عشقت »التلصص».. بعيون طفل مرهف الحواس.. يتحلي بفضول الصغار وسط عالم الكبار.. يقترب.. يتنصت.. يرقب ويتلصص من ثقب الباب الذي يحاكي صندوق الدنيا المطل علي أربعينيات القرن المنصرم.. يرصد أحداثا.. أشخاصا.. تفاصيل وأشياء تكشف الأجواء الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والفنية لتلك الحقبة المؤثرة من تاريخ مصر.. »التلصص» رواية الأديب الاستثنائي صنع الله إبراهيم تزامن صدور طبعة جديدة لها من دار الثقافة الجديدة مع حصوله علي جائزة محمود درويش.. الرواية البديعة أقرب إلي السيرة الذاتية يسترجع من خلالها الزمن المفقود.. يرمم صنع الله إبراهيم ذاكرة انتقائية شحذها الحنين والوعي لما كان.. ذكريات عصية علي المحو.. كامنة تكتنزها الذاكرة حتي بلوغ لحظة الإبداع الآمرة الناهية تعبر غياهب الكتمان لتحول كل المألوف العابر والفاني إلي الخالد، السرمدي بفعل القلم الغائر، القادر علي بعث الأمس المُدْبر بصدق بطزاجة مدهشة، وإحياء أشياء وتفاصيل يكاد يلتهمها العدم لولا معجزة الأدب.. ليدون.. يسجل ويخلد حيوات قد تذهب هباء يعيد إليها الروح.. انتهيت من »التلصص» ولكنها لم ولن تنتهي مني. الأديب والطفل والقارئ كتب عليهم التلصص، فالمخيلة ثملة.. متعطشة للمعرفة، للتوغل في عوالم مُدْغلة، ثرية يرصعها الغموض.. والفضول سمة القارئ المتلهف، المتوحد مع خبايا النص الشائق أيضا لطفل طاقته الصاخبة تفوق قامته وقدراته يحركه الفضول، وتابعه التلصص ..الدهشة أمام أبسط البديهيات.. والأديب قد يداهمه بعض الفضول فهو جزء من عالمه الإبداعي.. نحن الآن في قلب الأربعينيات.. مصر الملكية.. ليبرالية.. كوزموبوليتانية تحتضن كل الحضارات والثقافات المتعددة، حقبة ذهبية، الثمرة اليانعة لثورة 1919 يتوجها هواء التنوير المنعش، حيوية سياسية وتعددية في كل مناحي الحياة، في المقابل أجواء الحرب الجاثمة، اجتياح الصهيونية، إرهاب الإخوان.. حرائق وتفجيرات واغتيالات.. ارهاصات تدهور الطبقة الوسطي.. الغلاء.. وهاهو الطفل الذي لا اسم له ربما كان في التاسعة، العاشرة أو أقل إلا قليلا يعيش مع والده خليل والشائع إطلاق اسم أبو خليل علي إبراهيم.. رجل علي المعاش ينتمي إلي الطبقة الوسطي يقاوم دوما الهبوط إلي الأدني.. الحاجة والعوز، انفصل عن أم الطفل الذي لا اسم له حيث الإيحاء الضمني بين الأديب المبهر والقارئ أن اسمه صنع الله الطفل الذي كان، هو يكابد غياب الأم الذي يكتنفه الغموض وتلك الغلالة الغائمة الشبيهة بالمدرسة التأثيرية في الفن فهي تناسب الوعي الخاص بالصبي الصغير.. الطفل المتفرج شاهد بحياد علي الفراق، الفقدان، عجز الأب إزاء بطش الوجود الوحشي وعنفوان الحياة.. الزمن الذي لا يرحم، العجز تحت وطأة متطلبات الحياة المادية، والعجز المتربص إزاء الفجوة الشاهقة بين الرغبة والقدرة، الشهوة الجامحة وتخاذل الفعل والإشارة المتكررة من الطفل عن وجود كتاب »رجوع الشيخ إلي صباه والقدرة علي الباه» دون إدراك لمعني النص. الحميمية، الدفء والحنان سمات ترصع علاقة الأب والابن وتجعل الطفل مختلفا عن الصبية الآخرين، فهو يلج إلي دنيا الكبار النساء والرجال، الأحداث والشخصيات حتي النميمة يتنفسها في حضرة هؤلاء فمجالسهم وصحبتهم لا تخلو من ثرثرة عن الجنس، السياسة، السلطة، الثروة والفقر والثراء والأشياء الاستهلاكية اللي يقتنيها أثرياء هذا الزمن، سوف تعرف ثمن أنواع الطعام: الجبن، الحلاوة، اللحم، العسل، الحلوي، الباكالاه بالمليم، الدرهم والنصف فرنك، سوف تعرف أسعار السكن، قيمة المعاش، دنيا الخادمات.. يقول ماركس: »لقد عرفت عن أحوال فرنسا الاقتصادية والاجتماعية من أعمال بلزاك أكثر مما عرفته من كتب التاريخ». وفي جلسة الطفل مع والده والخادمة يتم الحديث عن الغلاء المتفشي ويتم استرجاع هتاف أهل المحروسة إبان حكم المماليك: »إيش يجيلك من تفليسي يابرديسي» اختار صنع الله الزمن المضارع فأتقن إحياء الماضي بعبقرية نادرة فصار الأمس لوحة طازجة تحتفظ بألق وزهوة اللون. النغم، رائحة