يعتبر البغاء من أقدم الوظائف التي عرفتها البشرية، فهي تجارة رائجة لكثرة الباحثين عن المتعة الحرام، علي الرغم من الموانع الدينية والاجتماعية، لذلك لم تخل فترة تاريخية من تاريخ مصر من وجود أحد أشكال الدعارة، منذ زمن الفراعنة وحتي يومنا هذا، وإن تغيرت الأشكال والمسميات فإن الأصل يظل واحدًا: البحث عن المتعة. قديما عرفت الحضارات القديمة البغاء لكن داخل أسوار المعابد كطقس جنسي يمارس من أجل مجد الآلهة، ويعرف ب"العهر المقدس"، خصوصا في الهند، باعتبارها وسيلة للتقرب من الآلهة، حيث كانت العذاري يرمزن إلي زوجة الإله، وكانت ممارسة البغاء تتم في غرف مخصصة في المعابد تحت إشراف الكهنة كواجب ديني يتطهر به المرء من شهواته، كما توجد بعض المذاهب الفلسفية اليونانية القديمة التي رأت أن الانغماس في حياة الرذيلة مقدمة ضرورية للوصول إلي مرحلة الزهد، فكان أتباع هذه المذاهب يمارسون البغاء. ولم يخل الأدب العربي من حكايات وقصص البغايا فألف ليلة وليلة تعج بالقصص ذات الطابع الجنسي التي تدور في عالم البغاء، كما شهد بلاط الدولة العثمانية في استانبول ظاهرة البغاء، فقد خصص جناح السلطان، الذي كان يعد الذكر الوحيد الذي يمارس الجنس مع جواريه، ولأن عدد الجواري كان كبيرًا كانت البعض منهن تلجأ إلي البغاء بعيدًا عن احتكار السلطان. وكان لانتشار الروايات الخيالية عن الجنس والبغاء في الشرق في أوروبا أن تكونت صورة ذهنية عن الشرق باعتباره أرض الملذات الجنسية، لذلك لم يهتم الأوروبيون عندما جاءوا إلي مصر إلا برسم صور البغايا علي نحو ما يظهر في الكثير من لوحات المستشرقين التي لا تزال موجودة حتي الآن. وتم الاعتراف من قبل السلطات العثمانية بالدعارة وكان رجال الشرطة يقومون بجمع الضرائب وتحصيل الرسوم من البغايا والمغنيات والعوالم، وخلال وجود الحملة الفرنسية في مصر (1798-1801م) أقامت في غيط النوبي المجاور لحي الأزبكية أبنية مخصصة للبغاء، وفرض الفرنسيون علي من يريد دخولها رسما معينا إلا إذا كان مصرحا له بورقة يحملها صادرة من السلطات الفرنسية تبيح له الدخول دون أجر. واستمرت ظاهرة البغاء في الفترة الأولي من حكم أسرة محمد علي، ففي يوليو 1885 صدرت لائحة مكتب التفتيش علي العاهرات، وتقرر معها إنشاء مكاتب صحية لفحص النساء المشتغلات بالبغاء في القاهرة والإسكندرية، من خلال تسجيل العاهرة اسمها في المكتب لإجراء الكشف الصحي عليها كل شهر، وهو ما يعد أول اعتراف رسمي بالعاهرات في تاريخ مصر الحديث، ويرجع ذلك فيما يبدو إلي توفير المتعة الجنسية لجنود الاحتلال الإنجليزي دون عواقب صحية. ونشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي وثيقة عن استمارة قديمة مكتوب عليها "رخصة الإدارة المحلية عن فتح محل عاهرات" بتاريخ سنة 1885 لامرأة تدعي نور العيون مهدي، وجاء في مضمونها: "إنه بناء علي التماس العاهرة المذكورة أعلاه فتح محل للعاهرات باسمها وعلي مقتضي المادة (16) من لائحة النسوة العاهرات الصادر عليها قرار نظارة الداخلية وتصديق مجلس النظار المؤرخة في 2 شعبان 1302 هجريا موافق أول يونية 1885 القاضية بأن كل من يرغب من الأوربيين أو من أبناء العرب فتح محل للعاهرات يجب عليه أولا أخذ رخصة بذلك من الإدارة المحلية، وهذه الرخصة تكون دائما قابلة للإبطال ويعطي مهلة ثلاثة شهور للأشخاص الذين لهم محلات الآن لأجل حصولهم علي هذه الرخصة قد تحررت هذه الرخصة بيدها". ووفقا للدكتور عبدالوهاب بكر، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الزقازيق، يسجل عام 1905 البداية الحقيقية للبغاء المنظم في مصر، فقد صدرت فيه "لائحة بيوت