موجة من ردود الفعل المختلفة والآراء المتباينة خلّفها قرار محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، التي ألزمت الأسبوع الماضي الجهة الإدارية المختصة بقيد أبناء الزواج العرفي في سجلات مصلحة الأحوال المدنية بصفة مؤقتة باسم الأب الذي ذكرته الأم، إلي أن تقضي المحكمة المختصة في واقعة ثبوت نسب الطفل إلي والده من عدمه، وهو القرار الذي تلقته الدوائر المعنية بالانقسام بين مرحب ورافض، فالبعض رأي في القرار فرصة طيبة للحفاظ علي حقوق الأطفال ممن لا ذنب لهم، فيما رأي البعض الآخر أن الأزمة تكمن في خطورة إلحاق أبناء بأسماء رجال لا علاقة لهم إذا ما رغبت امرأة في الانتقام منهم، "آخر ساعة" استطلعت آراء الجانبين تاركة التقييم النهائي للقارئ. القرار القضائي يعد سابقة في تاريخ المحاكم المصرية بعدما ألزمت محكمة القضاء الإداري، برئاسة المستشار أحمد الشاذلي، نائب رئيس مجلس الدولة، في حكمها وزارة التربية والتعليم، بقبول الطفل في إحدي المدارس التي تتناسب مع مرحلته العمرية، واستندت المحكمة في حكمها علي أنه في ضوء أحكام الدستور وقانون الطفل وقانون الأحوال المدنية، فإن المشرع أعلي حق الطفل في نسبه إلي والديه وحصوله علي اسم يميزه في المجتمع ويحفظ له كرامته وإنسانيته ويتمتع بكل الحقوق ومنها الحق في التعليم والصحة، وهي حقوق أولي بالرعاية والحماية لكون الصغير يقع في مركز قانوني أعلي، ما قد يثور من خلاف حول صحة العلاقة الزوجية أو ثبوت النسب لوالديه أو أحدهما. القرار الجديد سيعمل علي تقنين أوضاع الكثير من الحالات الزواج العرفي، خاصة تلك المرتبطة بزواج القاصرات، وهي العادة المنتشرة حتي يومنا في العديد من قري الدلتا والصعيد علي حد سواء، فالكثير من أبناء القري يزوجون بناتهم في سن دون السن القانونية، عبر تواطؤ مجتمع القرية، فشرط الإعلان والقبول متوفر، لكن بعيدًا عن الأوراق الرسمية، والمتبع أن الفتاة عندما تبلغ السن القانونية تتوجه صحبة زوجها إلي أقرب محكمة لرفع قضية إثبات نسب لأبنائها، يعترف الزوج بعقد الزواج العرفي ويتم عقد القران أمام المأذون، ويتم تسجيل الأبناء ونسبتهم إلي الأب، القانون الجديد حل المشكلة، وهو ما يعني تيسير إجراءات الزواج العرفي. ورغم عدم وجود إحصاء رسمي بأعداد أطفال الزواج العرفي إلا أن مصادر بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أكدت ل"آخر ساعة" أن العدد لن يقل عن 200 ألف طفل في حاجة لإثبات نسب، إن لم يزد عن ذلك، خاصة أن منظمة اليونيسيف قدرت عدد أطفال الشوارع في مصر بنحو 2 مليون طفل، الجزء الأكبر منهم من أبناء الزواج العرفي وزواج السفاح. وتعج محاكم الأسرة بآلاف الحالات والقضايا المتعلقة بإثبات نسب لأطفال الزواج العرفي، وتعد قضية نسب أولاد الممثلة زينة إلي الفنان أحمد عز إحدي أشهر قضايا إثبات النسب في المحاكم مؤخرًا، ففيما أنكر عز واقعة الزواج العرفي من زنية تماما، رافضا الخضوع لتحليل"DNA" لإثبات نسب أطفال زينة أو نفيه، تمسكت زينة بتطبيق القرار الجديد معربة عن سعادتها به، وأنها ستلجأ للمحكمة لتسجيل ولديها باسم أحمد عز لحين انتهاء قضيتها ضده. إلا أن قضية الفنان أحمد الفيشاوي ونسب ابنته من هند الحناوي، كانت الأكثر شهرة قبل ثورة "25 يناير 2011"، ورغم إنكار الفيشاوي الصغير لنسب ابنته إلا أنه عاد واعترف بها رسميا فيما بعد. ومن أغرب قصص نسب الأطفال، تلك المتعلقة بقصة "أم محمود" التي قالت ل"آخر ساعة" إن مشكلتها بدأت عندما تزوجت وهي في ال 18 من عمرها بابن عمها الذي كان يعمل في إحدي الوظائف الحكومية، لكنه توفي في حادث سيارة، وحصلت هي علي "المعاش" الحكومي، وعندما رغبت في الزواج مرة ثانية اضطرت للزواج العرفي حتي يستمر صرف المعاش، لكن عندما أنجبت محمود رفض زوجي الثاني الاعتراف به، ما اضطرها إلي اللجوء للمحكمة، علي الرغم من إدراكها أن إثبات نسب ابنها محمود سيكون ثمنه ضياع المعاش، إلا أنها قررت الاستمرار في رفع الدعوي للنهاية. من جهتها، وصفت نجلاء عبد الحميد، المحامية في محكمة الأسرة بالجيزة، الحكم بالإيجابي، لأنه سيعمل علي حل مشاكل الكثير من الأطفال الذين يظلون بلا أوراق