الزمن ورحيق الأمس، بالمذاق واللمسات بذاكرة الحواس، بالحزن القديم، البهجة القديمة المنزوية في ركن من الذاكرة خلف زجاج الزمن المغبش قاوم انكساره وتلاشيه تحت مطرقة الزمن الجهنمية، أعاد لنا روح الجماد، المقاهي، الأماكن ، سيكوريل، عمر أفندي، والسمري، المواصلات، الترام محلات البقالة العتيقة بحميميتها المندثرة في خضم تغول السوبر ماركت والمول، محلات الخردوات المنقرضة كانت تسكر مخيلة الصبية مرصعة كانت بالألوان والأشياء الصغيرة المبهرة، تومض براقة حواس الطفل الذي كان أشبه بكاميرا لماحة تلتقط الصوت والضوء واللون، فالطعام: الزيتون، الفستق، الشهد، والكبدة المحمرة، وشراب الزبيب، وصوت أسمهان: إمتي حاتعرف إمتي إني بحبك أنت.. وياحبيبي تعالي إلحقني شوف اللي جرالي بصوت الأم في الأيام الخوالي مكتوبة دوما بالبنط الفاحم، السميك يعبر عن النوستالجيا حيث ذكري تستدعي الأخري ويجيب الأب علي غناء الأم مرددا مقطع أسمهان »وغرامي هالكني» الطفولة.. وطن الخوف.. الدهشة.. الغفلة.. زينة اللاوعي الطفولية.. الفضول.. الألوان.. الروائح.. الألم والبهجة يشحذان التذكر.. والخوف هو من عالم مسكون بالهواجس العفاريت، الغول الذي يطوح شعره المبعثر في الهواء، يتساءل عن رائحة الإنس والشاطر حسن، ترهيب الخادمات بهذا العالم الخفي، السفلي، المرعب، والعقاب المتربص دوما، ذاكرة النسيان تراث أدبي نفيس أتقنه بروست في »البحث عن الزمن المفقود» يتذكر من خلال حلوي المادلين يغمسها في الشاي فيطفو عالم الأمس بأسره، ثم خلوده للفراش وفراقه لأمه وهو ما أطلق عليه »مأساة النوم» بودلير ، وزجاجة العطر المعبقة بالذكريات تتنفس الذكري تعتقها علي مهل لتنثرها في نسيم الحاضر المختلط بالماضي وأيضاً الرجل الذي ينظر لمورافيا. جمال الغيطاني قاوم المحو الزمني واندثار الأمس العابر إلي زوال في دفاتر التدوين، في »العاشق» لمارجريت دوراس عشق قديم في قلب المراهقة استعادته علي حافة الكهولة، لكن البديع في تلصص صنع الله إبراهيم هو استعادة الزمن من خلال طفل يحكي بطريقة مثيرة عن أشياء قد لاتكون مثيرة، لقد بلغ التشويق أو suspens فهو يصل إلي الذورة من خلال المألوف والعابر والديچافو ليهبه العمق والرونق، التوثيق والتأريخ علي شكل تقرير .. هاهو الطفل الذي لا اسم له الذي ستعرفه عشرات الملايين يعبر عن محنة الإنسان، فالطفل لايعرف البديهيات ولا يدرك أنه عندما ينضج لن يعرف أيضا أبدا أي حقيقة بشكل كامل.. سيظل هناك نصف الحقيقة قابعا في عتمة المجهول المراوغ، نجهل باطن الأشياء مهما تعملقت تجاربنا.. لغة التلصص توحدت مع بطلها الطفل يسيرة، بسيطة، تلقائية، أيضا تماهت مع الزمن الأربعيني فيقول عن السيارة: الأوتوموبيل والكونستابل.. هاهو الملك فاروق بنظارته السوداء وملاحته.. حكايا عن سامية جمال وكاميليا.. »بلبل أفندي» فريد الأطرش وصباح في سينما الكورسال، تحية كاريوكا »أميرة الجزيرة»، »نحو المجد» حسين صدقي دمه ثقيل.. مجلة الكواكب.. مسامرات الجيب، كتاب »شمس المعارف»، أم كلثوم »غلبت أصالح»، عبدالوهاب أصوات يبثها راديو جراندينج، دندرمة كايماك، شاي الشيخ الشريب، سجائر هوليوود، بليرز و3 خمسات، كينا بيسليري، كولونيا أتكينسون، عطر شانيل نمرة 5، ماكس فاكتور، فازلين الشعر، صابون سيليكت، ولاعات رونسون، دواء الحلق بلمونكس، أسبرو »العقل في إجازة» محمد فوزي، ليلي فوزي، الملكة نازلي، أحمد باشا حسنين، مقتل أسمهان، درية شفيق تحرر المرأة، الحصي الملون عند مدرسة اليهود.. السميط بالجبنة الرومي، سندوتشات مربي الفراولة والزبدة، مذاق الأشياء، روح الزمن ، لذة ورحيق تكرار الأيام ومقاومة سيزيفية تتجدد، النساء المليحات يتبرجن، يتزين، يتهيأن أمام الطفل، الشاهد علي دنيا، حقبة أسدلت ستائرها بلا رجعة إلا من خلال تحفة اسمها »التلصص» ، تماهيت معها وأعادتني لزمن آخر في مكان آخر.. أما الخاتمة حيث نهاية مسبحة الأب وطلب القلم الرصاص القابل للمحو الذي حوله صنع الله إبراهيم إلي كلمات باقية تهزم العدم.