لا تزال سوريا تنزف دماً.. وتنتفض أركانها ضد نظام الأسد القمعي.. يعتصر قلبها علي أطفالها وشبابها، شيوخها ونسائها الذين تزهق أرواحهم ثمناً للحرية، فيما يطلق المجتمع الدولي تصريحات دون خطوات ملموسة تنهي مأساة هذا الشعب.. الأوضاع تتأزم يوما تلو الآخر وكادت تقترب من حالة الفوضي الخارجة عن السيطرة، ولا يزال الانقسام داخل مجلس الأمن يهدد الملف السوري. فالغرب بقيادة واشنطن يحاول الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ونظامه إلا أن موسكو تقف حائط صد تعرقل أي عقوبات من الممكن أن تفرض عليه.. وتقف مدافعة وداعمة له بإبرامها صفقات أسلحة معه. فالمصالح الروسية في دمشق تقف حائلا أمام أي محاولة لاستمالة موسكو لتغيير موقفها من الرئيس السوري. احتدم الخلاف بين روسيا والدول الغربية وعلي رأسها الولاياتالمتحدة والدول الحليفة لها خاصة في الشرق الأوسط بعد أن قطعت روسيا والصين الطريق أمام استصدار قرار ضد الرئيس بشار في مجلس الأمن. وعلي الجانب الآخر، جاءت معارضة موسكو وبكين بالنسبة للأسد بمثابة تقديم إسعافات أولية لجثة هامدة، فباتت الدولتان في عداد الدول التي يعتبرها معارضو الأسد دولا معادية، كما أن هذه الخطوة أسهمت في توتر العلاقات بين موسكو والغرب، والذي زاد من الأمر سوءاً مشروعا قرار وضعت أولهما موسكو ووصفه الغرب بالضعف وإنه دون التوقعات الدولية، وآخر غربي قالت روسيا إنه غير مقبول وتعهدت باستخدام حق النقض لإفشاله لأنه ينص علي فرض عقوبات علي نظام بشار الأسد. ويقترح مشروع القرار الروسي تمديد مهمة المراقبين العسكريين للأمم المتحدة في سوريا تسعين يوماً، ولا يتحدث عن أي عقوبات. أما المشروع الذي اقترحته بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولاياتالمتحدة فيستند إلي المادة 14 من الفصل السابع ويهدد دمشق بعقوبات إذا لم توقف خلال عشرة أيام كل أشكال العنف وتسحب قواتها وأسلحتها الثقيلة من المدن وفق خطة كوفي أنان، مبعوث الأممالمتحدة والجامعة العربية، كما يقترح تمديداً للبعثة الأممية بسوريا لمدة 54 يوماً فقط. فيما ذكرت مصادر دبلوماسية أن روسيا والصين أبلغتا أنان أنها تؤيد اقتراحه تشكيل حكومة وحدة وطنية سورية قد تضم أعضاء من الحكومة والمعارضة لكنها تستبعد من قد تتسبب مشاركتهم في تقويضها. وبحسب رويترز، فإن فكرة استبعاد أشخاص بعينهم يقصد بها فيما يبدو الأسد وإن كان اقتراح أنان لم يقل صراحة أنه لا يجوز أن يشارك الرئيس السوري في حكومة وحدة وطنية، فهذا يعطي روسيا خيار التمسك ببقاء الأسد في السلطة، ويفسر ذلك علي أن موافقة روسيا علي اقتراح أنان الذي طرحه علي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لا يعني أن موسكو تخلت عن الأسد. وتعود الحرب الباردة بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخري، والتي تتخذ من الأوضاع السورية حقلاً خصباً لها، ويظهر ذلك الخلاف في مجلس الأمن الدولي، ويزداد التوتر بعد أن بات واضحاً لواشنطن أن أي حل للأزمة لا بد له من أن يمر عبر موسكو، التي تزداد تشدداً في محاصرة الحلول الدولية غير المستندة إلي مبادرة أنان، وكل ذلك في ظل دعم روسي كامل للنظام السوري أكده الكرملين مراراً من خلال إعلانه عن استمرار تسليم السلاح لحكومة سوريا التي يصفها بالشرعية. ويري بعض من المحللين الأمريكيين أن الفترة الحالية ماهي إلا مرحلة لتبادل الرسائل النارية، فلا دمشق كانت لتقوم بمناوراتها الأخيرة لولا موافقة روسيا ودعمها بالذخيرة والسلاح، وما كان النظام ليعتمد منطق العنف المفرط في الرد علي المتظاهرين وإقتحام البلدات لولا الدعم الروسي. وبالمقابل ما كانت المعارضة المسلحة لتوسع نطاق عملياتها وترفض كل أشكال الحوار مع الحكومة لو لم يكن دعم من واشنطن وحلفائها، ليستقر المشهد علي ساحة صراع ولكن من نوع جديد ومتطور بين موسكو العائدة