التقيت به لأول مرة في قرطاج عام 1984.. حيث كان فيلمه »الحدود« يعرض لأول مرة في افتتاح المهرجان.. أعجبت جدا بالفيلم رغم إمكانياته الفنية المحدودة.. لكنه كان يتناول فكرة الحدود بين الدول العربية الذي كتبه مع صديق عمره محمد الماغوط وقام هو بإخراجه لأول مرة. إنه الممثل العربي الكبير دريد لحام المشغول دائما بهموم الوطن العربي.. وبصراحة أحب أن أقول إنه بالنسبة للمثقفين والأدباء الذين يذهبون إلي الشام دون أن يلتقوا بدريد لحام فهم لم يذهبوا للشام.. فدريد بدون مبالغة أحد أهم المعالم الثقافية هناك. ذكرنا مع نهاد قلعي بلوريل وهاردي.. ثنائي كوميدي ناطق باللهجة الشامية.. لكنه لم يكتف بمجرد إضحاك الناس. وأذهل الجميع في أواخر الستينات بجرأة »مسرح الشوك«.. بعد هزيمة 1967. وليذكر من لايعرفون بأن الكوميديان ليس بهلوانا ولا مهرجا.. بل هو صاحب رأي ووجهة نظر.. وذلك ما أكده من خلال المواطن البسيط »غوار الطوشي« وأيضا من خلال مسرحيات »كاسك يا وطن« و»غربة« و»ضيعة تشرين« و»صح النوم« و»ين الغلط« وغيرها.
في عام 1984 شهدت نجاحه الباهر في فيلم »الحدود« الذي كان مفاجأة سينمائية.. ففي إطار كوميدي رفيع المستوي عبر دريد لحام عن محنة الإنسان داخل حدود وطنه العربي. وحين التقيت به وجدته لايقل رقة وعذوبة وتواضعا عن دريد لحام الفنان.. ومن شدة تأثري وإعجابي وانبهاري بالفيلم كتبت عنه.. ورشحته للعرض في مهرجان القاهرة.. وعرض بالفعل في مصر. وكان دريد أكثر المندهشين والمتأثرين .. وباعتراف الجميع كان نجاح »الحدود« لدرجة أن المعجبين بعد مشاهدة الفيلم حملوه علي الأعناق ورددوا الأغاني الشامية.. وهتفوا للوحدة واستعادوا ذكرياتها القديمة.. وحلموا بوطن عربي بلا حدود.. وتأكدوا أن الفن يلعب دورا أهم من الساسة حين نزيل كل الحدود النفسية الوجدانية. وكنا نتابع بمنتهي التشوق الموضوع الجريء الذي يطرحه علينا بهذا الأسلوب الساخر.. فهو المواطن عبد الودود الذي حاول أن يعبر الحدود بسيارته ونتيجة لفقدان جواز سفره يقع في أغرب مأزق.. فالبلد الذي يذهب إليه يرفض أن يستقبله بلا جواز والبلد الذي جا منه يرفض أن يعود إليه لنفس السبب.. ومن خلال السخرية والسخف الروتيني والعجز عن اتخاذ قرار يتبادلها جيران هم شعب واحد.. لكنهم شاءوا تمزيقها بأسوار وهمية.. حيث أقام عبد الودود كوخا صغيرا يؤويه علي خط الحدود. أما شريط فيديو مسرحية »كاسك يا وطن« فهي في كل بيت سوري.. ويبدو من عنوانها الذي يتحدث فيه عن الأوضاع العربية عامة بعد هزيمة 1967 .. فإن »غربة« هو رحلة المجتمع العربي من الاقطاعية إلي الاشتراكية إلي الشمولية إلي الغربة والاغتراب دون أن يتغير في حياة الناس شيء علي الإطلاق. وذلك حين كون هو والكاتب القدير محمد الماغوط ثنائيا ناجحا.. فقد كانت أمنية المواطن العربي في »كاسك يا وطن« هو إنجاب ابنة يسميها أحلام تعبر عن أحلامه.. ولكن بسبب الإهمال في المستشفي ماتت »أحلامه«.. وعندا سأل من قتل أحلامه جاء رجال المخابرات لكي يضربوه ويعذبوه بكل الوسائل حتي ينهار.. ويفقد البطل يوما بعد يوم شعوره بالانتماء لوطنه.. لقد قتلوا بوحشيتهم علاقة الإنسان بوطنه وكانت النتيجة أن طلق زوجته وبيع أولاده في الطريق العام.
