في الحياة هناك من لا يملكون القدرة علي الأحلام.. حيث الصراع اليومي للبقاء علي قيد الحياة لا يترك لهم فرصة للتفكير في الغد.. وعلي الرغم من ذلك فإن البعض منهم لا يفقد الأمل مكتفياً «باللحظة» التي يعيشها بكل حلاوتها ومرارتها راضياً بواقعه غير مستعد علي الإطلاق للثورة عليه أو التحرر منه.. أما البعض الآخر فإنه يتمتع بروح المقاومة علي فك الحصار الذي يضيق به علي نفسه؛ وتحطيم الأغلال التي تقيده. »السلام عليك يا مريم« والطريق إلي الأوسكار »حياة نقية« العمل الروائي الأول لمخرجه جيرمي بنستز والفيلم الفرنسي (حياة نقية) الذي يعد العمل الروائي الأول لمخرجه (جيرمي بانستر) الذي بدأ حياته الفنية علي واحد من أشهر المسارح في باريس «أوديون» عام 1997 ليكتب بعد ذلك العديد من السيناريوهات.. ويدخل مجال التمثيل، قبل أن يعمل مساعد مخرج.. ثم يقدم أحدث وأول أفلامه (حياة نقية) المأخوذ عن واقعة حقيقية. وهو فيلم يتحدث عن المستكشف والرحال «موراي» الذي قرر عام 1949 أن يسافر إلي غابات الأمازون ويروي تجربته في اختراق الغابات والنهر، شارحا بالتفصيل الحياة البدائية البكر النقية داخل هذه الغابات وما واجهه من صعوبات شديدة.. ليختفي فجأة لتظل أسرته تبحث عنه وعن أي أثر له قبل أن يعثروا علي مذكراته، وهي يوميات تشمل أدق تفاصيل رحلته، وكأنها مصورة حتي اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاته. مدير التصوير (جون كريستوف يوفال) نجح بجدارة أن ينقل إلينا (روح) الغابات، وبدا كأننا نحن الذين نسير ونستكشف معه الغابة بكل تفاصيلها وحياة سكانها البكر، الذين لم تصلهم أي حضارة.. وبالتالي يعيشون علي الفطرة وبدائية البعض منهم تشبه فعلاً الحيوانات في قسوتهم وشراستهم والآخر يتمتع بروح التسامح والإنسانية.. وساعدوه كثيراً. بطل الفيلم (ستاتي كوبيت) قام بأداء الدور باقتدار شديد.. ونجح في عمل ريجيم قاسٍ أفقده أثناء التصوير أكثر من خمسة عشر كيلوجراماً لكي تظهر معاناته الحقيقية- فكان من يراه يصدق حقاً أنه أمضي فعلاً تلك الفترة في الغابة ضائعاً بدون طعام أو شراب. هذا الفيلم يعتبر تحية ليس ل«موراي» فقط، بل لكل المستكشفين في الحياة؛ الذين لم يتوقفوا عند اللحظة التي يعيشونها.. ولم «يشلّوا» أحلامهم بل انطلقوا بها نحو المستقبل وهذه هي سنة الحياة الحقيقية.
