ميدان رمسيس من أسوأ الميادين بالقاهرة فقدت القاهرة التاريخية هويتها العمرانية من جراء أعمال التشويه والتغيير التي طالت معالمها ومبانيها وميادينها العامة مما أدي إلي هجرة ساكنيها الأصليين وهروبهم منها إلي مدن أكثر حداثة ورحابة. والميادين العامة في المدن القديمة تتكون من عناصر تعطيها شكلها الخاص وتخلق طابعها المميز إلي جانب الإنسان بحركته ونشاطه داخل هذه الميادين حيث يشكل عنصرا هاما من عناصر مكوناتها وأن أي تغييرات أو تدخلات قد تؤثر علي مشاعره وتصرفاته، فقد يثير الميدان في نفسه أحاسيس الوحدة والضيق أو الشعور بالسجن والعزلة. ومن أجل الحفاظ علي الطابع المعماري والعمراني التاريخي لميادين القاهرة وإبراز قيمه وجمالياته والاستخدام الأمثل للمعالم والمواقع والمباني التاريخية وعودتها لممارسة وظيفتها الأصلية أو العصرية.. جاء توقيع اتفاقية التعاون بين برنامج الأممالمتحدة للمستوطنات البشرية (الهابيتات) والجهاز القومي للتنسيق الحضاري للارتقاء بهذه الميادين بما يعكس الدور الحضاري الذي لعبته في التاريخ الحديث. إلي جانب إيجاد آلية محددة ومدروسة لإيقاف أي تخريب أو تشويه أو تغيير محتمل قد يؤثر علي حالتها والمباني التاريخية بها بالإضافة لتحديد إطار عام لأي تدخلات أو خطط تطوير موجهة لحماية هذه الميادين العامة بصفتها كائنات حية. وعن كيفية تنفيذ هذه الاتفاقية بين جهاز التنسيق والهابيتات من وجهة نظر المهتمين والمختصين في هذا الشأن كان هذا التحقيق. المدن ليست حجارة وأسمنت ولكنها ناس وجو وثقافة وتاريخ وحضارة، فهي كائنات حية تعيش وتموت.. كما يري الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية مضيفا أن المشكلة عندنا أن المسئولين عن المدن، إما الشرطة فيتم التعامل معها بالمنطق الأمني وهو المهيمن والمتحكم، أو المحافظون أو مايسمي بالأحياء ومن هنا تأتي الفوضي والقبح مما أدي إلي أن المدن هذه الكائنات الحية للأسف الشديد تم قتلها! والخطاب الشائع وراء ماحدث هو زيادة عدد السكان أو قلة الموارد الاقتصادية.. لكن من يقرأ تاريخ المدن يكتشف أنها تزدهر بساكنيها وبنشاطهم في الحياة حيث لا ينظر إليهم علي أنهم عبء أو عالة، فهؤلاء الناس هم العنصر الذي يجب أن نتباهي به لكن المسئولين عندنا لايحترمون سكان المدن. ومن أجل القضاء علي هذه المشكلة لابد أن يجلس المخططون والمعماريون والفنانون والفلاسفة والشعراء وغيرهم لكي يضعوا تصوراتهم لكيفية الحل.. ويؤكد الدكتور فهمي أن مشكلة القاهرة التاريخية وميادينها إدارية بالدرجة الأولي بمعني أن الأجهزة التي تديرها غير منتخبة وقانون المحليات فاشل والسكان لايلعبون أي دور في إدارتها التي يتولاها إما رؤساء الاحياء أو المحافظ والذي يديرها يجب أن يكون مسئولا أمام ساكنيها. وقد عشت في نيويورك لمدة 12 سنة وهناك دائما انتخابات من أول حاكم الولاية إلي رئيس مجلس المدينة نزولا إلي كل عمارة فيها مجلس إدارة أعضاؤه من السكان يضعون فيه كل تصوراتهم لدرجة أنه بعد الساعة الثامنة مساء سكان العمارة التي أقطن بها لا يلبسون الأحذية حتي لا تحدث صوتا! من علامات حيوية المدينة