«أثناء توديع سمو أمير الكويت بالمطار في الساعة الثالثة والنصف مساء اليوم 82/9/0791 الموافق 72 رجب 0931 هجرية، شعر سيادة الرئيس بدوخة مفاجئة مع عرق شديد وشعور بالهبوط وقد توجه سيادته بعد ذلك فورا إلي منزله بمنشية البكري، حيث حضر علي الفور الأطباء ووجدوا عند سيادته أزمة قلبية شديدة نتيجة انسداد للشريان التاجي للقلب.. وقد أجريت لسيادته جميع الإسعافات المطلوبة اللازمة بما في ذلك استعمال أجهزة تنظيم ضربات القلب، لكن مشيئة الله قد نفذت، وتوفي إلي رحمة الله في الساعة السادسة والربع أثناء إجراء هذه الإسعافات». كان هذا هو نص التقرير الطبي الذي صدر يلخص أسباب وفاة الرئيس عبدالناصر، وقد وقّع عليه فريق من الأطباء، كانوا موجودين في غرفة نوم عبدالناصر لحظة الوفاة وهم: دكتور رفاعي محمد كامل، دكتور منصور فايز، دكتور زكي الرملي، دكتور الصاوي حبيب، دكتور طه عبدالعزيز.. من بين هؤلاء الأطباء الخمسة أصدر اثنان مذكراتيهما، وسجلا فيهما تفاصيل الحالة الصحية للرئيس جمال عبدالناصر، أو بالأدق التاريخ المرضي للرجل.. لقد ظل هناك اتهام معلق علي رقبة أطباء عبدالناصر بأنهم قصروا في أداء واجبهم، وأنهم لو كانوا أكثر كفاءة لأنقذوا الرجل، رغم أن الأعمار كلها بيد الله سبحانه وتعالي. قبل أن يصدر الدكتور الصاوي حبيب مذكراته التي نشرتها الهيئة العامة للكتاب عام 7002 بعنوان «مذكرات طبيب عبدالناصر» حصل علي موافقة من نقابة الأطباء لنشر تفاصيل الحالة الصحية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر وحقيقة الساعات الأخيرة قبل وفاته، وعدم اعتبار ذلك إخلالا بلائحة آداب المهنة التي تطالب الطبيب بالحفاظ علي أسرار مرضاه. وقد جاء في موافقة النقابة التي صدرت في 62 سبتمبر 6002، أنها تري أن التاريخ المرضي لقادة الشعوب ملك لهذه الشعوب وملك للتاريخ، وأن الحالة المرضية للرئيس الراحل عبدالناصر قد تناولتها أقلام كثيرة، وادعي كثيرون المعرفة بأسباب الوفاة ومنهم من ذهب إلي أن الوفاة نتيجة تآمر أو استخدام السم أو الإهمال في العلاج أو بسبب نقص السكر، ومن المهم جدا معرفة الأسباب الحقيقية. يقول الصاوي في مذكراته نصا: «كنت علي موعد مع الرئيس في الساعة الحادية عشرة صباحا يوم 82 سبتمبر، وكان قد انتقل في اليوم السابق من فندق هيلتون النيل إلي بيته، وكانت قد انتهت وقائع مؤتمر القمة، ولم يبق إلا توديع أمير الكويت في المطار في الساعة الثالثة بعد الظهر، وعند فحص الرئيس لم ألحظ شيئا غير عادي، لكنه ذكر أنه سيحصل علي إجازة بضعة أيام بعد توديع أمير الكويت.. ولقد كان نظامنا المعتاد أن أذهب إليه كل صباح.. أما في المساء فلا أذهب إلا إذا تم استدعائي.. وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر، تلقيت رسالة تليفونية من سكرتير عبدالناصر الخاص الذي كان يرافقه في المطار، كان نص الرسالة، أن الرئيس يطلب منه التوجه إلي منزله في منشية البكري لمقابلته هناك. يقول د.