الحرائق مازالت مستمرة في بداية ثنية النيل التي تحتضن قنا تقع جزيرة جبر بمركز نقادة بمحافظة قنا، 500 فدان من أجود الأراضي الزراعية، يقيم عليها 1500 نسمة وتمتلكها أسرة واحدة. تاريخ الجزيرة بدأ بعد إنشاء السد العالي.. اكتشفها جبر يونس أحمد غانم فاستوطنها، ولأن الرجل كان كغيره من الجنوبيين مولعا بخلفة الذكور فقد تزوج مرات عديدة وصلت كما يقول أحد أحفاده إلي ما يقرب من ثماني زيجات، أنجب من خلالها الكثير من الأبناء الذين تناسلوا بدورهم ليصل عددهم بالمئات فأقاموا البيوت وشقوا الطرقات بمعاونة أبناء عمومتهم ممن يقطنون معهم لتصبح الجزيرة حقلا كبيرا تتنوع فيه الزراعات بين فاكهة وقصب ونخيل. الجزيرة التابعة إداريا لمركز نقادة بمحافظة قنا، لا يعلم عنها المسئولون شيئا، أما تعاقُب المحافظين ورؤساء الوحدة المحلية للمركز فلم يفلح في أن يحصي محافظا واحدا أو رئيسا للمدينة فكر في زيارة الجزيرة والتعرف علي هموم الناس ومشاكلهم فيها. الخيال وحده لا يكفي للتعرف علي جزيرة جبر التي تبدو من بعيد أشبه بقطعة ساحرة من مساحة خضراء ممتدة بعرض الأفق، علي الشاطئ الآخر يمكنك بسهولة رؤية الرمال البيضاء الناعمة علي حوافها وهي تلامس هدوء النيل، بينما يتعانق في خلفية المشهد جريد النخيل ليظلل بيوتا قصيرة زرع أصحابها أمامها "الورد البلدي" المكلل بندي يلمع إذا قررت الشمس أن تتعامد عليه. انتظار شخص يمكنه أن يحملني معه علي قاربه الصغير ويصل بي إلي الجزيرة كان الجزء الشاق في الرحلة، اتفق محمد محمد عبد الرحمن وسيد زرزور علي اتهامي بالكسل بعد أن قررت اللجوء إليهما ليصحباني إلي هناك بوصفهما العارفين بتفاصيل المكان ويمتلكان العديد من الصداقات فضلا عن صلة النسب التي تربطهما بسكان الجزيرة. لم تكن الساعة تجاوزت التاسعة صباحا ومع ذلك فقد أخبرني محمد أنه كان عليّ الاستيقاظ مبكرا لألحق بالمراكب العائدة التي قامت بتوصيل الأطفال للمدارس، ولأكثر من ساعة جلس ثلاثتنا علي أمل العثور علي أحد يمكنه القيام بالمهمة، حتي وجدنا طارق محمد جبر (طالب) يقترب بمركبه الصغير من الشاطئ، ابتسامة الشاب المرحبة جعلتنا نطمع في أن ينقذنا من الشمس التي أمطرتنا العرق، لم يتأخر طارق عن مساعدتنا، ليعود من جديد (ونحن معه) إلي الجزيرة ويصرّ علي أن يضيفنا ويقدم لنا الشاي الصعيدي المعتبر. طيبة الأهالي هي ما يمكنك أن تلمحه في البداية، العيون الملونة لأغلب الناس تشي لك بصلة قرابة تجمع بينهما، والوجوه الحزينة تخبرك بمعاناتهم قبل أن تنطق. في مندرة أحدهم استمتعت برطوبة المكان فسألت جاري علي الكنبة عثمان جابر محمد حول عملية تشييد البيوت وكيف تتم؟.. فحدثني عن محنتهم التي تتمثل في عدم وجود "عبّارة" أو حتي "لنش" يمكنه أن يساعدهم في نقل مواد البناء من: رمل، وأسمنت، وحديد، وطوب، إلي الجزيرة وهو ما يجعلهم يستخدمون قواربهم الصغيرة لهذا الغرض.. يؤكد عثمان أن "نَقلة" الرملة التي تكلف الشخص 70 جنيها، يدفعون للحصول عليها مبلغ 530 جنيها حتي تصل إلي هنا!.. ويصمت