رحّب بنا المرضي داخل مستعمرة الجذام، سألناهم عن أحوالهم فقال لنا أحدهم: إحنا في نعمة! ألقينا التحية علي مسنة كفيفة داخل عنبر السيدات فردت: منوّرين!.. علامات الرضا علي وجوهم التي شوهها المرض وإصرارهم علي العمل رغم ظروفهم الصحية الصعبة جعلتنا أمام أبطال حقيقيين يلقنون مدمني الشكوي والكسالي درساً في الإيمان بالله والسعي وراء الرزق. النصائح التي تلقيناها من الأهل والأقارب والأصدقاء بعدم الاقتراب من أي مريض أو لمس الأشياء داخل المستعمرة وكل الإرهاب الذي سبق الرحلة زاد من إصرارنا علي الذهاب إلي (أبو زعبل) بمحافظة القليوبية للتحدث إلي ضحايا يعيشون في منطقة بعيدة عن بشر يرفضونهم ويشمئزون من وجودهم ويحملونهم ذنب مرض قد يبتلي به الله من يشاء. التخوف من وسائل الإعلام هو ما واجهناه من د. سميح سيد جلال، رئيس وحدة مكافحة الجذام بوزارة الصحة الذي رفض في البداية السماح لنا بالتصوير داخل المستعمرة وحكي عن صحفيين ذهبوا إلي هناك من قبل وشاهدوا كل شيء علي الطبيعة وحين عادوا زيفوا الحقيقة بمغالطات وافتراءات أصابت المرضي بأذي جديد، ما جعل المرضي في حالة عداء مع الإعلام لدرجة أنهم تعدوا علي مصور واستولوا علي كاميرته ولم تعد إليه إلا بعد تدخل الشرطة! التوتر للحظات هو ما أصابنا في البداية ونحن نخطو إلي داخل المستعمرة، بينما الشمس التي تبسط نفوذها علي المكان والابتسامات التي تكسو وجوه العاملين وهم يرحبون بنا سربت إلينا الطمأنينة. سمحت لنا الدكتورة أحلام سعد الدين بالتجول داخل المستعمرة لنتحدث إلي مرضي وجدناهم متلهفين للحديث مع من باستطاعته توصيل أصواتهم إلي خارج الأسوار، احتياجهم لمعاشات تعينهم علي الظروف الصعبة التي لا تغادرهم وعمليات جراحية عاجلة قد يتسبب تأخيرها في فقد حواس لا غني عنها كالبصر والسمع! بيشاي وائيم وعبدالله صابر كل منهما يعيش في المستعمرة لمدة لا تقل عن 15 عاماً وأكبر أمانيهم الحصول علي معاش يساعدهم في الإنفاق علي أولادهم ليستكملوا دراستهم. أما عبدالسميع فهو موجود في المستعمرة منذ 30 عاماً، ويحكي عن إصابته بالجذام وهو ما جعله يعاني معاناة نفسية سيئة، إلي أن هداه الله إلي الزواج من سيدة سليمة شفته من نقل العدوي فأصبح سلبياً وآمناً وحالته مستقرة. ويطالب محمود علي المسؤولين بالنظر إلي المستعمرة ومنحها بعض الاهتمام، ويقول إنه يعيش هنا منذ 33 عاماً ومتزوج ولديه أبناء أسوياء. ويشكو عبدالرسول عبدالخالق الذي يعيش بالمستشفي منذ أكثر من 50 عاماً من مياه بيضاء علي عينه اليمني ورفض الأطباء الذين ذهب إليهم إجراء عملية له في حين أن تحاليله تؤكد أنه سلبي وغير معدٍ، موضحاً أنه متزوج ولديه 4 أبناء قائلاً: "أنا شايف بعين واحدة بس بشتغل وحتي إذا ضاعت عيني الثانية هفضل أشتغل في المستعمرة". وفي مبني السيدات لم تفارق الابتسامة وجه فاطمة وهي تخبرنا أنها سعيدة بالحياة في المستعمرة، أما فوزية فقد أصرت علي أن نلتقط لها صورة وهي تحمل بطانية حصلت عليها للتو من أحد المتبرعين وتقول إنها تعيش بالمستعمرة منذ 50 عاماً، وزوجها وأولادها أسوياء. ألقينا التحية علي هانم إحدي المريضات (كفيفة) فردت قائلة: منورين.. وحكت عن ابنها المدرس وحياتها الطويلة داخل المستعمرة التي استمرت 40 عاماً. وتقول نفيسة علام: "أنا عايشة في المستشفي من 8 سنوات وكل حاجة موجودة هنا ومش عاوزين أي حاجة والله". وبالزغاريد والدعوات الطيبة تستقبلنا نعمة فتحي ولا تطلب أي شيء سوي أن يعيدوا لها أحد المريضات التي كانت تقتسم معها الغرفة وتم نقلها لغرفة أخري، في الوقت الذي تسألنا فيه ناصرة عن عريس لتتزوجه وراديو تسمع منه أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم. وفي