عناصر داعش فى الرقة لقي الرجل حاد الذكاء مصرعه بسبب حسبة خاطئة قلما تصدر عمن هم مثله، ولكن هذا ما حدث وكلفه حياته، وبعدما لفظ أنفاسه الأخيرة، وضعه قاتلوه في ثلاجة لحفظ الموتي، قبل أن يتبينوا أن من أمطروه برصاصاتهم ليس شخصاً عادياً. سمير العابد آل محمد الخيلفاوي هو الاسم الحقيقي لرجل عراقي حاد الملامح، خفف من قسوتها لحية بيضاء، بل وحتي كنيته "الحاج بكر" لم تكن معروفة لكثيرين، إذ إن ذلك جزء من خطة تمويه علي شخصية عقيد سابق في المخابرات الجوية العراقية، في عهد صدام حسين، ومؤخرا كان مسئولا عن الكثير من الأمور داخل داعش، ووصفه منشقون عن التنظيم بأنه أحد أهم العقول المفكرة ولكن لا أحد يعلم دوره في التنظيم علي وجه الدقة. ولكن بعد مقتل مهندس الدولة الإسلامية، ترك خلفه شيئاً كان من المفترض أن يبقي سراً دفيناً وهو "خطة إنشاء تلك الدولة". مجلة دير شبيجل الألمانية، وبعدها صحيفة لوموند الفرنسية، كان لها السبق في الحصول علي ملف ضخم باللغة العربية ومكتوب بخط اليد، ومن بين هذا الملف 31 ورقة توضح كيفية إنشاء تنظيم الدولة في شمال سوريا وتمددها في العراق، كما تكشف تلك المستندات دور ضباط عراقيين، كانوا مقربين من صدام حسين، في إدارة تنظيم داعش، وأن أبو بكر البغدادي ليس سوي عروسة ماريونت يحركها أحدهم من وراء ستار. بداية المشروع كانت في أوائل عام 2012 حيث لم يكن هناك من يتحدث عن شيء اسمه الدولة الإسلامية، وكان الحاج بكر عضوا في مجموعة صغيرة لديها مشروع مجنون اسمه إنشاء دولة إسلامية، وكانت الفكرة تعتمد علي الاستيلاء علي أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية، استغلالا لحالة الفوضي الناجمة عن الحرب الأهلية، والانطلاق من تلك الأراضي نحو العراق، واختار الحاج بكر منزلا سريا صغيرا في قرية تل رفعت بشمال حلب ولم يكن اختيار حلب من قبيل المصادفة إذ من المعروف عنها أن غالبية سكانها عملوا في دول الخليج، وفي المملكة العربية السعودية علي وجه التحديد في حقبة الثمانينيات، وعاد معظم أبناء المدينة وهم يحملون أفكار الإسلام السني المتشدد، وفي 2013 أصبحت تل رفعت المعقل الأول لتنظيم الدولة الإسلامية، وهناك رسم الحاج بكر الهيكل الأمني لدولته وحدد اختصاصات الأجهزة والأفراد وحدد من يراقب من، وكان ذلك مكتوباً بخط اليد علي أوراق تابعة لوزارة الداخلية السورية تم الاستيلاء عليها من إحدي المديريات. من خلال ما كتبه الحاج بكر يتضح أنه شخص لم يكن يهتم بالعقيدة والدين في حد ذاتهما، وإن كان هدفه إنشاء دولة بوليسية إسلامية أو دولة "شتازي الخليفة" (شتازي هو وزارة أمن الدولة Ministerium für Staatssicherheit في ألمانياالشرقية (سابقاً، والمعروف اختصاراً "بشتازي" وهي اختصار للكلمة الألمانية Staatssicherheit وتعني حرفياً أمن الدولة، واستخدم الحاج بكر ستار مراكز الدعوة وتحفيظ القرآن لاختيار تابعيه مع تجنيد شخص أو اثنين في كل مركز للتجسس علي الحي الذي يقطن فيه. وكان أهم ما يُطلب جمعه من معلومات، هو حصر العائلات المقتدرة، والأشخاص المهمين في كل عائلة ومصادر دخل العائلة، وتحديد الأشخاص الذين يحملون السلاح ضد النظام، ومعرفة أسماء شيوخ العشائر الممولين لهم ومعرفة ما إذا كان لهم ميول للشذوذ الجنسي أو أنشطة تخالف الشريعة الإسلامية لاستخدام ذلك كنوع من الابتزاز عند اللزوم، وكتب الحاج بكر: "من المهم أن ندرب هؤلاء علي القتال جيدا قبل أن نطلقهم في الطبيعة، كما من المهم أن يتزوج مقاتلونا من فتيات كبار العائلات الشامية حتي نخترقهم ونعرف أدق أسرارهم". كان الحاج بكر يهدف لمعرفة أدق التفاصيل عن كل عائلة بل وعن كل فرد في حلب، ومن خلال الوثائق يتبين أن جواسيسه كان من بينهم من هو لديه الخبرة من خلال العمل مع المخابرات العراقية في السابق، وأن آخرين كان عمرهم يتراوح بين ال17 وال20 عاما