الصاوي: «توجهت علي الفور من منزلي بوسط القاهرة إلي مقر الرئيس ووصلت بعد ثلث ساعة تقريبا، قابلتني السيدة حرمه خارج حجرة النوم، وأخبرتني أنه عاد من المطار وهو يشعر بالتعب وأنها أحضرت له كوب عصير برتقال شربه منذ قليل.. وتوجهت إلي حجرة النوم. وكان الرئيس مستلقيا علي السرير مرتديا بيجامته ورأسه مرتفع قليلا، وقال إنه شعر بتعب أثناء توديعه أمير الكويت في المطار، وأحس أن قدميه تكادان لاتقويان علي حمله، وعند فحصه لاحظت وجود عرق بارد علي جبهته كما كان وجهه شاحبا، وكان النبض سريعا يكاد ألا يكون محسوسا، كما كان ضغط الدم بالغ الانخفاض وكانت أطرافه باردة. الموقف خطير ويواصل د. الصاوي قائلا: أحسست بخطورة الموقف وتوجهت فورا إلي حجرة مكتب الرئيس الملحقة بغرفة النوم، وطلبت من السكرتارية استدعاء الدكتور منصور فايز والدكتور زكي الرملي فورا، وأحضر جهاز رسم القلب وكان موجودا بصفة دائمة في حجر المكتب، حيث كان من المعتاد عمل رسم قلب يوميا للرئيس منذ أصيب بجلطة في شهر سبتمبر عام 9691، وذلك بجانب الأدوية والأدوات والأكسجين المعد لحالات الطوارئ. حضر الدكتور منصور فايز بعد ثلث ساعة والدكتور زكي الرملي بعد نصف ساعة، وأكدا خطورة الحالة نتيجة انسداد جديد في الشريان التاجي، واستمر العلاج فترة من الوقت ولكن لم يكن هناك تغيير في رسم القلب، الذي تم عمله من قبل إلا أن التحسن ظهر في الكشف الإكلينيكي. الغريب أن الدكتور منصور فايز تحدث مع الرئيس عبدالناصر وهوعلي فراش الموت عن رغبته في زيارة الجنود علي الجبهة، وأخبره الرئيس بأنه موافق وماعليه إلا أن ينسق مع بعض الوزراء الذين كانوا قد اتفقوا علي التوجه لزيارة الجنود، وفي الوقت نفسه كان الدكتور زكي الرملي يراقب الموقف عن قرب. ويقول د الصاوي : «لم أتابع الحديث، فقد كنت أفكر في الوضع الصعب الذي نحن فيه، ووجدت الرئيس يعتدل قليلا ليفتح الراديو الموجود علي الكومودينو بجوار السرير، وقال إنه يرغب في سماع خبر في نشرة أخبار الخامسة، التي كانت قد بدأت منذ قليل، ولم يذكر هذا الخبر ولم يعرفه أحد حتي الآن، وظل يصغي لنشرة الأخبار حتي انتهت، وطلبت منه ألا يتحرك، وأن يستريح، وكان قد أغلق جهاز الراديو، ورد قائلا: «أنا استريحت ياصاوي». لحظات الرحيل بعد هذه الكلمة فوجئ الصاوي حبيب بأن عبدالناصر يميل برأسه علي الجانب فجأة، وفي الحال تحسست والكلام للصاوي نبضه فوجدته توقف تماما، فقمت بعمل تنفس صناعي وتدليك خارجي للقلب في وجود الرملي ومنصور فايز، واستمرت هذه المحاولات حوالي ثلث ساعة دون جدوي.. ولم أجد فائدة من الاستمرار، فقد توفي الرئيس بالصدمة القلبية، وهي من أخطر مضاعفات انسداد الشريان التاجي. لقد مات جمال عبدالناصر من الصدمة القلبية التي تحدث عندما يؤثر الانسداد في الشريان التاجي علي أكثر من ربع أو ثلث عضلة القلب، وفي هذه الحالة لايجدي شيء. وعلامات الصدمة القلبية هي انخفاض الضغط، وسرعة ضربات القلب، ووجود العرق، وبرودة في الأطراف.. وبعض أنواع الصدمة القلبية تقلل من الدم في المخ أو في الكلي، لكن لم تكن تلك العلامة موجودة عنده، وظل متنبها تماما لما