أصبح الوضع علي الأراضي السورية بين مشاريع الوحدة وأطماع التقسيم، حيث يري مراقبون أن اتفاق المناطق الآمنة يكرس "تقسيمات الأمر الواقع" وهي موزعة علي خمس مناطق نفوذ دولية - إقليمية: "الساحل الروسي" ومركزه اللاذقية، و"الشمال التركي" ومركزه إدلب، و"الشرق الأمريكي" ومركزه الحسكة، و"الوسط الإيراني" ومركزه دمشق، و"الجنوب الأردني الإسرائيلي" ومركزه درعا. ورغم نفي وزارة الدفاع الروسية قصفها قوات مدعومة من أمريكا في سوريا، في إشارة إلي قوات سوريا الديموقراطية ذات المكون الكردي، ورغم تأكيدها أن طائراتها استهدفت فقط مقاتلي تنظيم داعش وأنها أخطرت الولاياتالمتحدة مسبقا بعملياتها، بدا واضحاً أن هناك هدفا آخر مشتركا بين موسكوودمشق هو الحفاظ علي وحدة الأراضي السورية، في مواجهة رغبة أمريكية جامحة للتقسيم. من الواضح أن الصراع يشتد علي "تركة داعش" مع انحسار التنظيم بدير الزور، إذ تعد المنطقة شرق نهر الفرات منطقة نفوذ أمريكية بسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، فيما تبسط روسيا نفوذها غرب النهر بسيطرة قوات النظام. غير أن التطورات الميدانية الأخيرة أعادت تعديل الأولويات علي النحو التالي: أولوية النظام السوري وحلفائه لم تعد إدلب وشمال سوريا، وإنما دير الزور وجنوب سوريا، وهي الطريق إلي وحدة سوريا. وأولوية الأمريكيين لم تعد معركة الرقة والشرق وإنما دير الزور والجنوب، وهي الطريق لتقسيم سوريا. الجيش العربي السوري حقق نصراً ميدانياً هاماً نحو استعادة السيطرة علي وحدة البلاد، وذلك بانتزاع السيطرة علي ضاحية الجفرة الاستراتيجية علي أطراف مدينة دير الزور بشرق البلاد، من مقاتلي تنظيم داعش ليضيق بذلك الخناق علي مقاتلي التنظيم، الذي لم يعد أمام مقاتليه إلا الفرار بعبور نهر الفرات والهروب باتجاه البادية أو البوكمال والميادين". رفض لتركيا وزارة الخارجية السورية أكدت أن الاتفاقات التي تم التوصل اليها، خلال جولة المباحثات السورية في أستانا حول مناطق تخفيف التوتر "لا تعطي الشرعية لوجود عسكري تركي علي الأراضي السورية". وتؤكد دمشق أنه التزاما من الحكومة السورية بالتعامل بشكل إيجابي مع أي مبادرة قد تفضي للحل في سوريا، وحقن دماء الشعب السوري وتخفيف معاناته فقد شاركت سوريا باجتماعات أستانا للجولات الست الماضية بإيجابية وانفتاح. الحكومة السورية فوضت كلًا من الجانب الروسي والإيراني لإتمام الاتفاق الأخير، حول مناطق خفض التوتر بمحافظة إدلب "علي أساس أنهما الضامنان للجانب السوري، وعلي أساس أنها فرصة للجانب التركي الضامن للمجموعات المسلحة للتراجع عن مواقفه، في دعم ووقف تسليح وتمويل وإمداد وإرسال المسلحين إلي سوريا، الذي من شأنه أن يساعد علي إعادة الأمن إلي تلك المناطق". وبحسب مصدر بالخارجية السورية، متحدثاً إلي رويترز:"بالتالي فإن هذه الاتفاقات حول مناطق تخفيف التوتر، لا تعطي الشرعية علي الإطلاق لأي وجود تركي علي الأراضي السورية، وبالنسبة للحكومة السورية فهو وجود غير شرعي". وأكدت سوريا أن الاتفاق حول محافظة إدلب هو اتفاق مؤقت، هدفه الأساسي هو إعادة الحياة إلي طريق (دمشق - حماة - حلب القديم) الذي من شأنه تخفيف معاناة المواطنين وانسياب حركة النقل بكل أشكالها إلي حلب والمناطق المجاورة لها". وكانت الخارجية التركية قد أعلنت أن قوات مراقبة من تركياوروسياوإيران ستنتشر علي حدود منطقة خفض التوتر في إدلب، مشيرة إلي أن مراقبين من الدول الثلاث الضامنة لوقف إطلاق النار وهي تركياوروسياوإيران سينتشرون في نقاط التفتيش والمراقبة في المناطق المؤمنة التي تشكل حدود منطقة خفض التوتر في إدلب. ومن جانبه أعلن رئيس الوفد الروسي لمباحثات أستانا والمبعوث الخاص للرئيس الروسي لسوريا ألكسندر لافرنتيف أن عمل مناطق خفض التوتر في سوريا سيستمر ستة شهور قابلة للتمديد. سباق حقيقة الأمر أن هناك مؤشرات قوية لسباق إيراني - أمريكي للسيطرة علي الحدود السورية ذ العراقية والتحكم بممراتها، ودخل هذا السباق بمعركة كبري هي الثانية من حيث حجمها وضراوتها بعد معركة حلب، بل تفوقها في البعد الاستراتيجي، لأن معركة الحدود العراقية - السورية هي معركة الخط الذي يوصل إيران إلي بيروت عبر بغدادودمشق. الأمريكيون يريدون قطع هذا الطريق الحيوي في إطار استراتيجية فصل سوريا عن العراق وإضعاف النفوذ الإيراني، والإيرانيون