هي مكبلة.. خاملة.. مدفونة.. منهكة بفعل الحروب الخفية والسفلية.. من قبل »المديوكر» أصحاب الإمكانيات الضئيلة والمواهب المتواضعة.. القوة الناعمة صارت موءودة تحت ركام الاستسهال، الضحالة وافتقاد القيم النفيسة.. الجمال.. الصدق والإخلاص.. أقانيم غابت عن حاضرنا لنكابد مشهدا يحاكي المسخ تحت وطأة غول مفترس اسمه الاستهلاك يتغذي ويقتات علي الروح.. الوعي.. الضمير وكل ذائقة تقتفي أثر الجمال الذي هجر الساحة ليعربد القبح وكل طاعن في الفشل.. فداهمنا طوفان الإعلانات ذات المحتوي الهدام، سواء في الذاتية المفرطة أو الابتذال، البرامج الصفراء الخائضة في الحرمات والنميمة الوحشية ثم الدراما منزوعة الإبداع، الاتقان والرسالة التي يفترض أن ينشرها الفن.. غابت الثقافة، التنوير، النص الأدبي، السيرة الذاتية، الأعمال التاريخية، فلتصبح لهم »كوتة»!! خلت الساحة لكل من تسول له نفسه اقتراف مسلسل أو قيادة ورشة تأليف وقص ولزق!! مصطلح القوة الناعمة لجوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية الذي صار كليشيه وأنا أمقت الكليشيهات ولكني سأقول القوة المؤثرة المنسابة صانعة الوجدان الفردي والجمعي للأمم المتحضرة، وهنا مصر تكون هي الأولي.. هي الأصل.. المرجع الخالد لتلك القوة الهادرة بتاريخها القديم والحديث، فلتكن صحوة لتهشيم العجز الذي نال منها. المشكلة ليست في احتكار الدولة لوجهة معينة، فلقد كانت هناك تجربة مضيئة لاحتكار الدولة في الحقبة الستينية فكان العظيم نجيب محفوظ رئيسا لمؤسسة السينما وقدمت آنذاك روائع، وكان الأستاذ عبدالحميد جودة السحار أيضا مسئولا عن المؤسسة، والكل يعلم الإنجازات الشاهقة للدكتور ثروت عكاشة أو أندريه مالرو المصري، وأيضا نذكر روائع قطاع الإنتاج في ماسبيرو والصوتيات والمرئيات.. إذن المسألة ليست في الاحتكار ولكن مَنْ القائم علي هذا التحكم، الإدارة ..وهل هؤلاء يؤمنون بأهمية الثقافة، الاستنارة، الكنوز المتراكمة عبر الزمن أم هي نظرية عايزين كله جديد في جديد!! والتنصل من الأمس وكأن الفن معطف جديد فلا نريد النهل من تجارب الماضي ومكوناته الثمينة، أدب تراث وقامات عملاقة من الناحية الفكرية، الإبداعية والإنسانية، تلك الأنماط المشوهة التي عكرت بهاء هذا الموسم الرمضاني.. فهاهي ممثلة لاتعرف عدد البيوت التي تمتلكها وأخري غارقة في التيه لا تحسم عدد أزواجها!! وهكذا. وتحية للمجلس الأعلي للإعلام لإيقاف هذا القبح المتعملق وهذا البث الممنهج لهذا الجشع، الشراهة والجوع في كل شيء بدون وازع الاحتياج، ولكنه الوباء المتوحش للاستهلاك في كل شيء.. الحجر، البشر، الغريزة والمال والاقتناء، وكما ذكر المفكر الفرنسي بودريار أن حمي الاستهلاك تحاكي الفيروس الذي سيقضي حتما علي الإنسانية جمعاء، الحرب علي الإرهاب لن تنجح بمعناها الشامل، الكامل والمطلق أي الإرهاب الفكري اللفظي، فالفكرة والكلمة تسبقان الطلقة، والرصاص قد يقتل شخصا أو أكثر ولكن الأفكار والكلمات تفتك وتقتل الملايين، فالمواجهة بالثقافة، التنوير والإبداع بكل أشكاله ضرورة ملحة للقيام بعملية إحلال ثقافة الحياة، الجمال، الخير والارتقاء في مواجهة تمجيد الموت، العدم، والفناء.. ومالم يؤمن بنظرية تجفيف منابع الإرهاب وأهمية الفنون لتهذيب النفس، نبذ الشرور، ولفظ الهمجية، وكراهية الآخر المختلف أينما كان وكيفما كان، لا فائدة فدماء