مشكله فيلم جاتسبي العظيم للمخرج باز لورمان، أنه لن يفلت من المقارنة مع النسخة الأولي من الفيلم التي تم إنتاجها عام 1974عن رواية سكوت فيتزجيرالد التي تحمل نفس الاسم ، ولعب فيها دور البطولة روبرت ريد فورد، وميا فارو وكان الإخراج لجاك كلايتون، عن سيناريو فرانسيس فورد كوبولا، هذا الفيلم ساحر للألباب بكل ما يحمله من تفاصيل، وعلاقات إنسانية مرتبكة، بحيث لاتستطيع أن تتخلص من أسره مهما مضي الوقت، وربما يقفز إلي ذهنك بين الحين والآخر بعض من ملامحه، في ملحمة إنسانية بطلها الحب ، أو الرغبة في استرجاع الماضي بكل تفاصيله، وهو شعور قاتل عندما يتملك الإنسان، ويدرك أنه يصارع كائنا خرافيا سيهزمه لامحالة، لأن الماضي لايعود ولايستطيع الإنسان أن يعيد عجلة الزمن لينتزع من الحياة ما يعتقد أنه أحد حقوقه مهما استعد لهذا اللقاء وسخر له كل أسلحته ! ومع ذلك هل فيلم جاتسبي العظيم للمخرج باز لورمان جاء مخيبا للآمال؟ بالعكس إنه واحد من الأفلام المبهرة حقا، وقد استطاع المخرج أن يعبر بالصورة عن مالم تستطع الكلمات التعبير عنه، إنه الاستخدام المذهل للغة السينما، للتعبير عن لغة الأدب والسرد الروائي! في كل المرات السابقة التي يعاد فيها تقديم رواية أدبية في فيلم جديد سبق تناوله أكثرمن مرة، تجد نفسك منحازا للجديد ، حيث إنه يقدم صورة أكثر إبهارا وطزاجة، مثل ماحدث مع أنا كارنينا والبؤساء، وتوقعات عظيمة، ولكن لن تشعر بأزمة جاتسبي العظيم إلا لو كنت قد شاهدت نسخة عام 1974 بل إن المدهش أن الإقبال علي مشاهدة هذه النسخة قد تزايد بنسبة ملحوظة، بعد نزول نسخة باز لورمان ثلاثية الأبعاد.. جاتسبي العظيم بطل رواية فيتزجيرالد، رجل غامض، يحار المتابع في تحديد مشاعره تجاهه، فهو رجل واسع الثراء بدرجة مخيفة، يمتلك قصرا منيفا، أصبح قبلة لعشاق السهر واللهو من أثرياء أمريكا، في الفترة الزمنية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وهو يستمتع بمتابعة ضيوف قصره وهم في حالة لهو ودهشة وإنبهار مما يقدمه لهم من وسائل ترفيه، ولكنه يكتفي بأن يطل عليهم من نافذة مكتبه الخاص ولايشاركهم اللهو أو السهر، أن كل هؤلاء لايعنونه في شيء، إنما هو قد قام بشراء هذا القصر، الذي يطل علي قصر آخر أقل فخامة ، تسكن فيها حبيبته السابقة "دايزي"، لقد قضي السنوات العشر الأخيرة من عمره وهو يستعد لهذه اللحظة، أن يسترد الفتاة التي أحبها يوما، ولم يستطع الارتباط بها، لأنه لم يكن يملك ما يدفع أسرتها البرجوازية لقبوله، ثروته الضخمة، غرابة أطواره، ظهوره المفاجئ أصبح مادة للشائعات بين أبناء الطبقات الراقية، الذين لايفعلون شيئا إلا الثرثرة! الدخول إلي حكاية جاتسبي العظيم، ومعرفة تفاصيلها يرويها جاره،"نيك كارواي"أو توبي ماجواير، لطبيب نفسي، واضح أن الحكاية تركت آثارا نفسية مربكة علي هذا الشاب، الغرير الذي يعمل في سوق الأوراق المالية في فترة الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا بعد الحرب العالمية، لقدكانت حياة كارواي، تسير في ملل ورتابة ، إلي أن تلقي يوماً، دعوة لحفل صاخب في قصر "جاتسبي "، وربما يكون هو الوحيد الذي تلقي هذه الدعوة، فجميع من اعتادوا السهر في قصر جاتسبي يذهبون بلا