قليلا قبل أن ينفعل ويعلو صوته وهو يقول إذا أردت أن تبني بيتا صغيرا علي الجزيرة فهذا يكلفك علي الأقل 150 ألف جنيه، ويضيف: أما المشكلة التي لم نعثر لها علي حل فهي تتمثل في الكهرباء التي وصلتنا هنا في بداية الثمانينات ولم يحدث لأعمدتها أو أسلاكها أي تجديد، في الوقت الذي تنعم علينا فيه شبكة الكهرباء بنقادة إذا لجأنا إليها بالأعمدة التالفة والمحولات الكهنة. ويلتقط منه طرف الحديث أبو بكر جابر محمد حاصل علي ليسانس دراسات اسلامية وعربية - فيحكي عن حالات وفاة بسبب السلك المتهالك الذي لا يتحمل أن يقف عليه عصفور فيهوي علي الرؤوس ويصعق الناس. يتهم أبو بكر شبكة الكهرباء بنقادة والمسئولين في قنا بالإهمال والتقصير وعدم المسئولية تجاه مواطنين يواجهون قدر الموت كل لحظة.. يقطع حديثه بضحكة أشبه بالبكاء وهو يذكر حالات الغرق التي راح ضحيتها الكثير من سكان المنطقة في ظل تجاهل محافظة قنا التي لا تعلم عنهم شيئا، ويرفض المسئولون فيها زيارتهم بسبب وعورة المواصلات.. ولا يهمهم أطفال يستيقظون في الخامسة لكي يستطيعوا اللحاق بمدارسهم، وهم يعبرون الي الضفة الاخري من النهر بمفردهم وقد امتلأ القارب الواحد ب 20 طفلا وهو ما يجعل من حالات الغرق أمرا واردا كل يوم ! يقص عليّ ما فعله عمه عثمان جبر من تقديم العديد من الشكاوي بعد تعرض زراعة القصب للحريق من جراء وقوع السلك المتهالك عليها فلم يلتفت إليه أحد ويوصل: الشكوي لغير الله مذلة! ويكشف أبو بكر عن عرض لحسين سالم تلقاه سكان الجزيرة منذ سنوات لإقامة منتجع سياحي علي أرضها وكيف أن سالم أغراهم بمبلع 6 ملايين جنيه للفدان إذا وافقوا لكن الأهالي الذين رفضوا طلبه جعلوه يعود من حيث أتي، فأسرة جبر كما يقول أبو بكر مازالت تؤمن بأن من يفرط في أرضه يفرط في عرضه.. وأنهم إذا قبلوا بتمليك شبر لغريب في الجزيرة فإنهم بعد قليل لن يكون لهم مكان فيها لأنهم سيبيعونها قطعة قطعة ويهدرون أحلام الجد الذي أورثها لهم.. حكاية الجد: يحفظ أبو بكر تاريخ جده جبر يونس فيقول إنه تزوج بأكثر من امرأة.. ويحصي ما يقرب من 8 نساء أنجبن له من الذكور ما جعل سيرته خالدة من بعد رحيله ويضيف: كان له في كل بلد صاحب من خزام شرق النيل وحتي الأوسط قمولا في الغرب فتزوج من هنا وهناك، من تنجب له يجعلها تعيش معه، ومن لا تفعل يطلقها (!). جزيرة جبر التي يعيش عليها ما يقرب من 1500 نسمة تشكل منها عائلة جبر نسبة 70٪ بينما ينصهر معهم في الحياة أبناء عمومتهم.. وإذا كان بعض الأحفاد قد غادروا الجزيرة ليستقروا بالقرب من وظائفهم في "الأوسط قمولا" غرب النيل، أو في القاهرة بسبب التعليم فإنهم يصرون علي الاحتفاظ ببيوتهم علي الجزيرة ليعودوا إليها في الأعياد والمناسبات من خلال زيارات قصيرة تمكنهم من صلة الرحم.. ولا ينسي أبو بكر أن يقول لي بأنهم يقيمون العزاء لأي ميت لهم في ديوان العائلة الذي يقع في قرية "بشلاو" ويسمي ديوان "العمدة" حتي لا يتحمل من أراد مواساتهم مشقة الذهاب إلي الجزيرة. مشكلات الجزيرة يصطحبني