العاهرات"، التي نظمت نشاط المشتغلين في الدعارة لأول مرة بصفة رسمية، والذي وضع عدة شروط للعمل في البغاء أهمها ألا يقل سن المرأة العاملة عن 18 عاما، كما تم تحديد مستشفي الأمراض التناسلية بالحوض المرصود بحي السيدة زينب للكشف علي المومسات كل أسبوع. وكانت البغايا يتوجهن صوب الحوض المرصود في تجمعات أشبه بالمظاهرات فكن يأتين راكبات حناطير، ويتميزن بارتدائهن لملابس تكشف أذرعهن ونحورهن، وأنهن كن يتسامحن في تغطية أفخاذهن ومواضع أخري من أجسامهن، وأن وجوههن وشفاهن كانت مطلية بكميات كبيرة من مساحيق التجميل، فلم تكن العين لتخطئهن بسبب مظهرهن اللافت، خاصة أنهن كن يطلقن الزغاريد عند وصولهن إلي مبني الحوض المرصود، المخصص لإجراء الكشف الصحي عليهن. في المقابل، ومع ارتفاع وعي المصريين بعد ثورة 1919 بدأت الأصوات تتعالي بضرورة محاربة البغاء، وبدأ الرأي العام في المطالبة بتضييق الخناق علي هذه المهنة، وتكللت هذه المطالب بإصدار قانون رقم 68 لسنة 1951 والذي وقع لأول مرة في تاريخ التشريع المصري عقوبة بالحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن 25 جنيها ولا تزيد علي 300 جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين، وهكذا تم تأثيم كل أعضاء ظاهرة البغاء سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا. لكن هذا لم يمنع من استمرار ظاهرة البغاء وإن بشكل سري، وطوال عصر الاحتلال الإنجليزي تحول شارع كلوت بك بوسط البلد، إلي المقصد الرئيسي لطالبي البغاء خاصة الأجانب وجنود الاحتلال الذين تراوحت أعدادهم في القاهرة بنحو 127 ألف جندي، فيما كان حي باب الشعرية مركزا لبغاء أولاد البلد، طوال فترة العشرينات من القرن الماضي. وارتبط بنشاط البغاء ظاهرة الفتوات، فشارع كلوت بك كان يحكمه فتوة يتولي عملية حماية الشارع من المتطفلين مقابل جمع الإتاوة من بيوت الدعارة، ولأن العائد المادي كان كبيرا فإن فتوات الحارات والأحياء الشعبية في القاهرة نظروا نظرة حسد لفتوة كلوت بك، وكان ذلك سببا في الكثير من المعارك في محاولة منهم لاحتلال مكانة فتوة كلوت بك، الذي لم يجد مفرا من تقديم تسهيلات وخدمات مجانية لبقية الفتوات عند زيارتهم لشارع البغاء. ويرصد كتاب "مقتل الراقصة الحسناء امتثال فوزي"، الصادر في 1936 كيف أن وفاة هذه الراقصة التي عملت في كازينو بديعة مصابني، وعرفت بارتباطها بمجتمع البغايا، فامتثال فوزي دخلت في صدام مع الفتوات وأرادت السيطرة علي المجتمع الليلي في القاهرة بكل ما يحمله من مغني ورقص وبغاء، إلا أن احد الفتوات رفض هذا الأمر، وقرر الانتقام منها عندما قررت أن تستقل بتجربتها في كازينو خاص بها تدير منه عملياتها الليلة، فقام الفتوة بالهجوم عليها بعد افتتاح الكازينو بأيام قليلة، وقام بذبحها لتكون عبرة لمن يعتبر، لكن هذه الجريمة كانت السبب في التضييق علي الفتوات والعمل علي تصفية نفوذهم من قبل الدولة. من جهته، روي مصطفي اللمبي ابن آخر فتوات بولاق حسن اللمبي، قصة حصول والده علي لقب اللمبي، قائلا ل"آخرساعة": "أصل تسمية أبي باللمبي ترجع إلي أيام الاحتلال الإنجليزي عندما كان في أحد خناقاته في شارع كلوت بك، وبعد أن هزم فتوة المنطقة وفرض سيطرته علي المكان، اتضح أن فتوة كلوت بك كان متحالفا مع البوليس الذي جاء وانهال بالضرب علي أبي، إلا أنه لم يبد تأثره بأي من هذه الضربات وتحملها في شجاعة، فما كان من القائد الانجليزي إلا أن أعجب بشجاعته وأطلق عليه لقب اللنبي القائد الإنجليزي الشهير تشبيها له في شجاعته وجراءته ومن هنا التصق اللقب بأبي وعمي والذي حرف إلي اللمبي علي لسان الناس".