دعوات، رغم أنهم ليسوا علي علاقة وثيقة بصاحب القصر، في نسخة المخرج جاك كلايتون، تتابع حفلا مبهرا يحضره مجموعة ضخمة من الأثرياء، أما في نسخة باز لورمان، فإنك تصبح طرفا في الحفل بفعل البعد الثلاثي، وكأنك انتقلت فجأة إلي أجواء الثلاثينيات وتتابع حفلا خرافيا، يضم مئات البشر يمرحون ويستمتعون بكافة وسائل المرح واللهو، شيء يفوق الخيال فعلا، وحتي هذه اللحظة لم يكن الشاب كارواي ، قد تعرف إلي جاره بالغ الثراء جاتسبي، ولاحتي عرف السبب الذي دفعة لإرسال دعوة له، ولكن في طريق عودته الي منزله لمح رجلا يقترب في بداية الأربعينيات من عمره، يبدو عليه نوع من الشجن، والحزن يقف ليراقب القصر الذي علي الجانب الآخر من قصره، ودله حدسه علي أن هذا الواقف في الظلام ربما يكون جاتسبي، وقد كان هو فعلا "ليوناردو دي كابريو" في النسخة الحديثة، وروبرت ريد فورد في النسخة القديمة! في الحقيقة ورغم محاولة "دي كابريو" للدخول إلي أغوار الشخصية، إلا أن ملامح "ريدفورد "تبدو وكأنها تحاصرك بنظراته الهادئة التي تحمل أحزان الدنيا، وشجنا لاتعرف مصدره، وتندهش حقا أن رجلا في مثل وسامته وثرائه يمكن أن يفشل في الحصول علي مايريده! فالنساء علي استعداد للقفز طواعية إلي فراشه، والرجال يتهافتون لعقد الصفقات معه، ولا أحد يهتم بالسؤال عن مصدر ثرائه الفاحش! ولكنه لايريد من الدنيا إلا شيئا واحداً فقط ، أن يسترد علاقته مع حبيبته السابقه "دايزي" أو "كاري موليجان" التي أصبحت زوجة لرجل آخر من الأثرياء التافهين ! أما كاري موليجان ، فرغم جهدها الواضح في أداء شخصية دايزي ، الفتاة المدللة التي تخلت عن حب جاتسبي من أجل زوج ثري ، ثم عادت إليه عندما وجدته أصبح أكثر ثراء وإصرارا علي أن ينالها ، لكنها لم تضح من أجله وقتلته مرتين ، ولاتعرف أبدا هل أحبته يوما ، أم أنها كانت تحب شغفه بها، إنها تقبل أن تكون زوجة لرجل يخدعها، ويخونها مرارا مع زوجات الآخرين، ولكنها لم تفكر بالتضحية بعالمها وحياتها الرغدة، كي تصبح بجوار من أحبها، ربما تكون ملامح ميا فارو أكثر دلالة وتأثيرا، وعموما عنصر التمثيل في نسخه 1974 أعلي كثيرا منها في نسخة 2013 . رواية جاتسبي العظيم سبق للسينما المصرية أن قدمتها في فيلم الرغبة للمخرج محمد خان ولعب البطولة نور الشريف ومديحة كامل وحسين الشربيني ، وسقط الفيلم من الذاكرة، لأنه كان من الأعرج لما يحب يتحنجل ، فلم يقدم عالم الثراء والبذخ والغموض الذي يحيط بالشخصية ، وكان نور الشريف لايزال في مرحلة الأداء المفتعل والمبالغة فأخذ الشخصية إلي منطقة باردة، أما روبرت ريد فورد فقد منحها الغموض والسحر والشجن اللازم، حتي لحظة مقتله تشعرك ان الرصاصة التي اخترقت جسده ، قد اخترقت معها جزءا عزيزا من أحلامك وبراءتك وأشعرتك أن العالم لايحتمل الحالمين، وهي مشاعر حاول ليوناردو دي كابريو أن يقدمها، ولكن شيئا ما في عينيه يشعرك أنه كاذب وأن مشاعره ليست صادقة إلي هذا الحد! وربما خرج جمهور مهرجان كان من ليلة الافتتاح بهذا الإحساس أن الفيلم قفزة هائلة في تاريخ المخرج باز لورمان، ولكنه ليس كذلك في تاريخ ومسيرة أبطاله! ومع ذلك فإن من يشاهد الفيلم بلا رأي مسبق ولا تأثر بنسخته الأولي سوف يجد متعة مضاعفة.