حوله، مع ذلك فقد كان واضحا أن الموضوع في غاية الخطورة. بالطبع أخذ الأوكسجين، كما أخذ الأدوية المتعارف عليها في هذه الأحوال، لكن كان قد حل الميعاد، ولاراد لقضاء الله، ولقد توفي إلي رحمة الله في وجودنا نحن الأطباء الثلاثة فقط. وللعلم كان يرافق الرئيس عبدالناصر في تحركاته عربة إسعاف يتناوب عليها طبيبان من أطباء رئاسة الجمهورية، وهذه السيارة مجهزة لنقله عند حدوث طارئ بالإضافة إلي مرافقة موكبه خارج البيت.. أكثر شيء كانت سيارة الإسعاف مطلوبة من أجله في حالة وقوع اعتداء علي الرئيس، فيكون هناك إسعاف سريع. العناية المركزة غير موجودة وحول ضرورة نقل الرئيس بتلك السيارة إلي المستشفي.. يجيب د.الصاوي حبيب: وحدات العناية المركزة لم تكن موجودة في ذلك الوقت بالقاهرة، وتلك الوحدات مهمة لمقاومة مضاعفات انسداد الشريان التاجي.. أما في حالة الصدمة القلبية التي مات بها الرئيس عبدالناصر فمن الصعب جدا، بل وفيما أعرف لم يحدث أن نجا أحد منها، لأن في هذه الحالة لايعمل ربع أو ثلث القلب، فلايوجد حل.. فحتي لو كانت هناك عناية مركزة وقتها فإنها لاتسعف حالته.. لذلك لم يكن الانتقال للمستشفي سيؤدي إلي نتيجة مختلفة.. وحتي وفاة الرئيس عبدالناصر كانت في مصر عناية مركزة وحيدة في الإسكندرية.. وكان جمال عبدالناصر قد تبرع للدكتور محمود صلاح الدين بمبلغ من المال لإتمامها.. وأكرر لوكانت هناك عناية مركزة في القاهرة لتوفي جمال عبدالناصر نتيجة الصدمة القلبية التي لايجدي معها شيء إلا المعجزة الإلهية. عبدالناصر والسادات ويكشف الدكتور الصاوي حبيب سرا عندما يحكي هذه الواقعة.. يقول: «كنت أقابل الأستاذ محمد حسنين هيكل كل يوم، وكان يسألني عن صحة الرئيس وكنت أجيب بشيء من التحفظ ولذلك سألت الرئيس عن الأشخاص الذين يمكن أن يعرفوا خبر وحقيقة مرضه، وأخبرني الرئيس عن خمسة هم علي وجه التحديد الأستاذ محمد حسنين هيكل، السيد أنور السادات، السيد محمد أحمد، والسيد سامي شرف، وللأمانة لا أتذكر حاليا الاسم الخامس، فالتزمت بما يريد، وبعدها عندما سألني الأستاذ هيكل أجبته عما سأل بدون مواربة. ثم يحكي د.الصاوي عن ملامح من شخصية الرئيس عبدالناصر كما لمسها من خلال التعامل معه ويبدؤها بأنه كان منظما إلي أقصي درجة فيروي قائلا: كان جمال عبدالناصر عندما يستيقظ من النوم يدق جرسا، فلا يدخل عليه الساعي ليسأله عما يريد، وإنما يدخل وهو يحمل الشاي وملعقة عسل نحل.. بعد أن ينتهي من شرب الشاي يدق جرسا. ثانيا، أيضا لايدخل الساعي ليسأله، وإنما يدخل إليه ثم يقف فقط فيطلب منه جمال عبدالناصر أن يدخل الدكتور.. ويضيف د.الصاوي: بعد أن أدخل وأؤدي عملي يدق الجرس الثالث بمجرد خروجي من الغرفة، وبالتالي يدخل اثنان لتنظيم الغرفة، بعد ثلث ساعة بالضبط يكونان قد انتهيا من عملهما مع وضع الملابس المطلوبة علي الفراش، فيغير ملابسه ويستلقي.. الجرس الرابع يدخل إليه طعام الإفطار، وهو في الغالب لايتجاوز الجبنة البيضاء مع خبز وأحيانا قليلا من الفول. هذه عملية أوتوماتيكية لاتتغير أبدا.