الشهداء المقدسة ستعالج النتائج، وستظل البيئة الحاضنة لتفريغ هواة العدم، الشر والقبح باقية، والنزيف الإنساني يأخذ شكل الداء المزمن. دراما هذا العام أنفقت الغالي والنفيس لعرض المسيرة، والسفرة الوجودية لمن يسعي للعب بالملايين من خلال أن يصبح تاجر مخدرات أو أنثي تبيع أولادها أو أختاً تسلب خطيب أختها.. الحصول علي الملايين والمليارات في دراما السوء يسير جدا، فقط انحرف والكومبوند موجود والشركات العملاقة موجودة أين كل هذا الهراء والخراب من مسلسل »هي والمستحيل» لفتحية العسال، وإنعام محمد علي وصفاء أبوالسعود، والذي يحتفي به اليونسكو فهو يعلي ويمجد قيمة العلم والمعرفة، وكل من يشاهده سيشعر بالظمأ تجاه فضيلة العلم وأزهار المعرفة، سوف تمتلك غواية أن تتعلم وترتقي عتبات الحياة بالجهد والكفاح وأنوار المعرفة، وهنا لا أنادي بالفن النظيف ولكن بالفن فحسب، فرواية »الطريق» لنجيب محفوظ ظاهرها الغرق في الرذيلة، الغريزة البوهيمية والجريمة ولكن في باطنها الجمال، الخير والتصالح مع النفس، الروح والغيب.. فالشهوة، الجنس والجريمة هنا لدواعٍ فنية وليس من باب الاستهبال واستجداء القراءة والمشاهدة.. فلا للانتهازية في الإبداع.. لقد وصلت هذا العام إلي الذروة فشاهدنا البطولة القسرية وفرض ممثلة بالعضلات والمجاملات للأسف، عندما يتم اختراق محراب الفن المقدس فتدلف الواسطة فعلي الدنيا السلام. دراما التوكتوك بلا هوية، ولا اسم ولا رقم ولا عنوان.. عربة طائشة، عبثية، نتوء خطير جاء من العدم ليعود إليه وكأن جميع من شاركوا في هذا الموسم إلا قليلا منهم تعرضوا لبودرة العفريت! وتهيأ الجميع للقيام بعجين الفلاحة! والذهاب لبرامج الإسفاف والمقالب، فالمقايضة جاهزة، الفلوس مقابل أي شيء.. يقول بوكوفسكي: »يمكن لأي أحمق ومتسلط في هذا العالم أن يقتل الأفكار الإبداعية للآخرين لمجرد امتلاكه 3 أسلحة رئيسية: حسد وغباء وسلطة علي الأذكياء»... »مشكلة عالمنا تكمن في أن الأذكياء يغلبهم الشك والأغبياء تغلب عليهم الثقة بالنفس».. وسطر ذات يوم: »إياك أن تكتب إذا لم تخرج متفجرة منك برغم كل شيء فلا تفعلها، إذا لم تخرج منك دون سؤال من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك فلا تفعلها». لا أحد يستطيع أن يدعي أن مصر العريقة- فالتاريخ نفسه يبدأ من مصر المتربعة فوق عرش الثبات السرمدي - أنها نضبت وتصحرت إبداعيا وفكريا، فالقوة المضيئة موجودة ولكن غلائل الغبار تلقي بظلالها الكئيبة علي ألق الطاقات البهية والمواهب المحبطة تحت وطأة الجهل، الحسد وغوغائية الانتهازية المارقة.. مصر ثرية تكتنز خبيئة 7 آلاف عام من الحكمة، الفن والحضارة، لن تكون مثل القطة التي تأكل أولادها النوابغ في كل المجالات ليعربد التلقين والسطحية وقيم الخواء المفضي إلي السقوط.. وجبت الاستعانة بكل القامات القادرة علي النهوض والخروج من المحنة التي لا تليق بنا، فالقوة المؤثرة موجودة كامنة، ولكنها عاجزة، مكبلة مؤقتا، فالمثقف أقرب للموظف والفنان يلهث وراء التواجد بأي ثمن، وباب التنازل مفتوح علي مصراعيه، والكل في خدمة حمم وسعار الاستهلاك. وأرجع أيضا بوكوفسكي: »بعضهم يفقد عقله ويصبح روحا هو المجنون، وبعضهم يفقد روحه ويصبح عقلا هو المثقف، بعضهم يفقد الاثنين وهو المقبول اجتماعيا».. وأخيرا: »سلاما علي من وجد أن الكلام لا يغير في الواقع شيئا فصمت»..