الدكتور سويلم أثناء عرضه للمعالم الأثرية ما أجمل أن نعيش لحظات في رحاب شارع عريق وشهير في القاهرة التاريخية بدأت معالمه الأثرية في الظهور منذ القرن التاسع الميلادي ،وهو شارع الخليفة الذي يحكي تاريخ مصر المحروسة منذ عصور الفاطميين والأيوبيين والعباسيين والمماليك حتي يومنا ، وهو يحمل اسم السلطان الأشرف خليل بن الملك قلاوون الذي كان الذراع اليمني لكل من السلطان قطز والظاهر بيبرس في محاربة الصليبيين وطردهم من عكا دون رجعة، ويضم هذا الشارع الطويل عددا كبيرا من الآثار والمباني التاريخية معروف بعضها للمصريين ومجهول العديد منها حتي لقاطنيه وأهالي حي الخليفة، قد أتيحت لي دعوة قدمتها الدكتورة مي الإبراشي لقضاء يوم في شارع الخليفة (يوم السبت الماضي من الساعة الثانية إلي الثامنة مساء ، للاحتفال ببدء المرحلة الثالثة من مبادرة "الأثر لنا"). وكانت بالنسبة لي فرصة لاستنشاق عبق تاريخ الشارع العريق الذي يجهله الكثيرون منا ولذلك نتعامل معه بإهمال وتقصير شديدين، وكانت مدة الجولة التي تحملتها قدماي في هذا الشارع لاتزيد عن 3 ساعات ، بعدها أعلنت التمرد عليّ وإن كانت العين والقلب والعقل تحثني علي الاستمرار حتي النهاية ، ولكني رضخت آسفة وغادرت دون استكمال باقي برنامج الجولة ،لكن ماهي مبادرة "الأثر لنا "وحكايتها مع حي الخليفة ؟ تقول الدكتورة مي الإبراشي أستاذة العمارة ورئيسة المبادرة ، إن مشروع »الأثر لنا« نعمل فيه منذ عام ونصف العام.. منها 6 أشهر نتحدث مع أهالي الحي، عن علاقتهم بالاثر ومحيطه ، الذي يعتبر أفضل مكان لإلقاء القمامة فيه ، لأنه ليس له صاحب ، والمشروع بحث تشاركي بيننا وبين الحكومة ممثلة في الآثار والأوقاف والمحافظة والتنسيق الحضاري وبين الأهالي من أجل تحويل الأثر من عبء إلي مورد رزق، وكانت المرحلة الأولي منه عبارة عن دراسة تاريخية ومعمارية للآثار والمباني الموجودة في شارع الخليفة وعددها 16 أثراً ومبني هي جامع ابن طولون وجامع صرغتمش وبيت الكريتلية ومسجد سيدي الباشا وضريح محمد العياشي ومنزل سكنة باشا وقبة ومقام سيدي محمد الأنور ومسجد السيدة سكينة وقبة شجرة الدر ومقام الجعفري والسيدة عاتكة ومقام السيدة رقية ومقام ابن سيرين وقبة فاطمة خاتون وسبيل اليازجي وجامع السيدة نفيسة ، أما المرحلة الثانية فكانت تشمل مقترحين الأول منهما هو استغلال الأراضي الفضاء في الشارع الموجودة حول قبتي مقام الجعفري والسيدة عاتكة ومشهد السيدة رقية ، أما المقترح الثاني فهو استغلال الأرض الشاغرة المطلة علي قبة ومدرسة فاطمة خاتون وقبة الأشرف خليل وقد قررنا العمل مع مدرسة شجرة الدر بالتعاون مع جمعية الفكر العمراني وحاولنا الحصول علي منحة لترميم قبة شجرة الدر من مركز البحوث الأمريكي ومؤسسة بركات وإعادة تأهيل المستوصف وإقامة مركز خدمي به من تبرعات خاصة ،وكل ذلك بالتوازي مع مشروع الخليفة من جوه لبره مع المجلس البريطاني وهو مشروع شديد الأهمية لوضع خرائط ذهنية تركز علي إحساسك البدني بالمنطقة وهذه الخرائط تعد محاولة لفهم الشارع والعلاقات بين قاطنيه وقد خرجنا بخريطتين حتي الآن إحداهما للمقاهي به والأخري للمحلات فيه. وتضيف الدكتورة مي الإبراشي أن المرحلة الثالثة بالمشروع بدأت اليوم من أجل إعادة تأهيل مستوصف شجرة الدر وإقامة مركز خدمي . وعند وضع الكراسي والآلات الموسيقية إيذانا ببدء الاحتفال مع الأهالي كانت أشعة النور الطبيعي تنقشع من المكان فقد حل وقت الغروب ..