الخراب والدمار داخل مبنى المجمع في شارع قصر العيني أحد شوارع ميدان التحرير.. كان هناك مبني أثري يضم بداخله خبيئة من الكتب والدوريات والخرائط التي لايعرف قيمتها التاريخية وندرتها الأممية إلا عدد محدود من المصريين والكثير من الأجانب.. ومنذ أيام قام مجموعة من البلطجية المأجورين مع سبق الإصرار والترصد بإشعال الحرائق في هذا المبني، فاختلط دخان الكتب المحترقة بتراب الأسقف المنهارة، بعد أن منعوا سيارات الإطفاء من الوصول إليه لإنقاذ ما يمكنا إنقاذه من هذا الكنز الذي لايمكن تعويضه المدفون في هذا المبني المعلوم العنوان والمجهول الهوية. ذلك المجمع العلمي الذي يعد من أقدم المجامع العلمية في العالم. وقد بكي المصريون علي احتراقه لإحساسهم بأنهم فقدوا جزءا من تراثهم الإنساني وكان هذا الحزن مضاعفا لضياع مبني أثري لايجود الزمن بمثله.. ولم يبق أمامهم إلا انتظار ماسوف تسفر عنه التحقيقات لمعرفة الجاني.. أما المبني الأثري فقد تسلمته أيد قوية من أجل ترميمه وإعادته لأصله، في حين أن الكنز الذي تم نقله إلي دار الكتب والوثائق.. فيحتاج إلي الكثير من الجهد والعرق والمال علي مدي سنوات طويلة لاستعادة البعض منه وليس الكل. ومابين تحديد خسائرنا من الكنز وإمكانية استعادة جزء منه والوقوف علي أحوال المبني بعد انهيار أسقفه وتكلفة إعادته إلي أصله.. كان هذا التحقيق. كل ورقة وليس كتابا احترقت في المجمع، ألهبت جسمي ووجداني وتفكيري.. لاتتصورين أن أقول لك إن كتاب وصف مصر حرقني أكثر من غيره.. لأ.. أي واحد مثقف ويقتني هذه المجموعة التاريخية من الكتب والمراجع والدوريات، عندما يفقد ورقة واحدة منها تعد كارثة بالنسبة له، فإن كسر ورقة قديمة في كتاب منها كنا لانسمح به، لذلك لانفتح كتابا من أجل تصويره يرجع تاريخه إلي ما قبل 0591.. هكذا قال الدكتور محمد الشرنوني الأمين العام للمجمع العلمي المصري بصوت شجي يكاد لايسمع من الحزن، مضيفا أن جزءا كبيرا من موازنة المجمع كان يذهب لتجليد هذه الكتب، كما كنا نبخر المجمع كل عدة سنوات ويغلق بعدها لمدة أسبوع وكان يقوم بهذه العملية أساتذة من جامعة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية حتي تموت البكتريا ولايحدث تلف عضوي لها. ويأمل الدكتور الشرنوبي أن يعثروا تحت الانقاض علي كتاب لا أحد يعرفه يرجع تاريخه لعام 5371، كان موجودا علي مكتبه ويعمل فيه وهو كتاب للقنصل الفرنسي في القاهرة عن وصف مصر في ذلك الوقت.. وهو بالطبع غير كتاب الحملة الفرنسية وربما استلهمت منه عمل موسوعة وصف مصر. وهذا الكتاب لايقدر بمال وربما لاتوجد نسخة منه عند أحد وقد قدمت عرضا له في كل من الموسم الثقافي الحالي والماضي ولكن لم يسعفني الوقت لاستكماله فقد قطعت مرحلة 06٪ منه وانتظر بين كل يوم وليلة أن آراه مرة أخري.. بينما موسوعة وصف مصر هناك 01 أو 21 نسخة منها متناثرة بين دار الكتب وهيئة المساحة وغيرهما. وبأسي يقول الدكتور الشرنوبي صعب جدا تقدير الخسائر لأنه لايزال تحت الانقاض الكثير من الكتب والخرائط، وقد رفعنا ما حمولته حوالي 22 سيارة نصف نقل مابين تالف ونصف محترق أو مبلل بالماء وصالح ولكن للأسف الصالح هو النسبة الأقل منها. ومايجعل حصر الخسائر من الصعوبة في الوقت الحالي أن أسقف مبني المجمع قد تداعت وسقطت فوق بعضها البعض، كما أن مياه المطافي من الأمور المؤذية بالنسبة للأوراق فقد تمزقت وتطايرت في الهواء وأصبحت مهترئة. ولانزال نقف مع رجال المقاولون العرب في انتظار مايخرج من تحت الأنقاض. إما دار الكتب والوثائق.. فالمسئولون فيها قاموا بدور كبير لأن أيدهم بأيدنا وواقع