يريدون فتح هذا الطريق الذي يضمن لهم وصول الإمدادات الي حلفائهم في سوريا ولبنان. لذلك فإن المعركة الحدودية لا تقتصر علي الجانب السوري من الحدود، وإنما تشمل الجانب العراقي أيضا، حيث انطلقت عمليات يقودها الحشد الشعبي باتجاه منطقة القيروان، جنوب غرب تلعفر، في مرحلة ثانية لعملية تحت اسم "محمد رسول لله"، تهدف إلي تطهير المناطق باتجاه البعاج، ومنها نحو المناطق الحدودية مع سوريا، وكان آخر ما وصلت إليه ميلشيا الحشد الشعبي مدينة عكاشيات غرب إقليم الأنبار والقريبة من الحدود السورية. ويري محللون سياسيون أن الصراع مع إيران لم يعد في المرتبة الثانية في سلم الأولويات الأمريكية بعد الحرب علي داعش. وقد بات الهدفان في مسارين متوازيين معاً. والطريقة التي يدير فيها الأمريكيون وشركاؤهم في المنطقة معركة الرقة والحدود السورية - العراقية تسعي سلفاً إلي رسم خريطة هذه الحدود. مع وصول معركة تحرير الموصل إلي نهاياتها، انطلقت معركة تحرير الرقة، علما بأن الموصل هي عاصمة تنظيم داعش في العراق، والرقة هي عاصمة داعش في سوريا، ولها أهمية عسكرية واستراتيجية والمعركة فيها صعبة نظرا لجغرافية المنطقة المفتوحة علي محافظات الحسكة ودير الزور المفتوحة علي العراق في الجنوب الشرقي، وغربا علي محافظتي حماة وحمص، وشمالا باتجاه تركيا. محوران يتقابلان في المثلث السوري - العراقي - الأردني، وصولا إلي دير الزور والرقة. الأمريكيون ومعهم حلفاؤهم الإقليميون بدأوا محاولة لترسيم حدود علي شكل حزام يلف سوريا من مرتفعات الجولان جنوبا إلي الحسكة في الشمال الشرقي. وفي المقابل، يسارع الروس إلي تسهيل مهمة الإيرانيين في السيطرة علي الحدود العراقية - السورية لفتح طريق "طهران - دمشق - بيروت" علي مصراعيه، وهذه مهمة ذات طبيعة استراتيجية حاسمة للحفاظ علي الجسر الإيراني إلي قلب المشرق العربي. ونتائج هذا السباق بين محورين كبيرين سوف تحدد طبيعة الحل في سوريا، وكذلك طبيعة الوجود الإيراني في المنطقة للمرحلة المقبلة. والمعطي المستجد علي الخريطة الإقليمية مصدره التغيير الحاسم في السياسة الأمريكية التي باتت تري في الاختراق الإيراني للمشرق العربي، ولا سيما في سوريا، تهديدا لأمنها القومي. مدير معهد المشرق للبحوث الاستراتيجية في بيروت الدكتور سامي نادر يقول لصحيفة لوموند الفرنسية: "إن المعركة الأساسية اليوم، بعد تحرير الرقة، هي للسيطرة علي الوسط السوري المتصل بالحدود العراقية، وإن أبعاد معركة الرقة إقليمية، تماما كما أبعاد معركة الموصل التي تمثل عملية رسم الخريطة الجديدة في المنطقة. والأكراد سيكونون عنصرا أساسيا في معركة قطع طريق الحرير من إيران إلي سوريا. ولو لم يحصل الأكراد علي الدعم الأمريكي لما رفعوا السقف ضد الحشد الشعبي، وهو ما يظهر أن معركة ما بعد الرقة هي معركة ضد التمدد الإيراني". معركة الرقة تكتسب أهمية كبيرة، فتحرير المدينة سيخلق معادلة جديدة في الجغرافيا السورية، لعل من أهم معالمها ولادة إقليم في شمال سوريا تحت سيطرة القوات الكردية يتبع استراتيجياً للنفوذ الأمريكي المباشر، مقابل منطقة تمتد من حماة وسط البلاد وصولاً إلي العاصمة دمشق والساحل تحت سيطرة النظام وحليفيه الروسي والإيراني، ومنطقة في الشمال في شكل مثلث يمتد من جرابلس نحو الباب وأعزاز تحت سيطرة قوات "درع الفرات" برعاية مباشرة من تركيا، فيما تبقي منطقة في أقصي الشمالي الغربي أي محافظة إدلب تحت سيطرة الجماعات المسلحة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسعي إلي إعادة بلاده إلي صدارة الموقف والفعل في رسم خريطة العلاقات والمصالح في الشرق الأوسط. ولكن القوي الأخري في المنطقة تسعي إلي مواجهة أهداف هذه المطامع. ويبدو أن إيرانوتركياوروسيا لا تريحها الشراكة المتجددة بين الولاياتالمتحدة وحلفائها التقليديين في الخليج. وأمام هذا الواقع، يتسابق الجميع للحصول علي إرث داعش في دير الزور أيضا، لا انطلاقاً من شعار محاربة داعش فحسب، بل لحسابات سياسية تتعلق بالأوراق التي سيمتلكها الطرف المنتصر في معركة الحل السياسي. في النهاية يمكن القول إن التطورات الأخيرة أظهرت أن المنطقة دخلت في تحولات جديدة تنذر بتحالفات جديدة سيحددها مسار المعارك الميدانية في سورياوالعراق بالإضافة إلي تداعيات خلافات الدول الداعية لمكافحة الإرهاب مع قطر والدورالأمريكي الملتبس.