أشتاق إليك اليوم.. بلوعة فراق حضنك في أول يوم »حضانة« مدرسية.. أتلهف علي حضور طيفك.. يحتويني يواسيني.. يطمئنني في أول مواجهة مع الدنيا الحقيقية.. أنتظر حبك الحقيقي الوحيد.. ليحميني من غدر الأحباب قبل الأعداء.. بدونك.. لا شيء حقيقي ولا ثقة مطلقة.. أحتاجك أشتاقك.. ياأمي.. التي لا مثيل لها.. إلا في عيون أبناء أمهات آخرين!! هل نكبر فعلا علي أمهاتنا مهما بلغ بنا العمر.. ونستطيع أن نستغني عن وجودهن في حياتنا واحتياجنا لهن.. مهما بلغ بنا العمر.. لا أعتقد.. بل بالعكس .. كلما كبرنا وأصبحنا أمهات نحن أيضا.. نشعر بحاجتنا أن نعود أطفالا.. يتحمل مسئوليتنا مرة أخري أحد آخر.. أي..الأم.. يحمل همنا برضا وابتسامة.. يوجهنا.. باهتمام حقيقي.. إلي ما يصلح شأننا في دنيانا وآخرتنا.. يقسو علينا وقلبه يتفتت إلي ملايين من الأنسجة المؤلمة حتي نصل إلي بر الأمان.. من مطبات وفخوخ حياتية تصنع لنا في كل خطوة.. مشكلة.. كارثة.. مصيبة.. إغراء ما.. ضعف ما.. يهدد حياتنا ومستقبلنا.. واحترامنا لذاتنا.
نعم.. هي الوحيدة التي تعطي بلا حدود ولا تيأس من أبنائها.. مهما بلغوا من الانحدار والفشل ومهما نأي عنهم الآخرون.. هي الوحيدة التي تري فيه طاقة نور.. أملا في أن يستعيد طفلها.. مراهقها.. شابها.. عقله وصوابه.. ويسير في الطريق الصحيح التي تتمناه كل أم.. تدعو بالليل والنهار وكل لحظة أن يحفظ لها أولادها من كل سوء.. ومن شر أنفسهم والناس.. تظل تدعو.. وتظل السماء تسمع.. فيخفف »القدر حكمه«.. رحمة بتلك التي تساند ولا تيأس.. فقلب الأم جمرة نار.. وكرة ثلج.. تحرق من يقترب من أطفالها بنية غدر.. أو سحب إلي طريق الهلاك.. وتنزل بردا وسلاما لتخفف عنهم غدر الأيام.. وثقل المسئولية والهم والغم التي لا تخلو منها حياتهم.. مهما كبروا ونضجوا وكونوا أسرة وصار لهم أطفال.. ويتصورون.. أنهم.. أبناء العصر الحديث.. المتطور.. صاحب التكنولوجيا والعلوم الحديثة التي لم يطلها.. زمان الأم.. بأنهم لم يعودوا يحتاجون منها.. إلا العاطفة والدعاء. وتأتي لحظة ثقيلة مؤلمة.. مؤدبة معلمة الدرس القاسي.. ولا يجد في كل ماسبق ما يخرجه من آلامها وتخبطها.. إلا عقل الأم وحكمته وغريزتها التي لاعلاقة لها بالعلم والتقدم التي وضعها فيها الخالق .. لتكون هي المرجع الأول والأخير للولد والبنت.. في حل المشاكل.. فهم خلقوا من دمها ولحمها وقبل كل ذلك قلبها.. تعرفهم أكثر من أنفسهم.. تعرفهم منذ أن كانوا جنينا ينقر.. بخجل علي جدار رحمها ليقول لها.. أنا هنا.. فهل أنت أمي.. تسمعيني.. هل أنت تلك التي تناجيني وتغني لي وتصاحب أيامي الطويلة داخل رحمك المائي رائق المحتوي؟ أنت بالقطع أمي التي أسمع دقات قلبها وأتلهف علي رؤيتها.. ثم يدفعني رحمها.. رأسا إلي حضنها.. لأراها.. لأري الحب والرحمة واللهفة والحنية.. أي قدر ضئيل لايراها.. أعظمها مجهر من رحمة ربي التي وضعها في قلب أمي!! ليرافقني ذاك القلب وذلك الحب طيلة حياتي وبعد ذلك.. هل نجرؤ أن نتشكك لحظة أنها قادرة علي حل مشاكلنا.. وهي التي صاحبتنا علي مدي الأيام والشهور والسنوات. مهما نلنا من الشهادات.. تظل هي الشهادة الكبيرة التي مهما بذلنا من جهد.. لن نستطيع نيل شهادة توفي حقها علينا!!
من يجرؤ علي التفكير لحظة في أنه قد كبر علي مكانة أمه في حياته وإن منصبه أو علمه قد لفظها إلي آخر قائمة مشغولياته واهتماماته؟ من يجرؤ وهي في كل لحظة من حياتها تفكر فيه وسعادته.. تعرف أنهم قد كبروا وسار لهم أسرة وأطفال .. ولكنها تؤمن أنه من واجبها.. بل من أسباب وجودها في الحياة.. أن تقلق عليهم.. وأن تنصحهم عندما تشاغلهم الحياة وتحاول سرقة ما زرعت فيهم من خير ومبادئ ومسئولية وتدين وصلة بالله تعالي الذي عرف قدرها حتي قيل إن الجنة تحت قدميها.. هل تستطيع بعد كل ذلك أن تقول لها لقد كبروا وعرفوا مصلحتهم.. فلا تتألمي لتغيرهم .. لابتعادهم.. لمشاكلهم.. لانحرافهم أحيانا.. عن الطريق الصحيح؟ هل ممكن أن نطلب منها أن (تكبّر) تعبير شبابي سخيف .. يدعو إلي الأنانية وألا يهتم أحد إلا بنفسه ومصالحه المباشرة .. ولأنها أم.. لا تستطيع!!
