في محافظات الصعيد وسيناء تتم تسوية الخلافات وحل النزاعات بين العائلات والقبائل من خلال ما يعرف بالمجالس العرفية، التي تعرفها مصر منذسنوات بعيدة وتنامت بصورة واضحة عقب ثورة يناير 2011 لما صاحب تلك الفترة من انفلات أمني وإنشغال قوات الأمن في مواجهة فوضي الشارع، ومن أسباب انتشارها أيضا تأخر صدور الأحكام نتيجة كثرة القضايا المنظورة بساحات القضاء، وأثبتت تلك المجالس كفاءتها في الحفاظ علي النسيج الاجتماعي للعديد من الأسر والقبائل حيث ساهمت بشكل كبير في حل النزاعات بين العائلات قبل تفاقمها لأن أحكامها ملزمة للجميع وتتميز بسرعة الفصل بين المتنازعين، وإذا أثبتت فاعليتها في إنهاء العديد من المشكلات إلا أنها ليست بديلاً عن القضاء.. كيف تتكون هذه المجالس؟ وهل للشرطة دور في مساعدة أفراد تلك المجالس؟ وما رأي رجال الدين الإسلامي والمسيحي فيها؟. آخر المشاكل التي حدثت في مصر وكان للمجالس العرفية دور كبير في حلها حادثة أسوان التي وقعت بين قبيلتي الدابودية والهلايلة وراح ضحيتها العشرات من القبيلتين وتدخلت الأجهزة الأمنية لوقف نزيف الدم لكنها فشلت في الوقت الذي نجحت جلسة التحكيم التي حضرها شيخ الأزهر د.أحمد الطيب في إطفاء النار المشتعلة بين القبيلتين وجعلتهما يتفقان علي هدنة لوقف نزيف الدماء، والسبب في الإستجابة هو وجود ممثلين من العائلتين في الجلسة العرفية بالإضافة إلي سماحة شيخ الأزهر ووسطيته التي اطمأن إليها الطرفان وكان لديهما قناعة بأنه سيتوصل إلي حل يرضي الطرفين. يوضح مدير أمن سوهاج اللواء إبراهيم صابر أن المجالس العرفية تتكون عرفياً ولا يتدخل الأمن في تكوينها أو اختيار الأشخاص لرئاسة المجلس أو عضويته ، مشيراً إلي ضرورة وجود مجموعة من الصفات في الشخص الذي يترأس المجلس العرفي حتي يقبل الناس بقراراته أبرزها أن يكون حسن السمعة ويتحلي بالصبر ولديه قدرة جيدة علي إدارة الحوار والإقناع وأن تكون علاقاته مع أهالي القرية أو البلد جيدة وعلي مستوي واحد مع الجميع حتي لا يتهم بالانحياز لشخص أو قبيلة علي حساب الأخري، ويظهر هذا الشخص بين الناس بعدما يتطوع ويتدخل لحل عدة مشاكل بين أهالي البلد ومن هنا تظهر شخصيته ويكون معروفا لدي الجميع من خلال تلك المواقف، ويأتي دور الشرطة هنا في تلك المجالس عندما تكون هناك مشكلة كبيرة ليست في إمكانية هؤلاء الأشخاص المتطوعين حلها، فعندما يتعثر عمل تلك المجالس يبرز دور رجال الشرطة في تذليل العقبات التي تواجه تلك المجالس لحل المشاكل قبل تفاقمها. ويدلل اللواء إبراهيم صابر بمثال علي كلامه قائلاً : عندما تكون هناك خصومة ثأرية ويرفض المجني عليه التصالح إلا بعد أخذ الثأر فهنا يتم التدخل سريعا من جانب قوات الشرطة لسرعة ضبط الجاني والسلاح المستخدم في الواقعة ليهدأ طرف المجني عليه، وبعد الاتفاق علي الصلح بين الطرفين وموافقتهما علي ذلك فإن ذلك يحتاج إلي مبني حكومي أو مكان لعقد جلسة الصلح فإن الشرطة تقوم بتوفير المكان وتأمينه وذلك علي سبيل المثال لا الحصر، مؤكداً أن تدخل الأجهزة الأمنية في تلك الأمور محدود وبضوابط معينة، نافياً ما يثار من البعض حول إجبار الشرطة لأحد الأطراف علي الصلح أو إنهاء خصومة ، موضحاً أن ذلك الأمر لابد أن يتم بالتراضي