عليهم حمل ثقيل في توفير السيارات لتأمين الكتب حتي وصلوها إلي الدار علي الكورنيش حيث ستبقي لديهم وفي حمايتهم ويرجع إليهم الفضل في رفع نسبة الكتب الصالحة عن طريق اتخاذ الإجراءات الوقائية التي تجعلها تصلح للترميم. فإذا كان الكتاب مقفولا تحرق أطرافه فقط ويبقي النص سليما. بينما مكتبة الإسكندرية وفرت لنا مكانا في أحد المنازل المملوكية القديمة (بيت السناري)، في حين أن هيئة الآثار اعطتنا بعض القاعات حتي نضع فيها بعض المقتنيات أو الهبات أو الهدايا التي وردت لنا من الخارج ولانجد لها مكانا. وأيضا الجمعية الجغرافية خصصت لنا غرفتين لمتابعة وملاحقة الأحداث في مبني المجمع عن كثب. ويؤكد الدكتور الشرنوبي أن هناك حديثا جري بين رئيس المجمع الحالي الدكتور بدران والقائد الأعلي للقوات المسلحة المشير طنطاوي أن كل ما يحتاجه الأمر لإعادة المبني إلي سابق حالته، سوف يعمل علي نفقة القوات المسلحة. ويقر الدكتور الشرنوبي أي قرش يدفع من أموال المصريين هو خسارة صحيح، لكن ليس من السهولة أن نتنازل عن هذا التراث القومي والمبني التاريخي.. داعيا، أن يعود المبني إلي سابق شموخه والأمل في الله كبير.. مضيفا كتر خير الدولة واستعداد المحبين لمصر من أمثال الشيخ القاسمي الذي أبدي استعداده لتزويد المجمع بالكثير من المقتنيات الخاصة به حيث أنه من المحبين لمصر وله أياد بيضاء علي العديد من الجهات الثقافية منها مكتبة جامعة القاهرة ودار الوثائق والجمعية التاريخية. وهناك مؤسستا أخبار اليوم والأهرام اللتان تبرعتا بكمية من الأوراق الخالية لدار الوثائق لأنها سوف تحتاج لأشياء من هذا النوع لاتمام عملية ترميم وإعادة بناء الكتب الممزقة، كما أن هناك جهات أجنبية (مثل المكتبة الوطنية بباريس وهيئة اليونسكو) ابدوا استعدادا كاملا أن يمدونا بالخبرة المناسبة لإعادة المبني لسابق عهده. وقد وضعنا نحن خطة لاستعادة الكثير من الدوريات العلمية التي تلفت حيث كنا نحتفط بكل أعدادها وهي صادرة في انجلترا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا والنمسا.. فالمجمع العلمي في تركيبته ينقسم إلي 4 أكاديميات هي الأكاديمية البيولوجية والعلوم الطبية والأكاديمية الخاصة بالآداب والفنون والأكاديمية الهندسية والدراسات التطبيقية والأكاديمية الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية. والاكاديمية ماهي إلا مجموعة اهتمامات علمية.. كما يشرح الدكتور الشرنوبي مضيا أن هناك جهات تكتب وباحثين ينقلون المعرفة في دوريات كان لدينا الأعداد الأولي للكثير منها، كما كان لدينا كتب فريدة ونادرة ولايوجد منها طبعات مماثلة، فمثلا كان لدينا دورية صدرت في 5181 وتوقفت عن الصدور في 0891، فمن نراسله لكي يبعث لنا بنسخة منها؟! فالاحتفاظ بها في المجمع كان بمثابة ثروة لايمكن الاستغناء عنها، لكن الخسارة في الحياة واردة.. فإذا كانت مصيبة قد حلت علي مبني بهذا القدر من الأهمية، فالناس الأوفياء سوف يخففون كثرا من حجم الخسارة. وما كان لدينا من الخرائط تاريخي وقد لانجده في مكان آخر.. كما يري الدكتور الشرنوبي موضحا أنها خرائط المجموعة الكمالية (السلطان حسين كمال) ومجموعة خرائط العالم الكبير لبسوس ومجموعة الخرائط واللوحات النادرة لموسوعة وصف مصر بالإضافة لخرائط لكل دول العالم رسمت ونشرت في القرن قبل الماضي علاوة علي خرائط عبارة عن مجموعات لجهة معينة مثل مصلحة المساحة الجيولوجية الأمريكية كانت تأتي إلينا ضمن الدوريات، وبدون مبالغة كما يقول الدكتور الشرنوبي كانت لدينا خرائط لكل بلدان العالم! وكانت محفوظة في غرفة خاصة بها نظرا