وهنا كانت نهاية الجولة بالنسبة لي التي استهلت بوقفة أمام جامع ابن طولون وأمام مدرسة شجرة الدر التي رسم علي سورها خريطة ضخمة بمساحة 9م في 3م تقع عليها أماكن ال 16 أثرا ومبني الموجودة بالشارع تبدأ من جامع ابن طولون وتنتهي بجامع السيدة نفيسة. وكان الدكتور طارق سويلم الخبير في الفن والعمارة في مصر والشرق الأوسط قد صحبنا في جولة إرشادية وسياحية لبعض الآثار والمباني التاريخية في الشارع وإن كان الوقت لم يسعفنا للوقوف علي أخبارها فهي تحكي تاريخ وأحداث فترة طويلة من الزمن لامثيل لها في أي شارع آخر سواء في مصر أو أي دولة بالعالم، كما كان هذا الشارع منذ عدة سنوات جزءا من مشروع رحلة آل البيت الذي كان يهدف لترويج السياحة الدينية بمنطقة القاهرة التاريخية . ولكنه كالمعتاد لم يستكمل وتوقف .. ما علينا، دعونا نعود للدكتور سويلم الذي ما إن بدأ حديثه عن جامع أحمد بن طولون إلا وجذب الجميع بسرده الأخاذ الذي مزج فيه الفن بالعمارة ،والتشويق بالتاريخ ،وصهر الأجناس المختلفة في بوتقة مصر، فأبدع في الوصف والشرح ..وعند زاوية من شارع الصليبة الذي لم يكن في مكانة شارع القصبة ولكنه مهم لربطه ما بين القلعة ومقام السيدة زينب وكانت تقع علي جانبيه قصور الأمراء ..وأوضح الدكتور سويلم أن جامع ابن طولون مشيد علي قمة جبل تشكر ،حيث كانت القاهرة في القرن التاسع وقت بناء الجامع عبارة عن تلال وجبل القلعة وجبل المقطم والباقي صحراء إلا المنطقة المحيطة بقناة الخليج كانت أراضي زراعية ،لدرجة أن الأهرامات الثلاثة وهرم سقارة كانت تري من هذه المنطقة، وعندما أقام أحمد بن طولون مدينة القطائع كعاصمة لمصر ،بني جامعه في منتصفها حتي يري من جميع النواحي . وحتي يشاهده أحمد بن طولون من قصره في القلعة ،ووراء الجامع أقام دارا للإمارة وكانت المركز الرئيسي لحكم مصر (كان يقع مكان بيت الكريتلية أو متحف جاير أندرسون الذي له مدخل من الجامع). ويؤكد الدكتور سويلم أن الجامع هو ثالث جامع يبني في مصر وإن كان أقدم جامع موجود فيها حاليا ،والسبب يرجع إلي أن جامع عمرو بن العاص قد هدم وبني من جديد كما دمر جامع العسكر، بينما هذا الجامع لم يدمر علي مر العصور، وعند النظر إليه نجد أن سوره بعرائسه واصل للجبل نفسه. ويلتصق به جامع ومدرسة سيف الدين صرغمتش الناصري الذي بناه علي شارع الصليبة وكان قادما من سامراء وأراد ان يكون نسخة من جامع المتوكل هناك وأيضا ان يري المصريون جامعا مختلفا عما لديهم وإن كانت مئذنته مملوكية الطراز وهي مريحة للعين حيث تري منها السماء ،وكانت تحيط به مجموعة من الأسواق العامرة والمزدهرة. وبمجرد دخولنا جامع بن طولون ..