الإسرائيلية المهاجمة له بشكل دفع البعض لوصف فيدان بأنه الكابوس التركي الجديد الذي يؤرق إسرائيل. لم يكن فيدان علي درجة عالية من الشهرة بل كان شبه مغمور.. تخرج في جامعة ميريلاند الأمريكية بعد أن درس فيها العلوم السياسية، ثم استكمل دراسته بإحدي جامعات أنقرة وحصل علي درجتي الماجستير والدكتوراه وكان موضوع رسالته »دراسة مقارنة بين أنماط عمل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والتركية«. خدم فيدان في صفوف الجيش التركي لمدة 15 عاما ووصل إلي رتبة نقيب، وحصل علي عدة دورات تدريبية، كما عمل مع قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وانتقل بعد ذلك للعمل كأحد كبار مساعدي أردوغان، ويعد في نظر الإسرائيليين المستشار الأول لاردوغان في الملف الإيراني خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي. التخوف الإسرائيلي من تعيين فيدان له أكثر من سبب كما كشفتها الصحف الإسرائيلية، أولها العلاقة الطيبة التي تربطه بإيران وهو يعد أحد منظمي فكرة أسطول الحرية إلي جانب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، كما أنه لعب دورا كبيرا ومهما في إتمام اتفاق التبادل النووي الثلاثي الذي وقعت عليه طهران في 17 يوليو الماضي، وهو مادفع البعض إلي اعتباره أحد أشد المدافعين عن المصالح الإيرانية النووية، ووصفه آخرون بأنه مهندس تعميق العلاقات الإيرانية التركية بل وصل الأمر لدرجة اتهام وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك له بأنه صديق مقرب لإيران ومن المحتمل قيامه بتسريب أسرار مخابراتية إسرائيلية لطهران. الاتهام الإسرائيلي الصريح قابلته تركيا بالاحتجاج وباستدعاء السفير الإسرائيلي جابي ليفي للاعتراض علي تصريحات باراك لكن يبدو أن الأخير أصر علي موقفه ورأيه وتصوره لفيدان. المواقف التركية الإسرائيلية الأخيرة عكست مناخا من عدم الثقة بدا السمة الأبرز للعلاقة بين البلدين، وجاء تعيين فيدان ليشكل عقبة أخري في طريق تحسين هذه العلاقة خاصة أن تعيينه جاء بعد إنهاء مهام إمري تانر الرئيس السابق لجهاز المخابرات التركي والذي تميز بعلاقاته الطيبة مع إسرائيل. تعيين فيدان إذن كان بمثابة رسالة لإسرائيل يبدو أنها قرأتها سريعا.. لكنها لم تكن الرسالة الوحيدة فكان اختياره يحمل أيضا رسالة داخلية أخري، فاختيار فيدان المقرب لأردوغان والمنتمي لحزب العدالة والتنمية علي رأس جهاز المخابرات يعني تحكم الحزب في هذا الجهاز المعروف عنه قيامه بالعديد من الانقلابات حيث بقي رهينة للجيش التركي لفترة طويلة حتي وإن شهد بداية من التسعينات تحولا في تاريخه ليركن بشكل أكبر إلي الطابع المدني إلا أن تعيين فيدان يعد خطوة هامة في تحول عمل الجهاز وإخضاعه بشكل أكبر لسيطرة أردوغان وحزبه وتقليص تأثير كبار ضباط الجيش التركي في سياسة تركيا وتقوية موقف الحكومة في مواجهة العسكر خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية. إضافة إلي ذلك ستكون من أولي أولويات فيدان العمل علي تطوير جهاز المخابرات التركي والاعتماد بشكل أكبر علي القدرات والنشاط التركي خاصة فيما يتعلق بالخارج، وهنا يكمن سبب التخوف الإسرائيلي كما يراه بعض المحللين الأتراك، فالمعروف