ومنذ ذلك الوقت أصبحنا أنا ودريد وعائلته وزوجته هالة أصدقاء.. يدعوني إلي منزله حينما أزور دمشق.. وحين يجيء إلي مصر أزوره في الفندق المطل علي النيل.. وأدعوه لفسحة علي مركب.. وبدأ دريد يكلمني بكل صراحة عن أوضاعه الاجتماعية.. فقد ولد في عائلة فقيرة جدا.. وكان هو رقم 7 في أسرة كبيرة العدد مكونة من 10 أبناء. كانت أمه تعمل عاملة أنفار في جنوب لبنان حين كان الأتراك يقيمون جسرا علي نهر الليطاني.. وكان هناك شاب سوري »محمد لحام« يعمل مراقب أنفار.. أحبها وتزوجها ثم بدأ بإنجاب الأولاد. تربي دريد في بيت فقير جدا في حي الأمين.. أحد البيوت الدمشقية القديمة.. عبارة عن صحن وحوله غرف يسكنها العشرات أما الحمام فكان مشتركا لكل السكان.. وكان أبوه بائعا متجولا يبيع الفحم.. تساعده الأم بالعمل في الخياطة. حاول دريد أن يعمل في كل الحرف الدنيا كنافخ في الفخم.. وكان أجره خمسة قروش فرح بها جدا وأعطاها لأمه.. وكان الفضل في تربيتهم للأم التي أعطتهم الأمل رغم أنها أمية لكنها كانت مثقفة تحفظ التاريخ.. وتعلم منها دريد ضرورة الكفاح والإصرار وهي التي ساعدته علي تكوين دريد لحام الإنسان والفنان فيما بعد. وكان متفوقا في دراسته فتنازل الأخ الأكبر عن حقه في التعليم الجامعي من أجل أخيه وتخرج ليعمل مدرس كيمياء. وكان محبا للتمثيل.. مثل في فرق التمثيل في المدرسة والجامعة.. وانشغل بالمواطن البسيط بكل همومه ومتاعبه من خلال شخصية »غوار الطوشي« لكنه ترك الوظيفة بالرغم من أنها كانت أهم بالنسبة للعائلة لأن لها دخلا ثابتا مضمونا. كان أول عمل سينمائي له هو »عقد اللولو« بطولة صباح .. كانت أول مرة يقف أمام الكاميرا.. وكان هدفه في ذلك الوقت الانتشار.. فقدم بعد ذلك 22 فيلما.. ومثل بعضها مع نجوم الشاشة المصرية.. لكنها لم تكن علي المستوي الفني المطلوب.
لم يكن الفن يطعم خبزا. لكن زوجته »هالة« صبرت معه كثيرا.. إنها ليست الزوجة الأولي أم أولاده ثائر وعبير التي لم تكن راضية عن الفن فانفصلا. وكانت هالة تعمل عضوا بفرقة الرقص الشعبي التي توازي فرقة رضا في مصر.. وأسندت له إدارة الفرقة.. وكانت طبيعيا أن يحب مدير الفرقة إحدي عضواته. وصبرت علي ظروف إنسانية صعبة للغاية. فحين حل العيد والأولاد محتاجون لملابس وكان دريد قد حقق شهرة في ذلك الوقت.. فقد كان يشتريان ملابسهم من دكان »البالة«.. والبالة هي الملابس القديمة التي تأتي من الخارج كمعونة.. وكان صاحب المحل يكرمهم بأن يغلق باب المحل لكي لا يشعرا بالحرج.
الفنان يتعرض دائما لمعجبات.. وقد يقع في بعض الأخطاء والنزوات.. أما زوجته هالة المرأة الجميلة من الداخل والخارج والتي تحملت معه سنين الضنك وصبرت معه كثيرا كانت امرأة عاقلة محبة للأولاد والأسرة وقد تعرض رديد لكثير من الشعائعات التي اعترف لي بها.. قائلا إن المشكلة أن نصف هذه الشائعات حقيقة.. لكن »هالة« تجاوزت الكثير من أخطائه.. لم تهدم البنيان الذي بناه الرجل والمرأة.. تجاوزتها من أجل الأولاد.. وصممت أن تبقي في المنزل معهم حتي انتهت العاصفة.
واستمرت صداقتنا ولا تزال علي مدي السنين.. حيث كنت التقي به في منزله مع زوجته هالة وأحفاده.. وفي مكتبه بدمشق.. وفي حلب مع مهرجان الأغنية والتراث الشعبي. كانت أمنية دريد أن يمثل مع عادل إمام فيلما عن فكرة تشبه الحدود اسمه »بين السماء والأرض« لكنها لم تنفذ كما كانت أمينته أيضا أن يمثل مع فاتن حمامة وهذا أيضا لم يحدث في مصر. كانت آخر مرة التقيت به هو وزوجته في غرفته المطلة علي النيل.. واستقبلني الفنان الكبير الذي انتهز فرصة وجوده بالقاهرة ليتأمل النيل الذي يعشقه ويقول إنه أجمل مكان علي وجه الأرض.. وهو رمز العطاء.. عطاء شعب مصر من الحب والكرم. قال لي : أحب مصر حبا خرافيا.. وفي رأيي أن كل فنان عربي يحلم بوثيقة اعتراف مصرية.