إلي الساحة الدولية بعد غياب والذي يميل الميزان تجاهه، وواشنطن الغارقة في الرمال المتحركة في أكثر من المناطق توتراً. فالإدارة الأمريكية تصارع أزمات اقتصادية طاحنة تمنعها من تحقيق المزيد من التقدم علي المستوي الخارجي، وتدرك جيداً أن أي حرب عسكرية في المنطقة لن تكون في مصلحتها، ولا في مصلحة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يعيد الآن حساباته الانتخابية خاصة أن استطلاعات الرأي تنذر بعواقب غير محمودة في حال وقوع أي خطأ استراتيجي أو تكتيكي. وعلي النقيض، تذهب الدفة صوب موسكو والرئيس فلاديمير بوتين الذي انتصر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة رغم الاحتجاجات والمظاهرات التي خرجت في البلاد. فاستطاعت روسيا مع ستالين الجديد وضع أساس متين لها في الشرق الأوسط وفي بعض الدول الأوروبية، بما يساعدها علي تحقيق التوازن المطلوب في صراعها مع الغرب حول ما يعرف بالمياه الدافئة، فضلاً عن عودتها للعب دورها في مجلس الأمن عبر استخدام حق النقض لأي من المشاريع التي طرحت لحل الأزمة السورية، بجانب وقوفها طرفاً مستتراً في الصراع بين الدول الكبري وإيران في مشهد يؤكد عزمها علي الوقوف في وجه واشنطن المنشغلة بانتخاباتها، بحيث يعتبر هؤلاء أن نتائج الانتخابات الأمريكية هي من سيحدد الاتجاهات وحجم التسويات، خصوصاً أن موسكو لا تبدو راغبة علي الإطلاق بالخوض في تفاصيل أي تسوية أو صفقة إلا بعد الانتخابات الأمريكية التي تشكل بدورها ساحة جديدة أمام موسكو لحصد المزيد من المكاسب علي الصعد كافة. وترفض موسكو بشدة كل التدخلات في الشأن السوري مبررة ذلك بأنه شأن داخلي. وتخشي روسيا أن تتحول الأراضي السورية إلي ساحة قتال طائفي يمتد لباقي دول المنطقة خصوصاً بعد حصولها علي حقائق ومؤشرات كثيرة تثبت وبدليل قاطع أن تنظيم القاعدة أصبح أحد أهم أركان الصراع. فمعارضة موسكو لتغيير الأنظمة بدعم أجنبي يعكس خلافاً مع الغرب بشأن السيادة وحقوق الدول في التعامل مع نزاعات داخلية بأي وسيلة. ويوضح دنيس بوكارد، الدبلوماسي السابق وخبير شؤون الشرق الاوسط في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، أن الموقف الروسي بعدائه لأي تدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما خاصة في الأوضاع الحالية لأن لديها ما يقلقها في الداخل. فالروس يخشون من أن تصبح سوريا بعد الأسد ملاذا لإسلاميين من بينهم من يقاتلون ضدهم في الشيشان. كما أن الدب الروسي يجد في سوريا التي يحكمها العلويون ثقلاً إقليمياً موازياً لكتلة أعلي صوتا للدول السنية المتحالفة مع واشنطن وعلي رأسها السعودية ودول الخليج. كما أن روسيا تري في تقويض المصالح الغربية وإحراج قادتها هدفا في حد ذاته يخدم مسعاها لإعادة التأكيد علي دورها كقوة عالمية. ويبدي مسؤولون غربيون ثقتهم بأن الرئيس بوتين يوشك علي التخلي عن حليفه القديم ولكن خيبة الأمل كانت من نصيبهم في كل مرة. فدعم موسكو للنظام السوري يجد مبرراته في العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين، علي مستوي التعاون الاقتصادي والعسكري الذي بلغته الدولتان. وتقف المصالح الروسية في سوريا حائلا أمام أي محاولة لاستمالة موسكو لتغيير موقفها من أزمة سوريا. فموسكو كانت من أولي الدول التي دافعت، رغم مقاومة بريطانيا وغيرها من الدول الغربية، عن إدراج سوريا في قائمة الدول المؤسسة لهيئة الأممالمتحدة وأصرت علي ذلك. كما تركزت العلاقة بين الدولتين ولفترة طويلة علي مبيعات الأسلحة التي شملت طائرات مقاتلة، ومروحيات هجومية وأنظمة الدفاع الجوي. وعاد الدعم الروسي لسوريا وزاد مع وصول بوتين للحكم وتجسد بإعادة افتتاح القاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس شمال سوريا، وهي القاعدة العسكرية الوحيدة التي تملكها روسيا خارج الأراضي السوفياتية السابقة.