لم يعد الأمر يحتمل أي تورية أو مواربة، ما يحدث في سوريا هو حرب أهلية طاحنة.. أخيرا اعترفت الأممالمتحدة بذلك، بعد فترة من الصمت والتحفظ، علي لسان رئيس بعثة عملية حفظ السلام، الدبلوماسي المخضرم (إيرفيه لادسو)، الذي يعمل في إطار المبعوث الخاص كوفي عنان، ليكسر بذلك حظرا دوليا لفظيا علي استخدام الكلمة، بعدما ظل الأوروبيون ومعهم الولاياتالمتحدة، يحذرون لمدة عام ونصف العام مما يسمونه (حربا أهلية وشيكة)، وليست حربا مشتعلة بالفعل، ربما تجنبا لتدخل تفرضه القوانين والأعراف الدولية، وما يترتب علي ذلك من تحمل تبعات إقليمية وجيوسياسية لا قبل لأحد بتحملها، أو ربما خوفا من تحمل مسئولية أخلاقية، علي الأقل، تجاه مجازر يومية وبحر من الدماء لا تتوقف أمواجه في شتي أنحاء سوريا، التي ينبئ كل شيء فيها أنها تهوي إلي جحيم مجازر طائفية هي الأبشع علي الإطلاق في تاريخ البشرية، فبعد ذبح 110 مدنيين عزل معظمهم من النساء والأطفال في قرية الحولة، تم ذبح 350 آخرين بالسلاح الأبيض بقرية التريمسة الواقعة بريف حماة. تقرير "إيرفيه لادسو" وصف ما يحدث في سوريا بأنها ثلاثة حروب أهلية وليست حربا واحدة، فمن ناحية هناك حرب علي مدنيين عزل ما زالوا متمسكين مصممين علي نهج النزول السلمي إلي الشارع جمعة بعد أخري، وهم النواة الأولي للحراك الشعبي، الذي بدأ في مارس 2011 وكان هدفه مجرد الإفراج عن أطفال درعا الذين كتبوا علي جدران مدرستهم عبارات مناوئة للنظام، وتم تعذيبهم وانتزاع أظافرهم في سجون بشار الأسد، وبالرغم من عدم ظهور أي هتاف في تلك المظاهرات يطالب بإسقاط نظام حكم عائلة الأسد، إلا أن التعامل مع المتظاهرين كان بإطلاق الرصاص الحي مباشرة، وما زال هذا النهج من التظاهر مستمرا في عشرات القري الواقعة بريف دمشق وإدلب، وبالرغم من سقوط آلاف الشهداء، وبالرغم من أن المتظاهرين لم يسقطوا النظام، ومصرين علي التمسك بمبدأ سلمية الثورة، إلا أنهم كسروا حاجز الخوف الذي بناه النظام، لتسقط بذلك أكذوبة العصابات الإرهابية المسلحة التي اخترعها بشار الأسد ليبرر القمع والعنف ضد المطالبين بالحرية. مع نهاية صيف2011 فرضت حرب أخري نفسها علي أرض الواقع، وهي حرب غير متكافئة بين أفراد الجيش النظامي ومدنيين اضطروا اضطرارا لحمل السلاح للدفاع عن مدنهم و قراهم، ولقد انضم إليهم عناصر منشقة عن جيش الأسد، حيث فضل كل منهم الانشقاق بسلاحه والفرار لبلدته الأصلية ليدافع عنها، وهم من يطلق عليهم »الجيش السوري الحر«، غير أن لا قيادة مركزية تجمعهم، إذ إن كل مجموعة مسلحة معنية بالدفاع عن قريتها فقط، وبالرغم من عدم التكافؤ، حيث الجيش النظامي أكثر عددا وعتادا، إلا أن أسلوب حرب العصابات الذي يتبعه الجيش الحر، وتكتيك الضربات الخاطفة تحت جنح الظلام، بدأ يشكل مصدر قلق حقيقيا للقوات النظامية، التي تتكبد يوما بعد يوم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وتقع أقوي وحدات الجيش الحر في بلدة الرستن وفي ضواحي مدينة حمص، معقل الثورة، وكذلك في منطقة جبل الأكراد القريبة من الحدود التركية، وبالرغم من عدم قدرة الجيش الحر علي الدخول في مواجهات صريحة علي الأرض ضد الجيش النظامي بأسلحته الثقيلة، إلا أنه أثبت قدرته علي فرض سيطرة فعلية علي ما لا يقل عن 40٪ من مجموع الأراضي السورية، بحسب تقرير الأممالمتحدة، حيث لا تستطيع دبابات النظام ومدافعه البقاء داخل المدن لفترات طويلة، وهو ما يعطي السيطرة تلقائيا للجيش الحر، المدعوم بعناصر جهادية من بلدان عربية، كما يشير التقرير الأممي. الحرب الثالثة والأخيرة في تقرير الأممالمتحدة، وصفت بأنها حرب الكل ضد الكل، ويعطي التقرير مثالا عليها بالمجزرة التي تمت في بلدة الحولة السنية حيث تم ذبح 110 من المدنيين السنة، بينهم 49 طفلا، بالسلاح الأبيض علي يد شبيحة موالين للنظام العلوي، ومن العلامات المثيرة للقلق أيضا عدم تمكن بعثة المراقبين الدوليين من زيارة قري أخري سنية حدثت فيها مجازر مشابهة لمجزرة الحولة، مثل قريتي »الحافية« و»القوبير«، حيث تم مهاجمة سيارات المراقبين الدوليين من قبل قري علوية، منعتهم من إكمال مسيرتهم، ويؤكد التقرير أن »أخطر ما في سوريا الآن ليس الخلاف بين بشار الأسد والمعارضة ولكنه حرب الكل علي الكل«، التي تجعل التوصل لأي تسوية سياسية أشبه بالمستحيل. التقرير الأممي يؤكد أن النظام هو من حول الأمر لحرب طائفية واستطاع أن يجبر الأقليات الأخري (مسيحيين، أكرادا، ودروزا) علي اللحاق به مستخدما فزاعة نظام إسلامي سني لا يعترف بوجودهم، ويبدو التقرير في غاية التشاؤم بخصوص هذه النقطة، حيث يري أن ما يحدث في سوريا حاليا يسير تجاه تقسيم البلاد علي أساس طائفي، لا سيما إذا ما ردت القري السنية بمجازر مماثلة في أماكن تمركز الشيعة العلويين، الذين بدأوا بالفعل في هجر منازلهم وقراهم، وتحديدا تلك الواقعة بالقرب من مناطق سنية مثل حمص، إلي جبل العلويين، وإذا كانت المعارضة السنية المسلحة تتجنب حتي الآن الرد بالمثل علي شبيحة النظام، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: إلي متي؟