لديهم هي البُعد عن السياسة! أو بمعني أصح تجنب شرورها والإفلات من أنيابها، بيد أن الأمر حين يتعلق بمصير بلدهم تجدهم في أول الصفوف، لكن علي طريقتهم الخاصة التي تعكس عزوفهم عن السياسة ورغبتهم فقط في استقرار البلاد بعيداً عن فلسفة أصحاب الرأي والنشطاء السياسيين والمنتمين للأحزاب علي اختلاف مسمياتها وتوجهاتها السياسية والأيديولوجية. هؤلاء باختصار هم "حزب الكنبة" أو بالأحري الأغلبية الصامتة. د.أحمد مجدي حجازي: الصامتون هبوا لاستعادة وطنهم المسلوب في 30 يونيو مع اندلاع ثورة يناير 2011 اختار "الكنباوية" البقاء في موقع المتفرِّج والمتابع لتطورات المشهد الدراماتيكي السريع. بعضهم أُعجب بالثورة وأيِّد مطالبها "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، بينما كثيرون لم يشغلوا بالهم بها، وبقي جميعهم قيد "الأرائك" لم يبرحوها. ظلت الأحداث في تسارُع وتصارُع. تشابُك وتماوُج. نجوم جُدد يتجلون في عالم السياسة وآخرون يأفلون، بينما هؤلاء علي مقاعدهم باقون، إلي أن صعد "الإخوان" إلي الحكم، وسعوا إلي فرض سياسة التمكين، ومارسوا أقبح صور السلطة الغاشمة، وخلال عام من حكم الرئيس الإخواني "المعزول" محمد مرسي بدأت بوادر الحلحلة وتنبه أنصار حزب الكنبة إلي الخطر الداهم الذي من شأنه أن يطيح بالجميع، ليكتمل المشهد في ثورة 30 يونيو 2013 باصطفاف الكنباوية إلي جوار ملايين المصريين في الشوارع مطالبين بإسقاط حكم "الجماعة". الأغلبية الصامتة كان لها دور فاعل ومؤثر في التخلص من الغطرسة الإخوانية والخيانة المتجذرة في أتباعها، وكان المشهد اللافت أن شارك هؤلاء الصامتون من كبار السن والشباب وربات البيوت في ثورة 30 يونيو، بالنزول بمقاعدهم إلي الشارع قُرب منازلهم، في حين ارتأي "كنباوية" آخرون من جيل الشباب الالتحام بفاعلية في السيل البشري الذي سد فراغ الشوارع، وأطاحت "شرعية الشعب" بحكم جماعة الإخوان. قراءة لحزب "الكنبة" وسر خروجه عن صمته في "30 يونيو" قدَّمها بأسلوب علمي أستاذ الاجتماع السياسي العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة القاهرة الدكتور أحمد مجدي حجازي، حيث يميل إلي تسميته بمصطلح "البيوتية" أو كما هو متداول بالإنجليزية Silent Majority وترجمته بالعربية "الأغلبية الصامتة، حيث يوضح حجازي أنه من المصطلحات الدخيلة علي القاموس السياسي والاجتماعي الذي انتشر في أرجاء بلدان الربيع العربي، وفي مصر بعد ثورة يناير، وبات متداولاً في المستويات كافة في بلدان مارست وتمارس فعل الانتفاضة الثورية، وعُرف في مصر ب"حزب الكنبة" واكتسب زخماً عظيماً في الفضاء السياسي والإعلامي "التهكمي" باعتباره يعبر عن فئات تنتمي للشعب لكنها عازفة عن المشاركة السياسية أو بعبارة أخري يتم توصيف تلك الفئات بأنها تظل قابعة في بيوتها أمام شاشات التلفزيون تترقب بلا وعي أو ب"وعي انسحابي" ما يدور من مشاحنات