أحد الأركان نرصد فتاة مستجدة علي وجهها آثار المرض وبجانبها حقائبها، تفكر في مصير مجهول ينتظرها داخل المستعمرة، وعندما اقتربنا منها عرفنا أنها قادمة من الفيوم وقالت: "أنا في تانية ثانوي وامتحاني الأسبوع الجاي"، ولم ترد علي سؤالنا عن اسمها. وفي حديقة المستشفي تحدثنا هند أحمد محمد ممرضة بقسم العمليات قائلة إنها كانت ابنة لأب مريض جذام (توفاه الله) جعلها تحب التمريض والرحمة بالمرضي وفعل الخير، وتقول إن إخوتها ووالدتها بصحة جيدة. أما زميلتها هالة يوسف فتقول: والدها لا يزال مريضاً بالمستعمرة وقد درست التمريض هي وأختاها ليقفن بجانب والدهن في شدته ويكسبن لقمة عيشهن. داخل المستعمرة 5 راهبات 4 منهن إيطاليات والخامسة هي الأخت أنجيل التي تقول إنها صعيدية من محافظة قنا وعمرها 67 عاماً وتضيف أنها تطوعت للعمل في المستعمرة منذ أربع سنوات وأن الدير هو من قام بتوزيعها علي المكان. وتستطرد: لم أشعر بالضيق للحظة واحدة لأنني وهبت حياتي لربنا وهو يتصرف كما يشاء، وسعيدة للغاية بحياتي وسط المرضي. أما الراهبة فيكتوريا فهي إيطالية من الصليب الأحمر في الثمانين من عمرها تعيش في مصر منذ 53 عاماً وتطوعت للعمل في المستعمرة منذ أكثر من 32 سنة، واختارت المكان لحبها الشديد للمرضي ورغبتها في مساعدتهم وفي نفس الوقت حاجة المكان لمتطوعين يعملون به قائلة إنها لم تخف للحظة من العدوي وتعمل دون قفازات، ولا يخلو حديثها من "كله كويس ومفيش مشكلة والحمد لله"، وهي من أنشط العاملين بالمستشفي، تسافر إيطاليا شهرين كل 3 أعوام وترفض الاستقرار هناك وتقول "وربنا مديني الصحة أقعد في مصر ولما أكون تعبانة أرجع بلدي". وداخل مكتبها استقبلتنا مديرة المستشفي د. أحلام سعدالدين بود وترحاب وفتحت قلبها ل"آخرساعة" وهي تحكي كأم عن مرضي لا حول لهم ولا قوة في حاجة إلي كل دعم مادي ومعنوي، محذرة من التجاوب مع أي جهة تقوم بجمع التبرعات باسم المرضي، مؤكدة أن الطريقة الوحيدة للتبرع عن طريق التواصل مع مديرة المستشفي. وتقول: تعرضنا للعديد من المواقف المؤسفة من هذا القبيل فقد قامت أحد الجمعيات بجمع تبرعات بإسم مرضي الجذام واستولوا علي التبرعات لأنفسهم ولم تحصل المستشفي علي شيء. وفيما يخص التبرع لصندوق المستشفي فتوضح أنهم لا يستفيدون إلا ب40% منه فقط، قائلة: لا يمكننا التصرف بأي قرش منه إلا بعد مجهود عظيم وبعد مرور مدة لا تقل عن شهرين رغم احتياجنا الدائم لمصادر تمويل. وأضافت: نحن في حاجة ماسة لمستلزمات طبية أهمها الشاش والقطن والقفازات اللاتيكس ومواد النظافة من صابون وكلور وبيتادين ومحاليل لتشغيل جهاز تحاليل الدم وبلاستر وسرنجات وأغطية سراير ومخدات بكميات كبيرة وفازلين طبي وجلسرين، وكراسي متحركة مجهزة لدخول الحمام ومبالغ مالية للعمليات الكبيرة. نعاني من نقص شديد في الكثير من أنواع الأدوية التي تعالج الآثار الجانبية لمرض يحتاج إلي علاج متنوع غير متوفر لدي المديرية ولا نحصل عليه سوي من التبرعات مثل المضادات الحيوية والكورتيزون وعلاج الضغط والسكر والفشل الكلوي والكبد، بينما علاج الجذام الرسمي نحصل عليه مجاناً من وزارة الصحة التي تستورده من ألمانيا باسم ووزن وسن كل مريض نظراً لارتفاع سعره. وأضافت: بالرغم من أن المريض غالبا ما يكون فاقداً للإحساس بأطرافه إلا أن يده قوية للغاية فيتسبب في كسر الكثير من الأدوات مثل صنابير المياه ومفاتيح الكهرباء وغيرها، وصيانة كل هذا يومياً يكبدنا الكثير. وتتعجب د.