الغنوشى وعاكف يكره نفر من قادة إخوان مصر ابن جماعتهم، الأب الروحي لحركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي.. كاريزما الزعامة لدي الأخير وانفتاحه التاريخي علي العالم الغربي الليبرالي، والقدرة علي تحويل الأفكار الإخوانية الجامدة المعتمة، إلي نسق حداثي قابل للحياة في العصر الآني، كانا سبب غيرة قادة التنظيم الأم منه، وخاصة بعد ثورات الربيع العربي، خشية أن يسحب بساط الزعامة من تحت أقدامهم.. غير أن المفارقة المؤلمة بالنسبة لهم أن الرجل دون غيره صار وحده طوق النجاة للجماعة في مصر. واعترف زعيم النهضة التونسية مؤخرًا، وبعد أسابيع عدة من اللف والدوران والتلميح والمعلومات المبتورة، أنه طلب رسميا من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أن تتوسط الرياض تحت قيادة الملك سلمان بن عبد العزيز، للمصالحة بين الإخوان والنظام في مصر، قاطعًا بأن عددًا من قادة التنظيم الدولي للإخوان، وفي مقدمتهم، يوسف ندا، يؤيدون تلك الخطوة. حسب، قيادي التنظيم الدولي السابق، كمال الهلباوي، يعد ذلك هو الاعتراف الإخواني الأول الصريح، بأنهم من يسعون للمصالحة، ولكن وكعادتهم عبر البوابة الخارجية، وعبر استخدام الضغط العربي والإقليمي والدولي علي مصر. علي هذا النحو يمكن تفسير سبب تصريحات الغنوشي يوم وقفة عرفات لقناة فضائية ذات ميول إخوانية، بأن القاهرة لا تريد المصالحة، وأنهم هم من يصرون عليه، علي حد زعمه. ووفق معلومات حصلت "آخر ساعة" عليها من كادر إخواني وسيط، أقام لفترة غير قصيرة في لبنان بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، منتصف أغسطس 2013 فإن الرؤية الأساسية التي يروج لها الغنوشي للمصالحة تعتمد علي اعتزال الجماعة في مصر السياسة لفترة طويلة تمتد لسنوات عدة، في مقابل الإفراج عن قادة السجون وتهدئة الشارع، ونسيان قصة شرعية محمد مرسي تمامًا. لكن كثيرين من قيادات إخوان الداخل، سواء المسجونة أو الهاربة، تأبي أن تعرض صيغة للمصالحة مع الدولة علنًا، خشية أن ينفرط عقد الجماعة الممزق علي نحو ما، جراء الغضب المتوقع من جانب قواعد التنظيم التي تعيش علي وقع مظلومية كبيرة بعد فض رابعة العدوية، وعقب شحن تلك القواعد بخطاب تصعيدي تهييجي عنيف من جانب منصة الاعتصام، فضلا، كما يقطع الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية طارق أبو السعد، عن نية مسؤولي التنظيم في خلق ما يمكن اعتباره بابًا للعودة عن طلب المصالحة ومن ثم يتمكنون من مساومة النظام إذا ما قدر لهم الدخول في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة معه. وبالتالي، حسب المعلومات المتاحة، ستكتفي الجماعة بمغازلات من جانب فريق القيادي الفار، محمود عزت، عن تطليق العنف، وتحميل فاتورته لفريق مكتب إرشاد فبراير 2014 بزعامة الهارب محمد كمال.. ولا تبدو تحركات الغنوشي للمصالحة بين الإخوان والدولة من باب اختلاف كبير بينه وبين أقرانه في الجماعة الأم، فالجانبان يستظلان بهدف أعلي يرتبط بسيادة العالم بعد تمكين أستاذية حسن البنا منه، إلا أن ذلك لا يمنع وجود اختلافات سياسية وفنية في التكتيك بين الفصيل الأم في بلاد النيل والذراع الفرعية في "تونس الخضراء"، وهي تمثل في جوهرها تباينات شاسعة في منهجية الاستفادة من الأخطاء، وقبل هذا وذاك طريقة التخطيط الاستراتيجي لمستقبل الكيان. بالقطع لا تستهدف حركة النهضة صلاح مصر في ظل وجود الإخوان مجردًا من الهوي.. من تربي علي أن جماعته فوق كل جماعة ودولة ومجتمع، يظل منحازًا لها ولو لم يحافظ علي بعض مكاسبها الخاصة مؤقتًا.. لكن النهضة وزعيمها يتعاملان ببراجماتية واضحة. في الحالة التونسية آثرت النهضة تحت قيادة الغنوشي المواءمة لتظل في قلب المعادلة السياسية بالبلاد دون أن تدفع باقي المكونات الحزبية والعمالية والشعبية الفاعلة هناك، لاتخاذ قرار بتنحيتها جانبًا. النهضة التونسية، أرادت البقاء ضمن الائتلاف الحكومي، مع الاحتفاظ بتكوين معارض يضمن لها الثناء والارتباط السياسي والعضوي القاعدي من جانب كوادرها الشابة، فيما أن ذلك يقربها بطبيعة الحال، من إمكانية استعادة السلطة المفقودة في المستقبل القريب. إخوان تونس يثبتون من جديد أنهم تعلموا من خطأ الجماعة الأم بمصر.. أن تكون جزءا من المشهد، وأن تسعي بجد لتصبح فاعلا في إدارته نحو