وموافقة طرفي النزاع وإلا يصبح بدون فائدة ويكلف أجهزة الأمن مجهوداً دون جدوي، مشيراً إلي أن أجهزة الأمن بمديرية أمن سوهاج استطاعت خلال العام الحالي عقد 74جلسة صلح وإنهاء لخصومات ثأرية وهذا مجهود كبير. وكشف مدير أمن سوهاج في تصريحات خاصة ل"آخرساعه" محاولة بعض الجمعيات الأهلية التنسيق مع الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية بأن يتم تفعيل ما يتفق عليه في الجلسات العرفية وإعطاؤه الصفة القضائية وذلك من خلال تقديم مشاريع قوانين متعلقة بهذا الأمر، بمعني أن يكون محضر الصلح بين الطرفين مؤثرا في الحكم النهائي أو ما يتفق عليه من شرط جزائي وذلك بأن تلزم المحكمة الجاني بقرارات المجلس العرفي. ويؤكد مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية بمديرية أمن سوهاج العميد حسين حامد أن المجالس العرفية تساهم بشكل كبير في إنهاء الخلافات بين العائلات في الصعيد ، لكن المشكلة تكمن في أن دور الكبير بدأ يتلاشي وأصبح ليس له سيطرة علي الصغار مدللاً علي كلامه بأن آخر صلح قامت به أجهزة الأمن كان بين عائلتين الأولي من محافظة سوهاج والثانية من محافظة القليوبية وبعد موافقة العائلتين علي تقديم الجودة والصلح كاد الأمر أن يفشل بسبب رفض أحد الشباب للصلح ،فهيبة الكبير تتلاشي الآن في الصعيد فكان في الماضي كبير العائلة بإشارة صغيرة منه ينهي أية مشكلة لكن هذا الكلام انقرض الآن، مشيراً إلي أن ما يثار حول أن الشرطة تأخذ محاضر المجالس العرفية كما هي لعمل المحاضر غير صحيح لأنه يتم عمل محاضر إدارية بديوان المركز أو القسم بعد الجلوس مع طرفي النزاع ومعرفة مشكلتهم ثم تجري التحريات، موضحاً أن إنتشار المجالس العرفية ليس تقصيراً من الدولة أو الشرطة لأن لكل شخص دورا يجب أن يقوم به. ويعبر مدير مباحث سوهاج عن حزنه فيما يتعلق بقضايا الخطف قائلاً : ما يحزنني أن نبذل مجهودا كبيرا في القبض علي الخاطفين ويتم ضبطهم بموجب محضر مسبق وبعد إجراء التحريات والتأكد من المتهمين فيأتي بسهولة بعدها المجني عليه ويتنازل عن القضية خوفاً من المتهمين وبسبب عدم وجود الاعتقال فإن هؤلاء المتهمين يخرجون ويمارسون عملهم مجددا، فخلال الشهور الماضية ضبطنا أكثر من عشرة تشكيلات عصابية متخصص نشاطها الإجرامي في الخطف لكن نتيجة تنازل المجني عليهم عن القضايا حصل كثير منهم علي البراءة. وتري عضو مركز البحوث الإجتماعية والجنائية د.فادية أبوشهبة أن المجالس العرفية نجحت في العديد من قري الصعيد في إنهاء العديد من المشاكل والنزاعات لكن ذلك لا يمنع المجني عليه من حقه في رفع دعاوي قضائية ليأخذ القانون مجراه وخاصة في القضايا الجنائية التي إذا تم التصالح فيها من خلال مجلس عرفي فغالباً ما ستفشل لأن هذا المجلس في القضايا الجنائية لا يتعدي كونه هدنة مؤقتة لأننا إذا شجعنا التصالح في هذه الأمور فإن المجتمع سيتحول إلي غابة ويقوم كل شخص بقتل الآخر دون خوف من شئ لأنه يعلم أنه بعد ارتكابه تلك الجريمة ستعقد جلسة عرفية ويتم الصلح. وتضيف أبوشهبة: لا مانع من التصالح في القضايا المدنية والمالية مثل التعدي علي أراضي الغير ومشاكل الجيرة والأسرة مثلاً: لأن ذلك الأمر يقلل من ضياع الوقت في انتظار الحكم وسيوفر علي المحاكم