يمر التعليم المصري في الوقت الحالي بحالة من الارتباك سببها عدم تحديد الهدف الأساسي منه واتخاذ خطوات متناقضة في سبيل تطويره، ففي الوقت الذي يعكف فيه وزير التربية والتعليم الدكتور طارق شوقي علي وضع نظام تعليمي جديد يجري تطبيقه علي طلاب الصف الأول الابتدائي بدءا من العام الدراسي بعد القادم، تقوم الوزارة ذاتها بتطبيق تجارب تعليمية مختلفة علي المدارس المصرية كان آخرها ما تم الإعلان عنه مؤخرا من البدء في إنشاء 45 مدرسة تحمل اسم مدارس "التجربة اليابانية". ولم تكن التجربة اليابانية وحدها التي يجري تطبيقها علي المدارس المصرية فسبقتها تطبيق تجربة مدارس البكالوريا الدولية في عام 2014 خلال فترة الوزير محمود أبو النصر وافتتح مدرستين تعملان حاليا وتقوم فلسفة التعليم بهما علي أن يتم تدريس المناهج الدولية المعتمدة داخل مدارس حكومية بمصروفات أقل كثيرا من المدارس الدولية الخاصة. وفي تلك الأثناء أيضا اقترح الدكتور محمود أبو النصر تطبيق التجربة السنغافورية علي التعليم ما قبل الجامعي، إلا أن خطوات المشروع توقفت بعد أن رحل عن الوزارة ولكن تم تطبيق التجربة من خلال الاستفادة بالمناهج السنغافورية في تطوير المناهج المصرية، والأمر ذاته تكرر مع تاليه الدكتور محب الرافعي وزير التعليم الأسبق والذي أعلن في أغسطس 2015، عن دراسة التجربة النيوزيلندية في مجال التعليم، لتطبيقها علي أرض الواقع، دون أن تنفذ بعد أن رحل سريعاً عن منصبه. وما يزيد من إرباك التعليم المصري أنه ينقسم بالأساس إلي أنواع مختلفة من التعليم فهناك التعليم الحكومي والذي يسود في حوالي 50 ألف مدرسة علي مستوي الجمهورية بالإضافة إلي التعليم الخاص والذي ينقسم إلي مدارس خاصة تلتزم بالمناهج المصرية في التدريس، وأخري دولية تدرس المناهج الإنجليزية والبريطانية، بالإضافة إلي المدارس التجريبية والتي تتبع الحكومة ولكن تدرس المناهج باللغات الأجنبية، وكذلك مدارس المتفوقين والتي تتبع نظاماً تعليميا مختلفا يعرف باسم (ستيم) وهي مدارس داخلية وصل عددها إلي11 مدرسة علي مستوي الجمهورية. ووسط جميع هذه التجارب المختلفة تشرع وزارة التربية والتعليم في تطبيق التجربة اليابانية تحت مسمي مشروع "التوكاتسو الياباني" وذلك بعد أن وقع وزير التربية والتعليم السابق الهلالي الشربيني العام الماضي اتفاقية تعاون مع رئيس هيئة التعاون الدولية اليابانية (جايكا)، تيريوكي ايتو، وهي التجربة التي تقوم علي التنمية الشاملة للطالب من خلال العمل الجماعي بين الطلاب، والأنشطة الصفية واللاصفية، ما يعزز من قدرات الطفل، ويختلف حسب كل سنة دراسية. وبحسب وزارة التربية والتعليم فإن المدارس الجديدة عبارة عن مدارس لغات تجريبي، تدرس المناهج المصرية، لكن تمتاز بكثافة الأنشطة التي تطبقها اليابان في مدارسها، كما أن شروط القبول داخل تلك المدارس تعد نفس شروط القبول داخل المدارس التجريبية، وأن تلك التجربة تطبق لأول مرة خارج اليابان، بالإضافة إلي أن عدد الطلاب داخل الفصول لن يتعدي 40 طالباً وسيتم تفعيل ما يسمي بنظام الساعات الدراسية المعتمدة وانقسام المدرسة إلي فصول خاصة بالتعليم وأخري متعلقة بالأنشطة. ويقول الدكتور حسن شحاتة، أستاذ المناهج وطرق التدريس بجامعة عين شمس: "بالنظر إلي التجربة اليابانية والتي تستهدف مهارات العمل الجماعي، والانتماء، وقيم النظافة، والاهتمام بالأنشطة الجماعية، ووضع نظام الفصل وإدارته، فإنها تعد صعبة التطبيق داخل أكثر من 50 ألف مدرسة حكومية، فهي تحتاج إلي إمكانيات محددة لشكل المدرسة لا يتوافر في مصر، كما أن الكثافة الطلابية لا تزيد عن 30 أو 40 طالباً وبالتالي فإن تعميم التجربة يعد أمرا مستحيلا". وأضاف أن توقيع برتوكول التجربة في عهد الوزير الهلالي الشربيني كان يهدف إلي الشو الإعلامي فقط، والوزارة تعلم أنه من المستحيل تعميم التجربة علي مدارس نسبة كبيرة منها آيلة للسقوط، ولا يوجد أماكن يجلس فيها الطلاب والمعلمون، والذين بدورهم غير مؤهلين تربويا للتعامل مع نظم التعليم الحديثة، مشيرا إلي أن أساس تطوير التعليم في الوقت الحالي يكمن في حل مشكلات الإمكانات الفقيرة والأعداد الكبيرة. وتابع: "المشكلة الأكبر التي تعانيها وزارة التربية والتعليم أنها تعرف تحديداً المشكلات التي تواجهها ولكن تطبيق الحل لا يسير وفق رؤي واضحة، فمنذ عام 2014 وهو الوقت الذي تولي فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد منصبه تم الاستعانة بنا لتوصيف مشكلات التعليم ووضع حلول عاجلة لها وبالفعل عرضنا جميع الأرقام والمعلومات المتعلقة بالتعليم علي الرئيس في هذا التوقيت وهو بدوره أصدر تكليفات واضحة بتنفيذها، إلا أن تغيير الوزراء أثر علي تنفيذ تلك التوجيهات". ويؤكد شحاتة أن أهم هذه التوجيهات كان يتعلق بخلق بيئة تعليمية مشابهة للبيئة التعليمية التي نريد أن نستوردها، وتدريب المعلمين وفقا للنظم التعليمية الحديثة، وخلق كثافات طلابية معقولة داخل الفصول من خلال بناء أعداد كبيرة من المدارس الجديدة، وكذلك الاهتمام بالتكنولوجيا داخل المدارس للمساعدة علي ممارسة الأنشطة وتفعيل تلك المناهج، مشيرا إلي أن المطلوب في الوقت الحالي أن يتم تنفيذ هذه التوجيهات قبل أن نشرع في وضع نظام تعليمي جديد قد يفشل نتيجة فشل البيئة التعليمية الحالية. ويري العديد من خبراء التعليم أن النظرة المحدودة باستيراد مناهج جديدة وتطبيقها في بيئة تعليمية غير البيئة التي ولدت فيها لا تساعد علي نجاح التجربة، وأن ذلك يتطلب أولاً تغيير نظرة المجتمع إلي أهداف التعليم، ففي الوقت الحالي يرفع الجميع شعار (التعليم للامتحانات وليس للحياة) وهو تحديدا ما يهم ولي الأمر والمعلم والوزير أيضا، وأن القضية الرئيسية تكمن في تطوير بيئة التعلم والمقصود بها المدرسة وليس فقط تطوير المنهج وفق الرؤية العالمية. ووضع الدكتور حسن شحاتة، والذي شارك في جميع محاولات تطوير التعليم منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتي الآن مجموعة من الحلول للتغلب علي الوضع الراهن أولها ضرورة الاهتمام بالشراكة المجتمعية بين رجال الأعمال ووزارة التعليم، وتوفير الأنشطة بما يتماشي مع الإمكانات الحالية، والعمل علي بناء مدارس حكومية جديدة وتزايد الاهتمام بالتعليم الحكومي باعتبار أن إدخال أي نظم تعليمية جديدة سيجري تطبيقه بالأساس علي تلك المدارس، وانتهاء بتدريب 67٪ من المعلمين من غير خريجي كليات التربية. ومن جانبه أكد الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي بمركز البحوث التربوية، أن المحور الرئيسي وراء فشل التعليم في مصر يتعلق بغياب الرؤية والأهداف المرجوة منه وبالتالي فإن الوضع الحالي يشبه إلقاء مجموعة من لاعبي كرة القدم إلي المعلب دون أن نحدد لهم الخطة التي سيلعبون عليها ولا الهدف من لعب المباراة، وبالنسبة للتعليم فإن هناك 24 مليون شخص داخل ميدان التعليم بأنواعه المختلفة الحكومي والخاص والأزهري، دون أن يكون هناك هدف واضح من التعليم الذي يتلقونه. وأوضح أن التعليم في مصر دائما ما كان يعد جزءا رئيسيا من المشروع الوطني المصري، بدءا من عهد محمد علي والذي أسس دولته القوية وفقا لأسس أوربية حديثة وأرسل العديد من البعثات إلي الخارج لتحقيق هدفه، وهو ما كرره الخديو إسماعيل، وبعد ثورة يوليو كان الهدف من التعليم تغذية روح الاستقلال الوطني وتم اتخاذ قرار مجانية التعليم وكذلك التركيز علي القومية العربية من خلال المناهج حتي يكون بهدف زيادة الانتماء الوطني. إلا أن هذا الهدف لم يعد واضحا منذ عقد الرئيس الأسبق أنور السادات وانعكس التخبط في هدف الدولة ككل بالمشروع التعليمي، وظل هناك تناقض بين الرغبة في تدشين دولة ليبرالية رأسمالية دستورية تحترم حقوق الإنسان وبين الاتجاه نحو الاشتراكية وبالتالي فإننا وصلنا إلي المرحلة الحالية. وأشار إلي أن الهدف الجديد والذي ينبغي أن تسعي إليه الدولة المصرية في الوقت الحالي يرتبط بمواجهة التعصب الديني والتركيز علي قيم المواطنة وتعزيز قيم التسامح والانتماء، مشيرا إلي أن تلك الأهداف تبدو واضحة من خلال الاهتمام بتدريس مادة القيم والأخلاق العام المقبل، لكن الأمر يتطلب استراتيجية واضحة يتم خلالها توجيه التعليم لتحقيق تلك الأهداف، علي أن يكون ذلك من خلال الأنشطة والمهارات والتدريبات المعرفية المتنوعة. وأوضح مغيث، أن رؤيته لأهداف التعليم ترتبط أيضا بأهمية الإعداد الثقافي للطلاب والاهتمام بالجوانب الثقافية داخل المدرسة، وكذلك التركيز علي أساليب التواصل الاجتماعي، والاهتمام بالتنشئة الشخصية للتلميذ، إلي جانب الإعداد الممنهج والرؤية العلمية لقضايا الكون والمجتمع والإنسان، وزيادة التوعية بالجوانب الصحية علي مختلف أنواعها، والتركيز علي تقدير المهنية باعتبارها المكون الأول لتقدم الأمم.