لندرتها، فهي تستحق أن تعزل عن باقي الكتب نظرا لأسلوب التعامل معها. فالخريطة تسجل حالة الظاهرة سواء كانت جغرافية أو نباتية أو غيرها وهي عبارة عن مستند يمكن الرجوع إليه، وقد تكون خيرا كما حدث لنا في أزمة طابا مع إسرائيل. إذن الخرائط هي وثائق للحصول علي حقنا ولها قيمة كبيرة قد لا تكون معروفة ولكنها تظهر في الأزمات، إذن حمايتها وصيانتها والإشراف عليها من جانب هيئة علماء المجمع (051 عضوا به) هو حب غريزي بداخلهم أن يكونوا رعاة لهذه الأعمال الإنسانية وهذا هو الشرف الحقيقي لأن هؤلاء العلماء يعملون في صمت ودون ضجيج إعلامي وهم لايحصلون علي أي مبالغ أو أجور نظير هذه العضوية ولكنهم يكفيهم شرفا أن ينتسبوا إليه وهناك أشخاص يتمنون أن يحصلوا علي عضويته ويذكر في سيرتهم الذاتية هذا الانتساب، فميزانية المجمع كانت إعانة من وزارتي التضامن والثقافة.. وهذا وضع لايساعد علي رعاية العلم والمعرفة كما ينبغي، فالمعرفة عند العالم هدف في حد ذاتها ويحاول الوصول إليها بكل الوسائل ومنها المعين الموجود بداخل هذه الكتب والمراجع والخرائط. 3 مهندسين و6 مشرفين وأكثر من 052 عاملا و21 سيارة نقل كبيرة وونش.. هم كتيبة المقاولون العرب التي قامت بإزالة الأنقاض من داخل مبني المجمع العلمي المحترق، إيذانا ببدء العمل في ترميمه وإعادته للحياة مرة ثانية.. كما يقول المهندس هشام نجا مدير إدارة صيانة القصور والآثار بشركة المقاولون العرب والتي كلفت من جانب إدارة المهندسين العسكريين بالقوات المسلحة، لتولي المهمة الصعبة كما حدث في مجلس الشوري من قبل وإعادته لأصله في عام 8002، مضيفا أنه خلال يومين (بعد طبع المجلة) سيصدر تقرير بخطة العمل به في الفترة القادمة. ويصف المهندس نجا حالة مبني المجمع بعد أن تسلموه بأن الأسقف انهارت علي لأرضيات نتيجة تأثرها بالحريق والكتب كانت تحتها في حالة يرثي لها.. كما أن الحائط المطل علي ناحية قصر العيني، كنا قد فككنا حوالي ثلاثة أرباعه حتي ننزل به إلي مستوي سقف الدور الأرضي نظرا لحدوث تقوس وشروخ به ولكن درجة الحرارة العالية أدت إلي تقوس كمر الحديد والصاج التي كانت تدعم هذا السقف مما أدي لهبوط وشد الحيطان الجانبية وحدوث اهتزاز فيها.. وقد إجرينا اختبارات وفحوصات علي جميع الحوائط لمعرفة تأثير الحرارة عليها .. وننتظر تقريرا من إدارة المعامل بالمقاولين العرب ومعامل كلية هندسة عين شمس والاستشاري الخاص الذي كلفناه من جانبنا. ويؤكد المهندس نجا أن إدارة المهندسين العسكريين بالقوات المسلحة هي التي كلفتنا بترميم المجمع وإصلاحه وستدفع تكلفة ذلك بعد أن رفض المشير طنطاوي أي مساعدة مالية من الخارج. وفي الأيام الأخيرة من رفع الانقاض من داخل المبني.. أنقذنا ألفي كتاب (نصفها سليم والنصف الآخر محترق). ومبني المجمع .. كما يشير المهندس نجا يعود تاريخه إلي عام 0081 وهو مسجل أثراً عام 2991 وحدث به تدعيم لأسقفه قبل توثيقه، فقد أضيف لبراطين الخشب كمر من الحديد والصاج وخرسانة خفيفة وهي التي شدت الحوائط بعد تقوسها نتيجة الحرارة الشديدة الناجمة عن الحريق. ومن المتوقع أن يعاد بناء الحوائط من حجرا هشما الذي يتم استخراجه من محجر حلوان.. أما الحجرات الداخلية التي تطل علي مجلس الشوري جزء منها سليم جدا. ويشير المهندس نجا إلي تأثره الشديد عند عثور العاملين علي كتاب تحفة عن عمارة القاهرة الخديوية به مجموعة صور نادرة للطرز المعمارية. وأيضا إلي تعدي بعض البلطجية بالسنج علي فريق العاملين من المقاولين في أول يوم عمل لهم في الموقع، كما فكوا الشدات المعدنية مما اضطرهم إلي مغادرته مع نهاية ضوء النهار.