تدهشني مشاهد كامنة بالذاكرة كالفيروس.. نشط مهاجما خلايا القلب والعقل .. مرات بجدول زمني، وأحيانا كالنذير .. يجهدنا ثم يحررنا ، ويعود للكمون والترقب ، تاركا لنا البهجة أو الشجن .. وكنت أتصور أن ذكريات نصر اكتوبر ستعبرني بلا جديد يستفزني للكتابة .. لكن باغتتني حمي فيروس أحلي الأيام في الصحافة ، وسط كوكبة المهنيين العظماء ، وأبرزهم المصور مكرم جاد الكريم ، الذي أتمني له كل ما يستحقه من سلام وفرح في عزلته الإجبارية ! .. حدث من سنتين وأنا أبحث في بئر أوراقي عن مستند ما ، أن ظهرت لي صور قديمة غالية ، من تحقيق صحفي طاردنا فيه ، مكرم وأنا ، متسولي الشوارع النصابين من المترو إلي منابعهم في العشوائيات .. وذكرتني بليلة التحقيق معنا بقسم السيدة زينب لتصوير طرد مرضي قصر العيني المزمنين الي الشارع لتسول العلاج ، بدون إذن أمني !! ومن 30 سنة !! .. يومها اتصلت بمكرم أذكره وأشكره علي أحلي أيام الصحافة .. وأسأله أين أنت ؟ .. فهرب من المديح والإجابة ، إلي ذكري صور النصر .. حكي لي لأول مرة وبتدفق ، عن سنوات النكسة الست التي كان يذهب فيها يوميا للجبهة، لتصوير المعارك مختبئا خلف الأسوار المهدمة، ليس خوفا إنما ذلا من الهزيمة.. وعن أصدقائه جنود الجبهة، القناص الصعيدي، صائد الإسرائيليين الذي كان يحب الكنافة بعد اصطياد العدو، فيحملها له مكرم من السويس.. وعن مدنة جامع الغريب الذي حماه لاقتناص صور العدو، وبكاؤه لليوم علي اقتناص القناص، وتفجير المدنة.. وعن فرحته الغامرة بفجر7 أكتوبر، يوم العبور، وثباته اللاشعوري فوق الساتر الترابي تحت القصف المرعب، لتصوير ذل العدو ونحن نفجر طائراته.. عنف القذف يغرز مكرم في الرمال، ينفضها ليسابق شجاعة الجندي محمد في اندفاعه لرفع علمنا فوق التلة.. ويحكي عن عودته المعجزية حيا هو وأفلامه من الجبهة لمعمل التحميض في الأخبار.. يومها سجلت انفعالات مكرم في أقرب الأوراق ليدي، وخبأتها في كنز الذكريات.. لتفاجئني منذ أيام وأنا أبحث عن مستند ضائع مرة أخري!!..وكأن فيروس أكتوبر لن يموت أبدا .. وللبحث عن مكرم وعن الصحافة بقية .