أن جهاز المخابرات ا لتركي كان يركز نشاطه علي العدو الداخلي أما في الخارج فكان اعتماده علي التعاون مع أجهزة المخابرات للدول التي يعتبرها صديقة له وعلي رأسها إسرائيل والولايات المتحدة واتجاه تركيا للاعتماد علي الجهاز الاستخباراتي الوطني من شأنه بالطبع أن يثير قلق إسرائيل عن استقلالية هذا الجهاز المهم لها. يتزايد التخوف مع جنوح السياسة التركية إلي المصالحة مع ماكانت تعتبره أعداءها التقليديين الأرمن السوريين اليونانيين وحتي الأكراد وفي إطار ذلك تبدو إسرائيل عبئا وليست ورقة رابحة خاصة والمعروف عنها أنها تحرك بشكل خفي التمرد الكردي ضد تركيا، وأصابع الاتهام تدينها بقوة في الاعتداء الأخير الذي شنه الأكراد علي قاعدة اسكندرون التركية والذي تزامن مع تبني تركيا لتنظيم أسطول الحرية لتقديم المساعدات وكسر الحصار عن غزة. وإذا عرفنا بعد كل هذا أن فيدان يولي اهتماما كبيرا بالقضية الكردية التي تقف علي سلم أولويات عمله.. من هنا تبدو الصورة واضحة بكل تفاصيلها لتكشف مدي التخوف الإسرائيلي من تعيينه والذي يبدو أنه يصب في غير مصالحها. لكن وبالرغم من تصاعد وتيرة التوتر التركي الإسرائيلي إلا أن البعض ومنهم الدكتور علاء عبدالحفيظ أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط يري أن الأمر لن يصل لدرجة قطع العلاقات أو نشوب حرب بين البلدين، فهناك العديد من المصالح المشتركة التي تمنع وقوع ذلك، أما التوتر البادي علي السطح فيرجعه إلي التنافس بين الدولتين للعب دور أكبر علي الساحة الإقليمية، فكل من أنقرة وتل أبيب تسعيان للعب دور قيادي في المنطقة. وربما تبدو العلاقة علي السطح تميل للشد والجذب والتوتر إلا أنه يتوقع أن تستجيب إسرائيل في النهاية للمطالب التركية خاصة أمام إصرار أنقرة عليها وهو ما يدفع تل أبيب في النهاية للرضوخ لأنها تدرك جيدا أهمية تركيا كحليف استراتيجي لها. علي جانب آخر يبدو حزب العدالة والتنمية يميل لاتخاذ موقف متشدد تجاه إسرائيل إلا أن المصلحة التركية العليا ستدفعه في النهاية للوقوف عند حد معين وعدم تجاوزه ويأتي التعاون الاقتصادي في مقدمة هذه المصالح فهناك تبادل تجاري سياحي وصفقات أسلحة والتي من الصعب علي تركيا غض الطرف عنها أو تجاهلها، إلا أن الأمر يمكن أن يتغير بالطبع لو توفرت إرادة سياسية عربية تدفع في اتجاه تعزيز العلاقات العربية التركية واعتبار أنقرة حليفا استراتيجيا والعمل لتشجيع الاستثمارات العربية في تركيا الأمر الذي سيدفع تركيا إلي إعادة حساباتها وعلاقاتها مع إسرائيل. إلا أن توقع حدوث ذلك يعتبره أستاذ العلوم السياسية يدخل في باب الأمنيات، أما الواقع فيشير إلي أن العلاقة التركية الإسرائيلية ستستمر علي ماهي عليه ولن تصل فيما يبدو وعلي المدي القريب لمستوي التدهور أو القطيعة، أما مايظهر علي السطح من توتر ففي رأيه لايخرج عن كونه مغازلة تقوم بها كل من أنقرة وتل أبيب للرأي العام حتي تظهر كل منها بأنها الأكثر قوة وحدة والأكثر سيطرة.. ليبدو التصعيد إعلاميا ودبلوماسيا أكثر منه سياسيا.. أما التغير الحقيقي والحاسم في الموقف التركي تجاه إسرائيل فلن يحدث إلا إذا ما ارتأت أنقرة أن هناك إرادة سياسية عربية تمد لها يد المساعدة والدعم.