إعلامية دون أن تنخرط في الحياة السياسية العملية.. إنها دائماً تجلس علي أريكة تحت مظلة تقبع علي رصيف محطة القطار في حالة ترقب للوصول. يتابع: سيولة تداول هذا التوصيف أدي إلي تناقضات في الفكر والممارسة فمن يري سلبية مطلقة لدي من ينتمي إلي أعضاء تلك الشرائح الصامتة ومن يؤكد أن صرخاتهم المكبوتة تنتظر من يناديها لتنطلق بقوة غير متوقعة وهناك فريق ثالث ينحاز إلي مقولة تنتمي إلي الاتجاه الفكري المحافظ في الحراك الاجتماعي أو باللغة الدارجة التي يعكسها المثل الشعبي "إبعد عن الشر وغنيله"، حيث سيطرة الرغبة لديهم في تجنب الصراع الاجتماعي، وفي كل الأحوال فالنظرة إليهم خاصة لدي من يطلقون علي أنفسهم نشطاء سياسيين سلبية إلي حد كبير، إلا أن الأمر تحوَّل بعد 30 يونيو فكان صادماً لهؤلاء النشطاء، حيث ثبت أن أعضاء حزب "البيوتية" تخلوا عن صمتهم المكنون وانتشروا في الشوارع والميادين في مقدمة الصفوف الثورية يطلقون صرخاتهم المدوية يؤيدون حركة التغيير الكلي ويدعمون الفكر الثوري وفي الحقيقة فإن الحركة الشعبية التي انطلقت بلا حدود وبإرادة واعية من "الصامتين إلي حين" كانت بمثابة دعم للمؤسسة العسكرية الصلبة في صراعها من أجل المواطن وبهدف استعادة ما فقدته مصر، تلك الأمة التي تم اختطافها واغتيال ثورتها تحت هيمنة "الاحتلال الإخواني" لمؤسسات الدولة وفي مواجهة الإسلام السياسي المدعوم من خارج الوطن، ذلك الفصيل المتأسلم الذي جاء في غفلة من الزمن وبوعي مزيف من قبل نخب فقدت لأسباب معروفة سلفا رشدها وعقلانية التفكير، حيث تبنت رؤية مغلوطة عن العالم الواقعي وانحازت لذلك الفريق الذي اغتال الثورة وتمكن من السيطرة علي الحكم واتخذ أسلوباً يرتكز علي أخونة مؤسسات الدولة لتحقيق حلم ظل حبيس النفوس الإخوانية منذ تأسيس الجماعة عام 1928. ورغم ما يشيع عن كينونة حزب "البيوتية" والتوصيفات المغلوطة في هذا السياق إلا أن الدلائل تؤكد بناء علي تحليل أوضاعهم من خلال منهج التحليل الثقافي ورؤي العالم وهما متعارف عليهما في علم الاجتماع المعاصر والاقتصاد السياسي في مرحلة ما بعد الحداثة أن تلك الفئات تصرخ بقوة وتشارك بفعالية حين تأتي الفرصة الحقيقية لتبرز قوتها فتقوم بدور "المثقف بالخبرة" الذي ينتقل من حالة المثقف التقليدي إلي حالة المثقف العضوي، وفقاً لمفهوم "جراتشي" ذلك الشخص الفاعل الذي يتخذ موقفاً داعماً للحركة الثورية بلا مبالغة أو نظير شو إعلامي.. ويعزز الدكتور حجازي رأيه بشأن الدور المهم للجموع الشعبية الصامتة، بالإشارة إلي الزخم الشعبي الذي انتشر في الشوارع يوم 28 يناير 2011 الذي تحوَّل إلي كتل بشرية نزلت من بيوتها للدفاع عن وطنهم في ظل حالة الانفلات الأمني التي سيطرت وقتذاك، ولولا تلك التكتلات البشرية الشعبية التي انتشرت في ربوع البلاد للدفاع الشعبي تلقائي التشكُل لكانت عواقب الانفلات ستؤدي إلي مأسأة ذات نتائج كارثية.