الصلاح لا نحو استنزافه، هو الضمانة الوحيدة للبقاء في قلبه، والسبيل الوحيد لحكمه يومًا ما.. ذلك هو الدرس الذي لم يستوعبه التنظيم المصري.. ولذا سيدفع الثمن أكثر.. ولعل أن الرسالة التي بعث بها راشد الغنوشي لإخوان مصر، يلومهم فيها علي طريقة إدارتهم للأزمات أثناء حكم مرسي، وبعد إزاحتهم عنه، ربما كانت هي ذاتها نهجه في التعاطي مع الحالة السياسية في بلاده.. هو انتهج عكس ما انتقده في التنظيم الأم. الغنوشي قال في رسالته الشهيرة قبل أشهر عدة لإخوان مصر علنًا: سياستكم مرتبكة.. ارتجالية.. متمردة.. صبيانية. اعترف بأنهم تفرغوا للدس، والتخوين، والتفرقة بين الناس، والاستحواذ علي السلطة، وإقصاء الآخر. كما حمل لهم عروضًا في صورة ضمانات أوروبية بترك العنف، مقابل عودة آمنة لقلب المشهد العام والسياسي المصري.. لكن لا حياة لمن تنادي. والثابت أن النهضة الإخواني التونسي حاول تكرار سيناريو الأخونة والاستحواذ والهيمنة الذي مارسته الجماعة الأم في مصر، إبان حكم مرسي، في بلاده. غير أن صفعة 30 يونيو كانت مدوية. هنا تدخلت الولاياتالمتحدةالأمريكية تحاشيًا لإخفاق جديد مماثل لما جري في بلاد النيل.. حاولت إنقاذ بقية أذرع حليفها الإخواني في المنطقة، فتحركت عبر واجهتها باريس، لاحتواء الوضع في تونس، قبل أن تجبر النهضة والغنوشي علي التراجع عشرات الخطوات إلي الخلف، حتي لا ينهار مشروع جماعته للأبد.. لكن الفيصل في القصة كلها، أن إخوان تونس لم يكابروا.. خضعوا ولو بعض الشيء حفاظًا علي مكاسبهم التي نالوها بعد الإطاحة ببن علي. لتلك العقلية النفعية الناجعة يكره إخوان مصر إخوان الغنوشي بتونس، وربما لهذا السبب رفض في السابق الفريق الأول نصيحة نظيره الثاني الرامي لإنقاذهم عبر جولات إقليمية ودولية عدة لاستنهاض قوي ضغط علي القاهرة لإقرار مصالحة مع الجماعة، بالتنازل وترك العنف وتحييد العمل السياسي علي أمل أن يجد التنظيم نافذة للنجاة والبقاء علي قيد الحياة. ولأن الوضع علي الأرض في مصر لم يعد يتيح أي بصمة للإخوان، فإنهم "أصبحوا مجبرين علي لعق حذاء الرجل الذي يكرهونه (الغنوشي)، بعد ما صار طوق النجاة الوحيد لهم"، يقول أحمد بان بنبرة تهكم. قادة التنظيم الدولي، بعضهم لا كلهم، يميلون للسياسة البراجماتية الغربية.. ما لا يدرك كله لا يترك كله.. إذا ضاعت الرئاسة والسلطة، فإن التنظيم باق حتي الآن.. إحياء تواجده في قلب المشهد السياسي المصري، ولو بشكل رمزي، لا مفر منه. هؤلاء يميلون لرؤي واشنطن وبروكسل، وللتجربة الإخوانية التونسية.. التعامل مع الأمر الواقع أكثر نفعاً من المكابرة.. يرون في نموذج تونس راشد الغنوشي تجربة ناجحة تستحق الدراسة والتأمل.. الخضراء كانت تهرول علي طريق مصر الإخوان في 30 يونيو.. لكن أهل الحكم من الجماعة هناك، أبوا أن يسيروا علي نهج خيرت الشاطر ورفاقه.. انحنوا لعاصفة التمرد ضدهم، قبلوا بالشراكة، لم يترددوا في التنازل.. النتيجة: مرت الزوبعة، ولم تتزحزح أقدامهم كثيراً من السلطة. إذن، الغنوشي الآن يعيد المحاولة مرة أخري لإنقاذ الجماعة، لكن بعيدًا عن الوسيط "الخواجة"، ومن خلال اللعب علي حالة المهادنة الجديدة بين الرياض والإخوان، في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز. ويبقي الفيصل في نجاح مساعي الغنوشي، كما يشير طارق أبو السعد، في قدرة فريق محمود عزت علي بسط نفوذه كاملا علي التنظيم في مصر، وعلي لجانه النوعية العنيفة، وعلي الأصوات التي تنفخ في نيران التصعيد وحرب الشوارع تجاه الدولة، وذلك إذا كانوا جادين فعلا في مصالحة. ويبدو أن فريق عزت قد قدم استجابته لنصائح الغنوشي علي الفور، ومن ثم تم تعميم سياسة إخوانية مالية جديدة داخل التنظيم، تقوم علي حرمان أي عضو يخالف الأوامر التنظيمية، أو يتعامل مع مكتب إرشاد فبراير 2014 الموازي، من أي دعم مادي من قبل مكتب الإرشاد بما في ذلك الدعم المالي الذي تقدمه الجماعة لطلبة الجامعة مع بدء العام الدراسي، علاوة علي منع التمويل والدعم المالي عن أي رموز محسوبة علي تنظيمات العنف المسلح في الخارج والداخل، وهو ما انعكس في حالة التخلي الواضحة من جانب الإخوان عن نفر من قادة الجماعة الإسلامية الهاربين، وفي مقدمتهم عاصم عبد الماجد وطارق الزمر، ما دفع الأخيران لقيادة هجوم عنيف علي رجال محمد مرسي واتهامهم ببيع "القضية"..