الكثير من الجهد ويوفر للأسرة سرعة الحصول علي حقوقها، ويساهم في حل مشكلة التكدس بالسجون ،أما التصالح مع الدولة فهو مهم بالنسبة للقضايا المالية فيفضل دفع الغرامات بالنسبة لمخالفات المرور ومخالفات الضرائب بدلاً من الحبس ،بالإضافة إلي أنه سيتحقق عنصر الردع هنا من خلال المبلغ الذي سيدفعه المخالف، وتم تقنين التصالح بالقانون في المادة 18و18 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية، لكن بالنسبة للقضايا الجنائية فيجب أن يأخذ القانون مجراه وألا يتم التنازل عن تلك القضايا بعد الصلح حتي يتحقق الردع العام والخاص. وعن مدي مشروعية التحكيم في فض المنازعات في الدين الإسلامي يقول عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر د.حامد أبوطالب : كثيرون يتحدثون عن فض المنازعات بالطرق الودية لأن دخول المحاكم يزيد العداوات ويعقد الأمور ويصعبها علي أطراف النزاع ومن هنا فإن جميع القانونيين يفضلون الصلح عن النزاع بالمحكمة ويقولون "صلح مع الخسارة أفضل من ربح بالمحكمة"، لأن الأمر سيطول في المحاكم وسينفق كل طرف من أطراف النزاع من وقته وماله وجهده كثيراً، لذلك شرع الإسلام العظيم التحكيم وجعله وسيلة شرعية لفض النزاع، بمعني أن المتنازعين يتفقان علي عرض نزاعهما علي محكمين بدلاً من المحاكم ويلتزمون بتنفيذ ما يقول عليه المحكمون، ولذلك انتشر الآن التحكيم في المنازعات بين التجار في الداخل وفي الخارج فالآن أكثر المنازعات الدولية يتم فضها بالتحكيم بدلاً من اللجوء للمحاكم. ويضيف أبوطالب : وهذا يدل علي فضل الشريعة الإسلامية وتقدمها وتقدم فكرها حيث وضعت أسلوباً لحل المشكلات ودياً وهو التحكيم وفضها رغماً عن الخصوم من خلال القضاء والأسلوبان موجودان في الشريعة الإسلامية وكلاهما مشروع في الفقه الإسلامي، كما إن التحكيم له وضع لدي القبائل ولدي العائلات في صعيد مصر وفي شمالها وفي سيناء وغيرها، حيث يتم فض النزاع بمجرد عرضه علي شخصية كبيرة من العائلة أو من القبيلة ومن هنا يندر أن نجد إمرأة ترفع دعوي خلع أو طلاق أو تلجأ إلي المحكمة لنفقة فكل هذه الأمور يتم حلها ودياً عن طريق التحكيم بين الزوجة وزوجها كما أمر بذلك القرآن الكريم. وعن رأي الدين المسيحي في المجالس العرفية يقول الباحث القبطي كمال زاخر : المجالس العرفية هي نفق اجتماعي موجود في الريف وبالتالي لها دور في حماية السلام الإجتماعي وتفتيت المشكلات الصغيرة حتي لا تتفاقم بحكم الجيرة والعلاقات المباشرة وفي هذا الإطار فإنني أري أن دورها الإجتماعي في السياق الثقافي السائد مهم وضروري لكن المشكلة عندما يتم الإعتماد علي هذه المجالس كبديل عن المحاكم والإجراءات القانونية وبالتالي تتحول إلي أداة لتقويض العدالة. ويضيف زاخر قائلا: لقد جري العرف علي تقديم محضر هذه الجلسات إلي جهات التحقيق والتي تقضي بانتهاء الدعوي صلحاً وهذا التفاف علي سياق العدالة، وأنتج حسب المرات المتكررة حالة من عدم الاعتداد بالقانون وتكريس التطرف ومن ثم الإرهاب الذي لم تطله يد العدالة ولن يقع عليه عقاب وفقاً لمنظومة الحل العرفي، لذلك أطالب باعتبار الجلسات العرفية بمثابة إطفاء للحرائق ولا يمكن أن نعتبرها بديلاً عن إعمال القانون وتعقب الجناة لوقف نزيف الدم.