فيلم "قطار الليل إلي لشبونة"، مأخوذ عن رواية للكاتب الفرنسي باسكال ميرسيه، تحمل نفس الاسم، حولها المخرج الدانمركي بيل أوجست إلي فيلم سينمائي عرض في فبراير الماضي بمهرجان برلين السينمائي، ثم بدأ عرضه من أسبوع، في بعض الدول الأوروبية، وهو من بطولة جيرمي ايرونز، وميلاني لورينت، وجاك هوستون، وشارلوت رامبرتنج، والفيلم يقوم علي دراما كلاسيكية، حيث يخرج البطل قاصدا البحث عن الحقيقة، ويتعرف أثناء رحلته بأناس ما كان له أن يلتقي بهم أبدا، ولكنه أيضا يعيد اكتشاف ذاته، ولا ينتهي الفيلم إلا وقد تبدل حاله، وخرج من أغلال كانت تقيد حركته وتمنعه من الانطلاق! "رايموند " بطل الحكاية، بروفيسور في إحدي جامعات بيرن بسويسرا، يعيش حياة رتيبة، مملة، هجرته زوجته، من أجلها، ولكن حياته تنقلب رأسا علي عقب، في يوم مطير عندما يلتقي فتاة تقف علي الجسر وتحاول الانتحار، يصطحبها معه إلي قاعة الدرس، ولكنها تتسلل إلي الخارج، تاركة معطفها الأحمر، ويندفع خلفها يبحث عنها خوفاُ من أن تقدم مرة أخري علي الانتحار، ومن هذا اليوم لم يعد "رايموند" إلي الجامعة التي يعمل بها مرة أخري! وكأن تلك الفتاة، هي النداهة التي سحبته إلي عالم لم يكن يعتقد أنه سوف يدخله أو يتعرف عليه مطلقا! يقدم السيناريو الذي كتبه جريج لاتير، بحرفية بالغة، كل عناصر التشويق من مفارقة ومفاجأة وتوتر، حيث يؤدي كل حدث عرضي إلي الدخول إلي عدة أحداث، وكأنها كرة من الخيط تسحب بعضها فيكر الباقي دون عناء، أو بقليل من العناء، يبحث رايموند عن أي شيء يتعرف به عن هوية الفتاة، يبحث في جيوب معطفها يفاجأ بكتيب صغير، لمؤلف شاب ومجهول "أمادو" ولكن سطورا قليلة من الكتاب كانت كافية، ليقرر رايموند أن يتخلي عن كل شيء ليفك طلاسم الحكاية، الفتاة وسرها وسحرها! ويفاجأ ضمن أوراق الكتاب علي تذكرة سفر بالقطار إلي لشبونة، ولا يتردد البروفيسور العجوز في محاولة اللحاق بالقطار الذي سوف ينطلق بعد دقائق إلي لشبونة علّه يعثر علي الفتاة، ولكنه لايعثر عليها ومع ذلك يقرر أن يلقي بنفسه في القطار، مدفوعا بقوة غامضة للبحث عن شيء ما لايعرفه! أروع الأفلام تلك التي تدفعك للتفكير طوال الوقت، وتجد نفسك رغماً عنك قد عشت داخل الحكاية، رغم أنها تدور حول شخصيات بعيدة عنك، جغرافيا وزمنيا، ونفسيا أيضا، فأنت لست واحدا منهم ، ومع ذلك، سوف تجد نفسك تنحاز لشخصية هذا البروفيسور العجوز الذي يسعي للمعرفة، وكأنه يهرب من حياته الفارغة إلي عالم رحب فسيح مليء بالأحداث والشخصيات التي أتت في مرحلة فارقة من تاريخ البرتغال، هل كنت تعرف شيئا عن ثورة القرنفل؟ سوف تعرف الحكاية بعد قليل، ثم تجد نفسك مرة أخري منحازا، للمؤلف الشاب "أمادو"، الذي مات في ظروف غامضة ولكنه ترك كتابا يحكي فيه بعضا من سطور حياته وأفكاره، التي لمست قلب البروفيسور ودفعته للبحث عن هذا المؤلف الشاب الذي لم يكتب إلا كتابا واحدا. الكتاب هو مدخلك للحكاية، التي توفي صاحبها »أمادو« وترك خلفه كثيرا من الأسرار، الفيلم يدور في حكايات متشعبة، بعضها يدور في الماضي، أو أهمها يدور في الماضي، وبشكل خاص في سنوات السبعينيات من القرن العشرين، وهنا تجدر الإشارة للمهارة الشديدة في السرد، التي لجأ إليها كاتب السيناريو، وهو يتعامل مع عمل أدبي زاخر بالأحداث، وهنا تجد نفسك مضطرا أن تعود إلي التاريخ لتتعرف علي حقائق تجهلها عن البرتغال في نهاية الستينيات، أدت حركات الاستقلال في مقاطعات ما وراء البحار البرتغالية في أنجولا وموزمبيق وغينيا في أفريقيا إلي حرب المستعمرات البرتغالية 1961 - 1974 طوال فترة حرب المستعمرات اضطرت البرتغال للتعامل مع المعارضة المتزايدة والحظر علي الأسلحة والعقوبات الأخري التي فرضها المجتمع الدولي. في أبريل 1974 قاد اليساريون انقلابا أبيض في "لشبونة"، الذي يعرف باسم "ثورة القرنفل "الذي قاد الطريق للديمقراطية الحديثة فضلاً عن استقلال المستعمرات السابقة في أفريقيا وبعد عامين من الفترة الانتقالية المعروفة باسم »العملية الثورية المستمرة« والتي تميزت بالاضطرابات الاجتماعية والنزاعات علي السلطة بين اليسار واليمين. حاولت بعض الفصائل بما في ذلك الحزب الشيوعي ألفارو كونيال دون جدوي تحويل البلاد إلي دولة شيوعية شمولية. تراجعت أراضي البرتغال في الخارج بعد قبولها شروط استقلال مستعمراتها عبر ممثلي القيادة البرتغالية الأمر الذي أدي إلي ظهور دول شيوعية مستقلة حديثا في عام 1975 دفع ذلك بالبرتغاليين إلي النزوح عن الأراضي البرتغالية الأفريقية حيث فر ما يقرب من مليون لاجئ برتغالي من المستعمرات البرتغالية السابقة. اتهم "ماريو سواريز" وأنطونيو دي ألميدا سانتوس بتنظيم استقلال مستعمرات البرتغال في الخارج. بحلول عام 1975 نالت جميع الأراضي البرتغالية الأفريقية استقلالها وعقدت أول انتخابات ديمقراطية في البرتغال منذ 50 عاماً. ومع ذلك حكمت البلاد إدارة مشتركة عسكرية ومدنية مؤقتة حتي الانتخابات التشريعية لعام 1976. بطل الحكاية "أمادو" هو طبيب شاب، ينتمي إلي إحدي الأسر الأرستقراطية، والده قاض شهير ومتحفظ للغاية، يعتبر أن نكسه ابنه بدأت عندما تعرف علي صديقه اليساري جورج وهو زميله في دراسة الطب، ويبدو أن كلا من الشابين مرتبط شديد الارتباط بالآخر، إلا أن أمادو كان أكثر صدقا ونقاء، وينضم كلاهما إلي إحدي خلايا المقاومة ضد النظام القمعي، الذي كان يشرف عليه السفاح ماريو سواريز المسئول الأمني عن إجهاض الثورة، واصطياد شبابها، في هذه الأجواء لابد أن تحدث خيانة بين أعضاء التنظيمات، ويقع ضحايا، ويطارد الأمن العناصر النشطة في الثورة، ويهرب من يهرب ويستسلم من يستسلم ويستمر الأنقياء حتي تنتصر الثورة، ولكن قبل أن تنتصر يسقط أمادو ويتوفي بانفجار بالمخ، قد يكون مسئولا عنه صديقه جورج الذي كان يحقد عليه بعد أن انحازت له »ماريانا« الحسناء التي أحبها جورج من طرف واحد، ويأتي حفل تأبين أمادو، في يوم الاحتفال بنجاح الثورة، حيث يحمل كل من أفراد عائلته وأصدقائه زهور القرنفل "رمز الثورة" ويضعونها علي قبره، يبقي هو وأفكاره من خلال الكتاب الوحيد الذي ألفه عن ذكرياته مع زملاء الثورة! سوف تتساءل وماهي علاقة البروفيسور، السويسري، بأبطال الثورة البرتغالية، بالكتاب، بالفتاة التي كانت في طريقها للانتحار، إنها فعلا أسئلة منطقية وشديدة الأهمية، نسجها سيناريو بديع، حمل بعض الإجابات وترك لخيالك البقية، المخرج بيل أوجست، قليل الإنتاج لكنه واحد من أهم مخرجي أوروبا، وقد نال السعفة الذهبية مرتين من مهرجان كان، وهو شرف لم ينله إلا القليل جدا من المخرجين، تعامل بيل أوجست مع سيناريو فيلم قطار الليل إلي لشبونة بكل ما لديه من حرفية ونظرة متعمقة للحدث والشخصيات، مع ربط جيد وبديع بين أحداث الماضي والحاضر، وربما تكون النهاية من المناطق البديعة التي لاتحتمل أي تفسير! وهي نهاية منطقية لرجل ترك كل شيء خلفه ليبحث عن بعض الحقائق، التي أثارت داخله كثيرا من التساؤلات وأهمها: ماذا يمكن أن يفعل الإنسان، ليجعل لحياته معني؟ اختيار الممثل المخضرم جيرمي أيرونز ربما يكون من أهم النقط المضيئة بين فريق العمل وكذلك الممثل الإنجليزي الشاب جاك هوستون في دور الطبيب الأرستقراطي أمادو، الذي تمرد علي تقاليد عائلته الأرستقراطية وانضم إلي الثورة، التي تنادي بتغيير النظام وتحقق للإنسان البسيط بعضا من حقوقه! هذا طبعا بالإضافة إلي أسماء لامعة بين نجوم السينما الأوروبية مثل شارلوت رامبرنج التي حلت مكان الإنجليزية فانيسا ريد جريف التي اعتذرت عن الدور ليس لصغر حجمه ولكنه لانشغالها بأعمال أخري، فيلم قطار الليل إلي لشبونة رحلة داخل الإنسان والمكان والتاريخ أيضا!