في كل عيد لأمي.. ينز عليّ حضنها وخوفها عليّ بل حتي تأديبها لي.. الذي أتي ثماره ياأمي .. فارفعي رأسك فخرا فلقد كنت نعم الأمالمسئولة والمربية السابقة لعصرها.. ولو استطعت.. أن آتي بنصف النتيجة التي وصلت إليها (دون التكنولوجيا الحديثة والدراسات المتطورة في أصول التربية الحديثة) التي نري آثارها غير المشرفة إذا وصلت إلي نصف ما وصلت إليه.. لسجدت لله ألف سجدة وسجدة.. علي نجاحي في تربية أولادي!! في كل عيد.. أضعف وأبكي وأتخيل دخولك عليّ.. بلا ميعاد كما يطلب من أبناء هذا الزمن العجيب فأطير فرحا وأقول من قلبي ماما.. إيه المفاجأة الجميلة دي.. لقد زارنا النبي!! وفعلا كنت أشعر بفرحة حقيقية غامرة وشرف حقيقي كأن الرسول الكريم قد زارني وطهر بيتي بقدومه من أي سوء أو شر أو دنس.. طلباتها كانت بالنسبة لي فرحا.. شرف أن تحتاج إليّ.. إذن أنا أستحق الحياة.. فالغالية التي لم تطلب شيئا طوال عمرها.. بل أعطت وأعطت وضحت وألقت بأمانيها ورغباتها الخفية إلي آخر وأبعد نفق مظلم.. من أجل احتياجات ومستقبل أولادها.. قد تنازلت وتعطفت وطلبت شيئا بسيطا مثل أن أساعدها في اختيار ثوب ما.. لمناسبة ما.. أو أن أخبرها بأحدث الإصدارات والروايات، هي التي علمتني أن الثقافة هي التي سوف تفرق بين ولاد الناس والرعاع.. العقل والثقافة والتعليم. وليس المال والمناصب والمظاهر الكاذبة والتي من أجلها يبيع اليوم الأبناء ضميرهم وشرفهم ونخوتهم ورجولتهم من أجل تحقيقها. لا.. ياأمي.. هؤلاء ليسوا أولادك.. إنهم أولاد أمهات أخريات وزمن آخر، لم يقوموا بواجبات الأم من حب مع حزم من حنية مع تأديب وتهذيب وإصلاح.. هؤلاء يتجرعون مازرعوا.. جحودا وإهمالا.. وأنانية واستغلالا.. حتي أصبح يطلق علي من رموهن في بيوتهن وحيدات.. تعيسات.. أمهات المنفي الإجباري..
تصوري ياأمي أنني التي كنت أتمني ألا تغيبي عن عيني لحظة.. تصوري شكوي الأمهات خاصة في عيد الأم... أن يتذكرهن.. أولادهن.. أن يزورهن.. أن يتصلوا بهن ولو بمكالمة ليسألوا فيها فقط علي الأحوال.. أتتصورين ياأمي.. عذاب الأمهات من الأزواج اللاتي منعن البنات عن الاهتمام بأمهاتهن.. لأنهم لا يحبونهن. وتنصاع البنت وراء وضاعة الزوج وتهمل الأم.. فتموت كمدا في اليوم ألف مرة أتتصورين ياأمي.. أن الابن ينصاع وراء رغبات زوجته.. فيقاطع الأم تماما لأن الزوجة تتهمها بكل الاتهامات فلا حتي يسأل أو يستفسر إنما يقاطع تلك التي يقول عنها رسول ([) بأنها أولي الناس بصحبتك.. والتي يقول قرآنه الكريم »وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا«. الحمد لله ياأمي أنك رحلت قبل هذا الزمن الردئ الذي ألقي بالأمهات في بيوت المسنين برغبتهن إحيانا.. حتي يجدوا إنسانا يؤنسهن في وحدتهن.. ويخدمهن في شيخوختهن ومع ذلك.. لا يرون الأولاد.. بالشهور.. أو.. يأخذهن الأولاد غصبا عن إرادتهن لينلن نفس المصير.. تلك هي الشكوي العامة والعذاب المنتشر في البيوت المصرية الآن.. إهمال وعقوق وإنكار خدمة وتضحية العمر.
لابد أنها من علامات.. الساعة.. ألا يعرف هؤلاء.. السذج.. البلهاء.. ما يفقدون.. حتي من مصالح مادية كانت السبب في الإهمال.. بأنه بإهمالهم للأمهات سوف يفقدون كل شيء؟ ألم يقرأوا يوما.. أن البر بالوالدين يأتي بعد عدم الشرك بالله وهي الجريمة الكبري التي لاغفران لها.. الحقوا أنفسكم.. قبل أن يفوت قطار حياة أمهاتكم.. وتقول لك السماء.. لقد رحلت من كنا نكرمك من أجلها.. فاعمل من الآن عملا صالحا.. يحسب لك وينقذك.. يوم الحساب!!
أمي الحبيبة.. هل رحلت وأنت راضية عني؟ هل غفرت لي.. يوم أبعدني احتياج أطفالي الصغار عن السؤال عنك يوما ولو واحدا؟.. أشتاق إليك اليوم.. كما لم أشتق إليك من قبل.. فأنا حزينة.. أريد أن أعود طفلة.. ألقي بنفسي في طمأنينة حضنك وأنسي العالم.. وأنام قريرة العين.. فلقد جفاني النوم.. خوفا علي أولادي.. من مستقبل الأيام؟!