أحلام من المستشفيات والعيادة الخارجية التي ترفض استقبال مريض الجذامذ غير المعدي- ليجري فحوصات أو يجري عملية جراحية، وتتحدث عن أمراض كثيرة تصيب المرضي وتحتاج إلي علاج وهو ما حدث مع مرضي الفشل الكلوي الذين كان يتم طردهم من مستشفي الخانكة حتي استطعنا بفضل التبرعات توفير جهاز غسيل كلوي تم تخصيصه لمرضي الجذام بوحدة الغسيل الكلوي بمستشفي الخانكة. وتضيف: أحد المرضي الذي صدمته سيارة خارج المستعمرة وتكسرت عظامه ولم تقبل أي مستشفي دخوله لإجراء عملية تركيب شرائح ومسامير وهو ما يضطرنا لعلاج مصابي الجذام بأمراض أخري في المستشفيات الخاصة. وتشرح: المرض معدٍ في بدايته قبل أن يتم معالجته، في فترة ما بين ستة أشهر لسنة، وبعد ذلك يصبح حاملاً للمرض فقط وليس معدياً، وتقول: لم يكتشف أحد حتي الآن أسباب محددة لهذا المرض، ولا نستطيع أن نجزم إن كان وراثياً أو لا ففي بعض الحالات يكون الرجل والسيدة مريضان وينجبان أطفالاً أسوياء أو أحدهم مريض والآخر سوي وأولادهم أسوياء وهناك مرضي أنجبوا مرضي. وتوضح: مشكلة مريض الجذام النفسية تكمن في سخطه علي الآخرين، ومهما ظهر قوياً ومرحاً فهو محطم وبداخله بركان من الغضب، وهو ما يجعلنا نواجه مشكلة أخري هي عدم وجود أطباء نفسيين داخل المستعمرة خاصة بعد عدم قبول مستشفي الخانكة لمرضي الجذام.. وتقول: تعاقدنا مع طبيب خاص لكنه لم يستطع أن يكمل العمل، كما أن الأولويات تقتضي توفير أطباء لما يلحق بهم من إصابات جسمانية. وحول عدد الأطباء والممرضات داخل المستشفي تقول: لدينا حاليا 4 نواب جلدية ونائب باطنة و4 أطباء أسنان و12 صيدلياً و12 طبيب علاج طبيعي بالإضافة إلي 73 ممرضة جزء كبير منهن آباؤهن مرضي جذام مما جعلهن يلتحقن بمعاهد التمريض. أما عدد المرضي فتقول إن المستعمرة تضم 580 مريضاً ومريضة من المقيمين، فضلاً عن المترددين ممن يأتون لتناول العلاج فقط والكشف ثم العودة إلي منازلهم، ليعيشوا حياتهم مع أسرهم بشكل طبيعي، لافتة إلي أن الأطباء يقومون بإجراء الفحوصات الدورية للأسر أو كما يطلقون عليهم المخالطين للمريض للتأكد من عدم نقل أي عدوي، وكثيرون منهم تخلي عنهم أهلهم ولا يزورهم أحد، بل وهناك من الأهل من يتركون مريضهم أمام الباب يواجه مصيره ويرحلون. وتتعجب عايدة رئيسة التمريض بالمستعمرة من أطباء يخطئون في تشخيص أعراض الجذام فيظنون أنه روماتويد وهو السبب الرئيسي لتدهور حالات المرضي وكأن هؤلاء الأطباء لا يعلمون عن المرض سوي أنه تساقط للأطراف فقط دون دراسة أعراضه، وهو ما جعلهم يعطون مريضاً 4 جرعات كيماوي في حين أنه مصاب بالجذام وهو ما أدي إلي وفاته بعد 20 يوما فقط من احتجازه في المستعمرة. وتشرح د. وفاء علم الدين استشاري الأمراض الجلدية أن الجذام مرض جلدي يؤثر علي الخلية العصبية للجسم وأول ما يتأذي منه العين والأطراف ويفقد المريض إحساسه بالأشياء ثم يبدأ بعد ذلك مرحلة ظهور القرح والتقيحات وغيرها. وتوضح أنه نوع من أنواع البكتيريا العفوية من نفس فصيلة البكتيريا المسببة لمرض السل، وتنشط في الهواء ومنها نوع يدخل في الجلد يفقده الإحساس بأي شيء حتي العرق، ونوع آخر يكون عبارة عن بقعة بيضاء مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد فتؤثر علي الأعصاب والعظام ويبدأ في تساقط الأطراف كلها. وتقول: ينتقل مرض الجذام بالتنفس بالإضافة للتلامس، لذا فهو مرض معدٍ ولابد من عزل المريض في مكان بعيد في بداية الإصابة بالمرض، ويتلقي العلاج لمدة أقصاها عامين، وتؤكد أن المريض يتم شفاؤه ولكنه لا يستطيع أن يتخلص من أثار المرض التي تحل بجسده. وعن أسباب المرض تقول: غالبا ما يكون مناعة ضعيفة أو استعداداً وراثياً، وللوقاية منه تناول أطعمة صحية مثل الخضروات والفواكه لتحسين المناعة وتنظيف أماكن المعيشة جيداً تهوية المنزل وتعريضه للشمس التي تقتل البكتيريا وشرب المياه بكميات كبيرة..