ووجدوا أن هذا العمل مثير ومربح، وكان في كل بلدة أمير ووحدة للاستخبارات ووحدة للخطف وأخري للقتل، للتخلص ممن يثبت أنه لا يؤدي العمل المطلوب منه، وكان هناك أمير يراقب جميع الأمراء، وكان لكل حي وحدة استخباراتية خاصة به، ولكل وحدة رئيس معلوم وآخر مجهول يراقبه وجميع أفراد الوحدة، فضلاً عن عضو في الوحدة ينقل كل كبيرة وصغيرة عن زملائه لرئيس الحي، إضافة لقضاة شرعيين يجمعون المعلومات لأجهزة المخابرات التي كانت تقع تحت إشراف أمير إقليمي.. باختصار كان الكل يراقب الكل وأن الحاج بكر يسير علي نهج صدام حسين في إنشاء دولة مخابراتية مترامية الأطرف وصفها الكاتب العراقي كنعان مكية في كتاب بعنوان "جمهورية الخوف"، مؤكداً أن أي ضابط في دولة صدام أياً كانت رتبته لم يكن بمنأي عن المراقبة والعرضة للقتل والخطف في أي لحظة لمجرد الشك أن نظرات عينيه تحمل شئيا غامضاً. وثائق الحاج بكر لا تحتوي علي أي شيء يخص الدين الإسلامي أو فضائل النبي محمد([) أو دولة الخلافة التي تؤمن بها تيارات الإسلام السياسي، ذلك لأن الرجل كان يؤمن بأنه لا يمكن تحقيق انتصار بمعتقدات دينية فقط أياً كانت درجة تشددها، ولكن يمكن الاستفادة من إيمان الآخرين، ومن هنا قام الحاج بكر ومجموعة من ضباط المخابرات العراقيين في عهد صدام حسين، بانتخاب أبوبكر البغدادي رئيسا لتنظيم الدولة الإسلامية، البغدادي رجل متدين وفقيه وبإمكانه إعطاء التنظيم وجهاً دينياً بامتياز، ويؤكد الصحفي العراقي هشام الهاشمي هذه الفكرة بقوله: "الحاج بكر كان قومياً وليس إسلامياً، لقد كان صديقاً لعمي في قاعدة الحبانية الجوية". وتشير الوثائق إلي أن الحاج بكر تعرف علي أبومصعب الزروقاوي (الزرقاوي الأردني الأصل)، كان قيادياً مُهمشاً في تنظيم القاعدة، واستوطن كردستان العراق بدءًا من العام 2002 حيث أسس تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وكان يتبع لأسامة بن لادن، واكتسب شهرته من أنه كان في طليعة مقاومي الغزو الأمريكي للعراق الذي بدأ في مارس 2003، واكتسب الزرقاوي شهرة مرعبة بخطف المقاول الأمريكي نيكولاس بيرج وظهر في مقطع فيديو وهو يذبحه كالنعاج. كان الزرقاوي يري ضرورة قتال الشيعة والأمريكان علي حد سواء، بينما كان الظواهري وبن لادن يريان مهادنة الشيعة حتي لا يتحول الجهاد إلي فتنة، وكانت المخابرات الأمريكية اعترضت رسالة في ربيع 2006 من بن لادن للزرقاوي يهدده فيها بالعزل من إمارة العراق إن لم يتوقف عن قتال الشيعة وإرسال الانتحاريين إلي مناطقهم، قبل أن يلقي الزرقاوي نفسه مصرعه في يونيو 2006 في غارة أمريكية علي منطقة ديالي التي ينحدر منها أبو بكر البغدادي. بمرور الوقت أصبح الحاج بكر قياديا في صفوف المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، وفي الفترة من 2006 إلي 2008 تم اعتقاله ووضعه في معسكري أبوغريب وكامب بوكا الواقع علي الحدود الكويتية العراقية، واستغل الحاج بكر تلك الفترة في توطيد علاقته بالكثير من الإسلاميين المعتقلين معه. وحتي في اختيار المقاتلين اتبع الحاج بكر تكتيكاً معقداً بعض الشيء، حيث كان يتجنب قدر الإمكان تجنيد مقاتلين عراقيين وسوريين في تنظيم الدولة، وكان يفضل معتنقي الفكر الجهادي القادمين من السعودية وتونس ومصر والسودان إضافة للقادمين من أوروبا مع الاعتماد علي مقاتلين من الشيشان وأوزبكستان لديهم خبرة قتالية لتدريب الوافدين الجدد. طبيب سوري من حلب قال لدير شبيجل: "في البداية كانوا يعاملوننا كإخوة ولم يقل أحد ينطق كلمة الدولة الإسلامية"، وتضيف محامية من حلب أيضاً: "في البداية لم نكن نعرف من هؤلاء المقاتلون الجدد الوافدون علي المدينة، لم يكن يشغل بالنا سوي قصف طائرات النظام، ولكن حينما بدأ القتال في يناير 2013 بدأنا نفهم، كانوا يستأجرون منازل لتخزين الأسلحة.. وبمرور الوقت فهمنا كل شيء".