رسمية لسنوات دون أن يتم نسبتهم إلي آبائهم، مؤكدة أن الحكم يأتي كخطوة في الطريق الصحيح بعد الحكم القضائي الصادر في 2007 الذي ألزم الجهات المسؤولة بقيد الطفل الناتج عن الزواج العرفي واستخراج شهادة ميلاد له، بشرط أن يكون الأب معترفًا بوقوع الزواج وأبوته للطفل، ليأتي القرار الجديد ليفتح طاقة أمل لآلاف الأطفال في هذا الإطار، مشددة علي أن القرار سيعمل علي تحجيم ظاهرة الزواج العرفي، لأن الزوج عندما يعلم أن الابن الذي سينتج عن علاقة الزواج العرفي سينسب له في جميع الأحوال، سيجبر علي الالتزام بالضوابط القانونية. في المقابل، أعرب إبراهيم رياض المحامي، عن مخاوفه ل"آخر ساعة" من استغلال الحكم في إعطاء مشروعية للزواج العرفي والتشيجع عليه، مؤكدًا أن القرار في صالح الأطفال ولا شك، ولكنه قد يفتح الباب أمام الزواج العرفي، لافتا النظر إلي الجانب السلبي من القرار والمتمثل في مشكلة تباطؤ إجراءات التقاضي ما سيؤدي إلي نسب أطفال إلي أشخاص بعينهم لعدة سنوات دون صدور الحكم بإثبات هذا النسب، ما قد يؤدي إلي مشاكل في الميراث إذا ما توفي الأب مثلا دون إثبات النسب. القرار كان محل قبول واسع من قبل المؤسسات المعنية بحقوق الطفل، إذ رحبت المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة، بقرار محكمة القضاء الإداري، واصفة الحكم بأنه خطوة علي الطريق الصحيح لحماية الأطفال، وأكدت المؤسسة في بيان لها حصلت "آخر ساعة" علي نسخة منه أن الطفل يجب ألا يتم معاقبته بناء علي شكل العلاقة بين والديه وأن يحصل علي جميع حقوقه المشروعة من الدولة والمجتمع. من جهتها، أكدت الدكتورة عزة العشماوي، أمين عام المجلس القومي للطفولة والأمومة، أن القرار القضائي يحافظ علي حقوق الأطفال ممن لا ذنب لهم في الحياة، وحماية لهم لكي يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، بعيدًا عن نظرات الشك من قبل المجتمع. واعتبرت الدكتورة نهاد أبو القمصان، رئيس المركز المصري لحقوق المرأة، القرار القضائي انتصارًا للطفولة في مصر، مضيفة في تصريحات ل"آخر ساعة"، "القرار يعمل علي حماية حقوق مواطن مصري لا حول له ولا قوة، فالقوانين تحمي حقوق المواطنين البالغين، لكن هذا القرار يحمي حق الأطفال الأبرياء في الحياة بطريقة كريمة". وأشارت رئيس المركز المصري لحقوق المرأة إلي أن القرار جاء للتغلب علي بطء اجراءات التقاضي في قضايا الزواج العرفي، التي تمر بحكم أول درجة ثم الاستنئاف انتهاء بالنقض، ما قد يستغرق أكثر من 5 سنوات، وهو ما يعطي فرصة للطفل في ممارسة حياته بشكل طبيعي، وحصوله علي حقوقه كاملة سواء في التطعيمات التي تقدمها وزارة الصحة مجاناً، وصولا إلي دخوله المدرسة بشكل لا يثير الريب، مؤكدة أنه من حق الرجل إذا ثبت عدم صحة نسب الابن إليه أن يرفع دعوي بالتزوير علي الأم وحبسها لما لا يقل عن 7 سنوات، كما يمكن له التوجه إلي مصلحة السجل المدني وإسقاط نسب الطفل له، وفي تلك الحالة يتم اتباع الإجراءات المعتادة بنسب الطفل إلي اسم والدته. حالة الجدل انتقلت إلي الساحة الفقهية بين رجال الدين، إذ شن أبناء التيار السلفي هجوما علي القرار عبر المواقع السلفية، لأنه يساوي بين جميع حالات الزوج العرفي علي الرغم من تباين بين تلك الحالات. وحذرت المواقع السلفية من خطورة الخلط بين الزواج العرفي وزواج المتعة والمسيار، مؤكدة أن جميع أشكال الزواج العرفي والمتعة والمسيار حرام شرعًا، والأطفال الناتجون عن هذه العلاقات يعتبرون أولاد زني، باستثناء حالة الزواج العرفي الذي يتم في ضوء الإشهار وبوجود ولي، لكنه لا يقيد رسميا عند الجهات الحكومية، وإن كان بعض علماء السلفية حرموه كذلك لما يترتب عليه من مشاكل في الميراث والنسب. بينما قالت الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، ل"آخر ساعة" إن القرار حكيم، يتفق شرعا مع فعل الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم- عندما استعان بنظام القائف في اثبات النسب، والقائف هو من يعرف نسب الإنسان بفراسته ونظره إلي أعضائه، ولم يكن يتولي هذه المهمة إلا قلة قليلة من العرب قديمًا، وهو ما يمكن الاستعاضة عنه الآن بتحليل "DNA".