كل إنسان هو ابن الظروف التي يعيشها صغيراً وينشأ عليها.. محيط ما يتربي عليه الإنسان صغيراً عادة ما يكون (بوصلته) في الحياة.. ولقد كانت آخر ساعة لها السبق في إجراء حوار وتقديم المخرج المغربي (سعيد خلاف) مخرج فيلم (مسافة ميل بحذائي)، الذي فاز عن جدارة بالجائزة الأولي (الجاد الذهبية). الفيلم تحفة بصرية شديدة القسوة والألم لواقع حياة طفل نشأ في البؤس والفقر مثل الآلاف من الأطفال في الوطن العربي أو أي بقعة في العالم.. إنه العالم (السفلي) أو قاع المدينة الذي لا يرحم أطفاله؛ ويستغلهم أسوأ استغلال.. البطل (سعيد) ضحية الفقر وزوج الأم الذي اغتصب شقيقته ووفاة الأم.. ظروف قاسية دفعت به دفعاً إلي السقوط وسط براثن عصابات الأطفال.. حاول الصغير الثورة علي ظروفه لكن قانون (الغاب) أو (الشارع) لا يرحم العنف والظلم والقهر جعلت منه مجرماً.. إن بطل الفيلم (سعيد) هو ترجمة لكل أطفال العالم الغارقين في البؤس.. ورغم ذلك فإن المخرج أراد أن يقدم لنا صورة إيجابية تحمل الأمل في (الغد) وأن الدنيا مازالت بخير، بها أناس يحملون في قلوبهم طيبة وإنسانية ومبادئ؛ قادرون علي التسامح وانتشال الآخرين من «الدمار» النفسي. المستقبل يعني الشباب بكل قدراته الإبداعية التي تمثل الأمل في الغد الأفضل.. وفي مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية في دورته السادسة حملت الأفلام الروائية القصيرة الكثير من المواهب المتميزة للعديد من الشباب؛ تحمل رؤية وتجديداً في الأفكار سواء من خلال الطرح أو التنفيذ، كلها تعني أن السينما بخير ودماءها في حالة تجديد مستمر. ومن أهم وأجمل الأفلام التي عرضت؛ الفيلم الفلسطيني الفرنسي الألماني المشترك «السلام عليك يا مريم» للمخرج الشاب باسل خليل ابن «الناصرة» البلدة الفلسطينية الجميلة.. من أب فلسطيني وأم إنجليزية.. باسل بعد انتهاء دراسته الثانوية التحق بالأكاديمية السينمائية باسكتلندا ثم انتقل إلي لندن ليعمل كمنتج بالتليفزيون قبل أن يقدم فيلمه الروائي القصير «السلام عليك يا مريم» الذي وصل إلي المرحلة الأخيرة من ترشيحات الأقصر.. واحتمال فوزه كبيرة جداً.. حيث إنه يحمل رؤية واعية وفلسفة لتحليل الواقع الحالي الذي تعيشه المنطقة العربية خاصة فلسطينالمحتلة.. الفيلم مدته خمس عشرة دقيقة.. شارك ياسر في كتابة السيناريو دانيال يانيز.. أما التصوير فل«إريك ميزراحي» وبطولة هدي الإمام.. روث فرحي.. مايا كورس. الفيلم يروي حياة خمس راهبات يعشن في عزلة تامة في أحد الأديرة وسط الصحراء بالضفة الغربية.. وهن في صيام العذراء لا يجب أن يتكلمن ويلتزمن الصمت التام.. وفي أحد الأيام تأتي سيارة يقودها إسرائيلي وزوجته ووالدته المقعدة يطلبون العون من الدير حيث تتعطل سيارتهم ويصدمون تمثال العذراء الموجود أمام الدير «فينكسر» وكان ذلك صباح «السبت» حيث هم أيضاً لا يستطيعون «لمس» شيء. الراهبات يفتحن الدير ليدخل الرجل ووالدته القعيدة لاستعمال التليفون.. ويطلب من راهبة المساعدة لتجد نفسها في مأزق كبير؛ فهي صائمة عن الكلام والحديث.. لكن الإنسانية تدفعها لخرق هذا الصمت. وإن كانت تغضب بشدة لسماعها الشتائم التي تكيلها الأم والزوجة للعرب ونظرة الاحتقار التي يرون بها العرب. تحاول الراهبات المساعدة فيخرجن سيارة قديمة لإحدي الراهبات التي توفيت.. ويتشارك الجميع في إصلاحها حتي ينجحوا في جعلها تسير وذلك بعد أن رفض كل أصدقاء الإسرائيلي مساعدته بل حاول البعض استغلاله. إن التعايش فُرض علي الراهبات باختيارهن كسر حاجز الصمت بينما فُرض علي الإسرائيلي أن يعمل ويتواصل معهن.. وهذا هو دافع اليوم؛ فالفلسطيني مسلماً كان أو مسيحياً مازالت لديه القدرة علي العطاء والتسامح دون أن يفقد إنسانيته، بينما المحتل هو الذي يمارس قسوة وقهراً وعنفاً. وإذا كان الرجل خرج بالسيارة ونجح في العودة إلي الطريق إلا أنه ترك وراءه تمثال «العذراء» مكسوراً ينزف دماً حقيقياً. والسلام عليك يا مريم.. كانت هذه بعضاً من أفلام أنعشت عقولاً.. وحققت متعة لجمهور وأبناء الأقصر.. الذين يعانون من الكساد السياحي بصورة يعجز القلم عن وصفها. وحقاً في المهرجان حياة..