فكرة التلاقي بين الغرباء من الناس التي لانجدها في القرية، والمصريون شعب بشوش ولطيف وخفيف الظل ومسالم وقد رأينا ذلك في ميدان التحرير كما يقول الدكتور فهمي موضحا أن تصميم المدن والميادين عندنا معمول بشكل يمنع هذا التلاقي لأسباب سياسية وأمنية منها أن التلاقي قد يحدث من ورائه تظاهرات لذلك الشوارع ليس بها دكك أو أشجار أو حدائق ولن ندرك مدي خسارتنا من غياب هذا البعد الإنساني. ففي نيويورك الحدائق تفتح من 10 صباحا حتي 10 مساء، فنجد الناس تتجمع بها لقراءة الكتب أو عزف الجيتار أو إقامة حفلات ترويحية أو للحب أو للقاء بعضهم البعض بعيدا عن المكاتب لتناول سندوتش ومشروب (أكلنا لقمة) وأثناء تلك الأحداث تجد من يجر كلاما مع الآخر الذي لايعرفه وفي رأي الدكتور فهمي أن ذلك حاجة ساحرة، فأنا كمواطن في المدينة يحدثني أحدهم في موضوع عام ونتبادل الرأي، وها هو صلب الحياة في المدينة الذي يسمح لهذا التلاقي أن يحدث بل أن ذلك من سمات المجتمعات المفتوحة. فإن فكرة الكلام والأخذ والعطاء حتي الفرجة جزء من مشاركتنا لبعض في الحيز العمراني الذي نعيش فيه وهو المدينة. ويطالب الدكتور فهمي بأن ننبه بعضنا بما نفتقده في المدن وبضرورة خلق حيز أو مساحة لإمكانية تحقيق ذلك كما يدعو إلي أن تصبح مدننا خاصة بنا (أي بتاعتنا) وعند إعادة صياغة هذه الميادين التركيز لايجب أن يقتصر علي القيم الجمالية دون القيم الإنسانية فمن علامات التحضر زراعة الأشجار التي يستظل الناس تحتها من أجل التلاقي في الصيف الحار بعيدا عن المولات المكيفة التي يرتادها طبقة معينة من الشعب. وهذا الإنجاز لو تم في ميادين القاهرة خاصة التحرير الذي كان طول عمره ميدان الناس والشعب والسلطة عمرها ماعرفت تسيطر عليه سوي بالقمع لكنه في الثلاثين عاما الماضية تحول لميدان لتلاقي السيارات وإقامة الحواجز والأسوار العالية والقاسية وغير الآدمية والعدوانية والتي أقيمت بحجة عزل الناس والمشاة عن السيارات إلي جانب بلاط الأرصفة الذي يزحلق من يمشي عليه مما يضطرهم في أحيان كثيرة إلي النزول لنهر الطريق، كما أن النخيل الطبيعي لايعطي ظلا ولابد من زراعة نباتات مزهرة ويضعون دككاً عديدة للجلوس. لكن الدكتور فهمي يعترض علي إقامة نصب تذكاري لشهداء 25 يناير بميدان التحرير لأن من ضحي بحياته لايحتاج إلي عمود يذكر بذلك فمن أجل خلق مفهوم جديد للمدينة نحتاج إلي تغيير في العقلية من أجل أن يشعر سكانها أن هذه المدينة بتاعتهم وليست مستهجنة أو تشعر بالعدواة، فهم يريدون أن يتفسحوا في ميادينها وحدائقها دون أن يلاحقهم أحد أمنيا وأن تكون هذه الأماكن مفتوحة لاتخضع لرقابة مالية أو أمنية أو دينية فهي ليست مولات أو سجون أو جوامع! ويعترض الدكتور رضا حجاج أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة علي هذه الالتفافية موضحا أن لكل ميدان وظيفة ترتبط به وتساعد علي حل مشاكل المرور لكن نظرا لأن المدن عندنا لم تخطط بطريقة سليمة وكذلك ميادينها مما ينتج عن ذلك أن كل الأمور تتم بعشوائية.. إذن ما الفائدة من تطوير الميادين، فهذا قمة إهدار المال العام وهناك ميادين عديدة تم تطويرها مثل الرماية ورمسيس والجيزة وصرف عليها ملايين الجنيهات لكن رجعت لحالة البوظان والعك التي كانت عليها. والقضية المطروحة هي لماذا وكيف؟ كما يري الدكتور حجاج مضيفا أن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري وظيفته أكبر بكثير من النواحي الجمالية وكان من باب أولي أن ندعم شرطة المرور لحل مشكلة هذه الميادين. فأنا عملت مع برامج الأممالمتحدة لمدة عشر سنوات وأعلم أن ميزانية الهابيتات في مصر لاتزيد عن 800 ألف دولار في السنة والحكومة هي التي تدفع باقي تكلفة هذه المشروعات، أما الهابيتات فتدفع مبالغ كبيرة لخبرائها ذوي الكفاءة المتواضعة ولإقامتهم دورات التدريب للمصريين في فنادق الخمس نجوم. في حين أن بلادا مثل الصين والهند والبرازيل وأندونيسيا طردوا صندوق البنك الدولي وبرنامج الأممالمتحدة من مشاريعهم، إذن لابد من تغيير النظام والقواعد التي نمشي عليها وليس مبارك! كما يوضح الدكتور حجاج أن أي ميدان له 3 وظائف هي الربط من شارع لآخر وعند عبور أي تقاطع فيه لابد أن يكون ذلك في أمان وبمنتهي الراحة، لكن طبيعة المجتمع المصري غير ملتزم بقواعد المرور لأنه لم يأخذ أحد رأيه في كيف ينظم الميدان.. والحل يتمثل في تحويل كل الشوارع في القاهرة في اتجاه واحد علي أن توضع مخالب في الأرضيات لضمان سير السيارات في الاتجاه الصحيح. وبناء عليه إذا دخلت علي الميدان يكون اتجاها واحدا (دوار ذا حركة حرة) وهذا سيؤدي إلي سيولة المرور، ولتحقيق الأمان عند عبور المشاة بدلا من وضع حواجز حديدية تمنعهم من ذلك، فمن الأفضل عمل سياج شجري من نبات الجهنمية يمكن للمواطنين أن يعبروا إما بعده أو قبله وهذه ناحية تجميلية بسيطة. وعند وضع الحلول لهذه الميادين يجب أن تكون متكاملة من ناحية التخطيط والتصميم الهندسي لكن مايحدث أننا نرمي تصميمات دون تخطيط يحدد ماذا يريد المجتمع منها.. ويرجع الدكتور حجاج افتقادنا للحسن الجمالي في الميادين إلي المحليات وجهاز التنسيق الحضاري لأنهما لايعرفان ماهي قيم الجمال التي تتمثل في البساطة مما يعكس هويتنا وقيمنا. كما يعدد لنا الدكتور حجاج وظائف أي ميدان وعلي رأسها وظيفة ثقافية من خلال خلق مناخ اقتصادي فيه مثل سور الأزبكية لبيع الكتب والصحف وغيرها مما يؤدي لتحسين البيئة وخلق مجال ثقافي. إلي جانب وظيفة سياسية بعد قيام ثورة 25 يناير وجدنا ميدان العباسية علي خلاف مع ميدان التحرير ولابد من توظيف الجموع التي تحتشد في الميادين لمعرفة كيف تعتصم بدون تعطيل المرور وبذلك تعبر عن آرائها السياسية، كما أن هناك وظيفة اجتماعية.. فأسهل حاجة لمقابلتك إذا كنت تعمل في شارع قصر العيني هي ميدان التحرير عند ناصيته وهناك من يتفسح ويلف فيه. بالإضافة إلي وجود وظيفة تاريخية له فمثلا يوم الجمعة تذهب الأسرة إلي المتحف المصري للزيارة وهو سهل الوصول إليه، إلي جانب وظيفة عمرانية فهو يسهل حركة الناس العابرة عند التقاطعات كما توجد به مقاه حتي لايتعب سكان الشوارع الضيقة من وجود الكافيهات بها، علاوة علي وجود وظيفة مناخية بيئية للميادين فهي تعمل علي حركة الهواء في الشوارع المحيطة بها حيث تزودها بالتعرض