عثمان لأتجول معه في الجزيرة وأشاهد كل شيء علي الطبيعة، نمر معا علي المزارعين وهم يحصدون القصب ويحملونه علي أكتافهم ليضعوه في شاحنة من المفترض أنها ستسافر به إلي مصنع السكر بقوص وهناك يتجمع حولي أصحاب المهنة وهم يشكون من القائمين علي إدارة المصنع. يقول أبو الحسن جبر إن الظلم هو ما يجده المزارعون من مصنع السكر الذي يشتري منهم الحمولة ب"التقنين" وليس الوزن.. وهو ما يجعلهم يخسرون الكثير من الثمن، في الوقت الذي تنتج فيه الجزيرة سنويا 250 فدانا من القصب ويعيش معظم سكانها علي ثمن المحصول، أما شحن القصب بتلك الطريقة البدائية فيجعلهم يخسرون أيضا نصف المحصول فالفدان في الجزيرة لا يصل منه الي المصنع إلا 30 طنا في الوقت الذي يصل فيه إنتاج الفدان غرب النيل الي 60 طنا لأن المحصول غير معرض للفقد. ويوصيني محمود فؤاد محمد مزارع - ألا أنسي مخاطبة أولي الأمر من خلال المجلة بالنظر إلي حالهم بعد أن أصيبوا بديون مثقلة ابتلاهم بها بنك التنمية والائتمان الزاراعي، فكلما أراد الواحد منهم اقتراض سلفة من البنك لا يستطيع أن يناقش المسئولين فيه عن الفائدة التي تصل إلي 18٪ ، ومن المستحيل سداد القرض في ظل تلك الوسيلة من الشحن التي تفقد المحصول النصف فضلا عن العمالة التي تكلفهم الكثير فالعامل الذي كان يتقاضي في الماضي ثمنا زهيدا يتقاضي الآن في اليوم الواحد 50 جنيها نظرا لغلاء المعيشة ويتساءل: كيف أستطيع الوفاء بديون البنك وأنا أصرف علي الفدان 500 جنيه ولا أجني منه ربحا سوي 200 جنيه. أترك العم محمود لأواصل رحلتي مع عثمان الذي يأخذني إلي النادي الذي قام الشباب بتأسيسه، فأجدني في ملعب لكرة القدم مقام علي مساحة واسعة، يفتقر إلي أي إمكانيات باستطاعتها أن تنهض به.. ألمح فيه صديقنا طارق الذي قام بتوصيلنا يلهو بمفرده بكرة يقذفها نحوي لأعيدها إليه وأشاركه اللعب، يحتضن طارق الكرة بيده وهو يحدثني كيف تبرعوا بفدان ونصف لإقامة النادي لكنهم لم يحظوا بأي اهتمام من مديرية الشباب والرياضة وأن طموحهم يقتصر علي كشافات إضاءة وشباك للمرمي وكرات! يلتفت إليه عثمان ويقول: تطلب من المسئولين أن يحملوا إلينا شباكا للمرمي وهم لم يلتفتوا إلي الأمراض التي تصيب البشر بإقامة وحدة صحية أو مشروع للصرف الصحي.. أو حتي مدرسة فصل واحد ترحم صغارنا من الغرق. هل تصدق (يواجه كلامه إليّ) أن المسئولين يعتبرون جزيرة جبر محمية طبيعية.. هل يعقل هذا الكلام.. والجزيرة لا يوجد فيها طيور مهاجرة أو حيوانات منقرضة أو شيء نادر؟ إنني أتحدي أي مسئول في المركز أو المحافظة يعرف شيئا عن جزيرة جبر أو سبق له القيام بزيارتها. عاد طارق إلي اللعب بكرته بعد أن انضم إليه أصدقاؤه لنخطو بعيدا عنه وعثمان يقترب من محول الكهرباء الذي كتب علي بابه المخلوع بجانبه كلمة خطر، بينما الأسلاك العارية تتأهب لصعق القادمين إليها. وبعد أن يلقي جابر عمر جبر علينا السلام يبدأ في الحديث عن حالات السرقة التي انتشرت في الجزيرة التي لا يوجد بها عسكري أمن واحد يردع اللصوص.