قال الدكتور سويلم إن المنطقة التي نقف فيها هي الزيادة بالنسبة للجامع وكان الناس تجتمع فيها لتبيع البضائع للمصلين فيه ، مضيفا عند ولوجنا إلي صحن الجامع أن العمارة هي فن الحركة ولذلك سنجد تناغما وزوايا ومناظر جميلة يمكن تصويرها، فهو له 128 شباكاً وكلها مختلفة الأشكال وعن مئذنته الملتوية الشهيرة قال الدكتور سويلم إنه ليس لها مثيل في مصر وإن كانت ليست الأصلية لأنها تهدمت، وتقريبا الجزء الأسفل منها بني في العصر الأيوبي حيث كان يعيش في الجامع ناس قادمة من المغرب وتونس والأندلس ، ويرجح أن السلطان لاجين هو الذي بناها من جديد وكان عبقريا ولذلك سرق الوقف الخاص بالجامع! أما فوارة المياه الذهبية الموجودة بصحنه، فكانت مكانا للعب الأطفال اثناء تأدية آبائهم للصلاة به، وكان يجلس فيها وراق ليعلمهم الخط العربي، وكان الأذان يرفع منها لعدم سماعه من مئذنة الجامع التي كانت تشتت الصوت. وحكي لنا الدكتور سويلم عن قصة باقي المماليك الذين بقوا في مصر بعد مذبحة القلعة ، حيث نصح كلوت بك الوالي محمد علي بأن يتخلص منهم بسجنهم في الجامع وبذلك تحول إلي عنابر مستشفي للمجانين ، ثم ألحق بهم زوجاتهم وأولادهم ! كما سرد لنا سر دخول الجامع من شباك مطبخ الجيران عام 1890، ولذلك أزيلت جميع البيوت الملاصقة له. وكان الوقت قد أزف.. فكان لابد من الخروج سريعا من الجامع وقد شاهدنا بعد ذلك بيت الكريتلية وآخر ساكنيه كان الضابط الإنجليزي جاير أندرسون حيث قام بتكوين مجموعة نادرة وثمينة من التحف والبيت أصبح متحفا يحوي كنوزا غاية في الروعة والإبداع. وفي أثناء حديث الدكتور سويلم معنا عرفنا أن الشارع يحمل اسم السلطان الأشرف خليل بن قلاوون وكان مفتول العضلات ومقاتلا قويا، وحارب الصليبين في معركة واحدة في عكا بفلسطين وطردهم منها ومن يومها أنهي سيادة الصليبين ولم يعودوا إليها مرة ثانية ،ولما كانت منطقة بين القصرين مزدحمة جدا ،جاء بجانب قبة الجعفري (شقيق السيدة عائشة رضي الله عنهما) والسيدة عاتكة (بنت عبد المطلب عمة الرسول "[") ورقية (ابنة علي بن ابي طالب ولكن ليس من فاطمة) وشيد قبته وهي مستوحاة من طراز العمارة في سوريا ..وعلي مسافة غير بعيدة منهم تقع قبة فاطمة خاتون زوجة قلاوون ولكنها ليست أم الأشرف خليل ..ثم توجهنا إلي قبة شجرة الدر أو شجر الدر كما يقول الدكتور سويلم مضيفا إن محراب ضريحها له أهمية كبيرة حيث إنه أول محراب في مصر مصنوع من الموزيك الزجاجي الذي كانت تشتهر به الإسكندرية في فترة ما، كما أنه المحراب الوحيد الذي يعبر عن اسم صاحبه، فمرسوم فيه شجر ذو أفرع متشعبة بها جواهر.. وشجرة الدر صاحبة القصة الشهيرة الخاصة بالقباقيب وهي زوجة السلطان الملك الصالح نجم الدين ايوب وقبتها مبنية من طوب الآجر ويتخلله جذوع نخيل.. والتي تحاول مبادرة »الأثر لنا« أن ترممها وتؤهل المنطقة المحيطة بها لاستغلالها في خدمة اهالي منطقة الخليفة وتجعلها مكان إشعاع حضاري وصحي، يحتذي به في باقي الأماكن الأثرية والتاريخية .