لحرارة الشمس أو الهواء المنعش. ولابد لجهاز التنسيق الحضاري أن يعمل أشياء في الميادين أفكارها جديدة ورائعة ولاتكلف شيئا وبأسلوب بسيط وسهل فبدلا من الأسفلت الأسود وهو لون حزين يستخدم ألوانا أخري وهناك دهانات فسفورية مضيئة تمتص أشعة الشمس ثم تعكسها بعد الغروب كما أن هناك رشاشات لري الحدائق الوسطي بدلا من الخراطيم التي تتهالك سريعا وغيرها. كل ما سبق الإشارة إليه من جانب الدكتور حجاج متوقع أن يصدر به أكواد ونماذج تكون موفرة وصديقة للمستخدم أو المستفيد منها.. فهناك عدد من الأدوار لجهاز التنسيق هي التنظيم والرقابة وإتاحة المعلومات وزيادة الوعي والتشريع.. وكما يقول الدكتور حجاج لايصح أن يأخذ الجهاز مشروعا وينفذه بنفسه من أجل أن يكسب مائة ألف جنيه، فهو بهذا التصرف يصغر نفسه! وتقول الدكتورة سهير حواس أستاذة العمارة ونائب رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري إن كل شغلنا في الفراغ العام وأحد عناصره هو الميدان وهو مكان له حوائط هي واجهات المباني ووظيفته، أما حركة المشاة أو السيارات وتوجد به عناصر تجميلية أو عمل فني أو تمثال.. فالميدان جزء من تخطيط المدينة التي ندخلها من أجل إجراء أعمال تنسيق حضاري بها ونحاول إعادته لأصوله التخطيطية إذا حدثت له تشوهات أو طرأت عليه تغييرات من أجل إعادة الاحترام لواجهات المباني التي تشبه وجوه البشر وذلك بإزالة كل أسباب القبح والتشويه منها. وتلفت النظر الدكتورة حواس إلي أنه بناء علي دراسة تاريخ الميدان يتم إعادته لأصوله من خلال بعض الإضافات للعناصر التي تهالكت به مثل أعمدة الإنارة وميدان التحرير لايصح أن نضع فيه نصبا تذكاريا أو تمثالا للشهداء بارتفاع تمثال الحرية حتي نحافظ علي الطابع المعماري والعمراني القائم في الميدان حيث إنه محفور في ذاكرة التاريخ. وتوضح الدكتورة حواس أن محافظة القاهرة هي صاحبة هذه الميادين وهي التي تسند المشروعات إلي الشركات المنفذة وأن الهابيتات عندما توقع اتفاقية تعاون مشترك بينها وبين الجهاز فهذا نوع من إعلاء قيمة وأهمية الأماكن التي نتعامل معها لترقي إلي المعايير الدولية مما يجعل مستوي عملنا وأكوادنا ترتبط بهذه المعايير ومنها كود الطرق وكود والأرصفة وكود الإعلانات وكود المناطق الأثرية، أما الجمال بمفهوم التنسيق الحضاري الذي ننشده يجب أن يلتزم بالمعايير الخاصة بكل عنصر لكي يؤدي وظيفته بكفاءة عالية وجمال ملموس وبذلك نطرح نموذجا جيدا يحتذي به في باق المدن.. فالقاهرة في الثلاثينات كانت من أجمل عشر مدن علي مستوي العالم. وتؤكد الدكتورة حواس أن الهابيتات تقدم الدعم الفني والمالي للمشروعات المطروحة ولكنها لاتنفذها وخبراء الجهاز مع خبرائهم يجلسون سويا لدراسة الخطوات التي يجب أن تعمل طبقا لطبيعة هذه المشروعات. ونحن نشرف علي الشركات المنفذة للمشروعات وعند إدخال أي تعديلات علي الرسومات التي فازت في المسابقات التي وضعنا كراسة الاشتراطات المرجعية لها.. نتدخل من جانبنا بكتابة التقارير والتوجيه ولفت الانتباه بكل الوسائل النابعة من القانون ولكننا لانملك وقفها لأنه ليس لنا صفة الضبطية القضائية!