الصدف ليس لها محل من الإعراب ولامكان لها في ساحة السياسة ومايتكرر حدوثه لابد أن تبحث عن أسبابه أولا ثم عن أطرافه لتدرك أهدافهم ومراميهم ، في أكتوبر 73 تحققت معجزة بكل المقاييس عندما انتفض المصريون وعقدوا العزم علي إزالة مرارة هزيمة 67 التي أطلقنا عليها تدليلا وتخفيفا من وقعها علينا بالنكسة وفرح الشعب كما لم يفرح من قبل لاسترداد الكرامة التي ضاعت ومعها أرواح الآلاف من الشهداء وتدمير سمعة وقدرات الجيش المصري وضاعت معها أرض سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس ، وفي ثورة 25 يناير استرد المصريون مرة ثانية كرامتهم وحريتهم وأطاحوا برأس نظام جثم علي صدورهم طويلا وذاقوا في ظله ألوانا شتي من القهر والقمع والاستبداد وعانوا من الفقر والجهل والأمراض وتبوأنا مكانة متقدمة في قائمة الدول الأكثر تخلفا!! في الحالتين كانت الفرحة هي السمة المشتركة لكنها لم تدم طويلا فبعد أن فرحنا بلحظات وأيام العبور واستمرار الزحف لاستعادة سيناء ظهرت أمريكا في الصورة عبر الجسر الجوي لأحدث مافي ترسانتها الحربية ومنها ما لم يدخل الخدمة بعد لإنقاذ ربيبتها إسرائيل من السقوط وكانت الثغرة ثم القبول بوقف إطلاق النار لأن السادات وجد أنه لايحارب إسرائيل وحدها ، ومضت الشهور والسنوات حتي كانت اتفاقية كامب ديفيد ثم معاهدة السلام عام 79 التي غيرت موازين المنطقة وأحاطت بمصر وقيدت سيادتها علي أرضها المحررة حتي لاتفكر مرة أخري في القيام بأي عمل عسكري ضد تل أبيب كما أبعدت عن دورها في المنطقة وصولا لتحولها في أيام مبارك إلي كنز استراتيجي للدولة العبرية باعتراف قادتها بعد سقوطه وبعبارة موجزة كانت المساعدات مقابل رعاية وخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة وتحولت إلي طوق يحيط بالقرارالمصري لم نستطع التخلص منه طوال العقود الثلاثة الماضية ثم زادت حزمة القيود تعقيدا عبر مؤسسات التمويل الدولية التي فرضت شروطها وإملاءاتها فتم تخريب الاقتصاد وتحول الإنتاج المحلي إلي نوع من الترف والاستيراد من ضرورات الحياة التي لايستطيع المصريون الاستغناء عنها وتم تدمير القطاع العام ودارت موجات الخصخصة لتبتلع كبري الشركات والمصانع وظهور طبقة من رجال الأعمال التي تتدثر بعباءة جيل المستقبل لتبتلع مساحات ضخمة من الأراضي لتحويلها لمنتجعات سياحية وأنشطة ترفيهية وبلغ الفساد قمما لم يصل إليها من قبل في تاريخ مصر الحديث والقديم!! كان لابد أن يتحرك الشعب لإنقاذ بلده من مصير أكثر إظلاما علي يد الوريث المنتظر الذي كان سيحول مصر لمنتجع كبير ومركز تجاري عالمي لفريقه من المستثمرين الطفيليين علي حساب الكادحين والفقراء ، جاءت فورة وانتفاضة الشباب التي تبعتها مساندة باقي الشعب لتتحول لثورة امتدت لكل أرجاء مصر وكنهاية لعصر من الفساد والقمع والاستبداد وانتصارا للشعب علي جلاديه ليسترد المصريون كرامتهم وعزتهم وحريتهم كما حدث في نصر أكتوبر مع فارق أن العدو في الحالة الأولي كان من الخارج أما الثانية فكان في الداخل وتحالف مع العدو السابق الذي لم ولن يتحول لصديق في يوم من الأيام. والسلام البارد رغم الاتفاقيات والمعاهدات شاهد علي ذلك إضافة لممارسات ذلك العدو الذي أثبتت الأيام والشواهد أن الذئب لايمكن أن يتحول يوما لحمل وديع !! ومثل أرتال الدبابات والأسلحة الثقيلة التي نقلت عبر الجسر الجوي الأمريكي في حرب 73 تكرر السيناريو الأمريكي والغربي ولكن عبر القوة الناعمة بالتسلل لمنظمات المجتمع المدني المصرية والصحف والفضائيات وضخ مليار جنيه للإجهاز علي الثورة ومحو البسمة من علي وجوه المصريين فرحا بالثورة ، لاأفهم كيف يكون هناك أكثر من 37 منظمة أمريكية تعمل في الخفاء ودون تصريح علي الأرض المصرية وأيضا كيف تنتقل مئات الملايين لهذه الجمعيات من وراء ظهر السلطات الرسمية ؟! ثم ماهو المطلوب في مقابل هذه الأموال ؟ هل دعم الديمقراطية والدفاع عن الحريات يكون عبر ممارسة نشاط في الخفاء وأموال تضخ بسرية تامة؟!! ثم هل تتقمص السفيرة الأمريكية شخصية المندوب السامي البريطاني في عهد الملكية في مصر فتدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة في البلاد وتتجول في اللجان الانتخابية وتطلب المشاركة في التحقيقات حول التمويل الأجنبي للجمعيات رغم أن القضية لاتضم أمريكيين ؟ ولماذا هذه القلعة الضخمة للسفارة في قلب القاهرة التي تضم 7 آلاف موظف ودبلوماسي وكأن مصر أمم متحدة مصغرة ؟! ولنا أن نتساءل هل يجيز القانون الأمريكي قبول أي تبرعات أو مساعدات خارجية دون المرور بالقنوات القانونية والشرعية ؟ هل تريد أمريكا ديمقراطية كالتي نشرتها في العراق أو أفغانستان عبر حمامات الدم؟ ولماذا تحولت إسرائيل لدي ساستها إلي مايشبه الدين هم بالليل ومذلة بالنهار؟ ومن يتابع الحملة التمهيدية في الانتخابات الأمريكية يري سوقا مفتوحة للمرشحين للمزايدة علي كسب ود الدولة العبرية التي أصبحت الباب الملكي للوصول لكرسي الرئاسة ، أمريكا لاتري الأمور إلا من زاوية واحدة هي مصالحها، ولابد أن تمضي التحقيقات في التمويل المشبوه لمنظمات المجتمع المدني للنهاية ليعرف الشعب من حصلوا علي هذه الأموال وفي أي طريق أنفقت ، لكن الأهم أن نعيد صياغة العلاقة مع واشنطن وأن ننفتح علي العالم ونقيم علاقات متوازنة مع الجميع والتخلص من قيود هذه المساعدات وإخلالها بالسيادة والكرامة الوطنية وخدمتها فقط للمصالح الأمريكية وأمن إسرائيل وأن نعتمد علي مواردنا وقدراتنا الذاتية فهي السبيل الوحيد لاستعادة مصر الحرة كلمة أخيرة قال لقمان لابنه : يابني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك!