الهمس تحول إلي صخب.. الأنين إلي صرخات.. هتاف ونشيد زلزل أعتي الإمبراطوريات.. »قوم يامصري مصر دايما بتناديك.. خد بنصري نصري دين واجب عليك.. يوم ما سعدي راح هدر قدام عينيك».. الأجساد المتفرقة صارت في لحظة الخطر.. لحظة الدفاع عن الاستقلال.. الثوابت.. الهوية.. الوحدة الوطنية.. التنوير والكرامة كتلة آدمية واحدة عملاقة يحركها هذا الكنز الدفين الخالد الساكن في الروح المصرية العظيمة.. فها هي ذات يوم شيدت المعجزة.. بناء الأهرامات وهاهي في قلب الأجواء الملبدة بثورة 1919 تتوحد تلك الروح المجوهرة لتردد بذات الصوت وذات النغم الصادح ألحان سيد درويش وكلمات بديع خيري فتنجح ثورة 19 في الاستقلال الجزئي.. وغرس ثمار التنوير والحرية.. لحظة التمرد علي غلائل الصبر الخادع والسبات المنطوي علي عزيمة الانتصار يتقنها المصريون عبر التاريخ فكانت أيضا حرب أكتوبر، 25 يناير و30 يونيو.. منذ 100عام ردد كل مصري: »يحيا الوفد ولو فيها رفد».. »يحيا الهلال مع الصليب» »الاستقلال التام أو الموت الزؤام» »نموت وتحيا مصر» وبينما يسعي المصريون الكل في واحد لترويض التاريخ وتغيير حركته كعادتهم هناك صرخات ميلاد رموز.. أبطال ونجوم ولدوا في 1919 ليزينوا جدارية هذا الوطن.. إحسان عبدالقدوس.. عبدالمنعم رياض.. عز الدين ذو الفقار.. تحية كاريوكا.. كمال الشيخ وحسن الإمام وأقلام أشعلت الجذوة الثورية الوطنية مثل المفكر سلامة موسي. »عندما يصير الزمن إلي خلود».. »سوف نراك من جديد».. »لأنك سائر إلي هناك».. »حيث الكل في واحد».. »نشيد الموتي».. من خلال هذه الكلمات يفتتح أديبنا توفيق الحكيم »عودة الروح» وهي أروع نص خلد ثورة 19 كتبها عام 1933 وفي »لوبينيون» الفرنسية كتب عنها فرديير لوبلتييه: »كل شيء يسحرنا في هذه الرواية التي ترسم لنا من جديد عظمة روح شعب» من خلال أسرة مصرية بسيطة يطلق عليها الحكيم »الشعب» حيث ينام الجميع في حجرة واحدة الصبي اليافع محسن وأعمامه ومعهم الخادم مبروك فالكل في واحد.. يقول الأثري الفرنسي في عودة الروح: »حقيقة تجهلها أوروبا للأسف.. نعم إن هذا الشعب الذي تحسبه »جاهلا» يعلم أشياء كثيرة لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله».. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم.. والقوة في نفسه ولا يعلم.. هذا شعب قديم.. جئ بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب 10 آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.. نعم هو يجهل ذلك ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجارب.. هذا ما يفسر لنا نحن الأوروبيين تلك اللحظات من التاريخ التي تري فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت.. وتأتي بعمل عجاب في طرفة عين.. هي تجارب الماضي الراسبة قد صارت في نفسها مصير الغريزة تدفعها إلي الصواب.. »كل ما فعلناه نحن الأوروبيين حديثي النشأة أن سرقنا من تلك الشعوب القديمة هذا الرمز السطحي دون الكنز الدفين لذلك جئ بأوروبي وافتح قلبه تجده خاليا خاويا.. احرم الأوروبي من المدرسة يصبح »أجهل من الجهل».. »ليس له تراث أو ماضٍ يسعفه بغير أن يعلم».. »ولهذا كان المصريون القدماء لا يملكون في لغتهم القديمة لفظة يميزون بها بين العقل والقلب.. العقل والقلب عندهم كان يعبر عنهما بكلمة واحدة هي: القلب».. »لا تظن يا مستر بلاك أن هذه الآلاف من السنين التي هي ماضي مصر قد انطوت كالحلم ولم تترك أثرا في هؤلاء الأحفاد.. أين إذن قانون الوراثة الذي يصدق حتي علي الجماد».. أما ثلاثية نجيب محفوظ الفذة فخلدت تلك الحقبة الذهبية وكان الأستاذ نجيب مولعا بالزعيم سعد باشا زغلول ومن الذي لم يكن يعشقه؟، والطريف أن المخرج حسن الإمام ولد في 1919 وأخرج للسينما »بين القصرين»، »قصر الشوق»، و»السكرية» وقدم المشهد المهيب تعانق الهلال مع الصليب في خضم الأجواء المشحونة بالثورة للثورة الشعبية التي اكتظت الأزقة، الحارات، القري، النجوع والميادين بهديرها البشري الشاهق، أيضا كتب الدكتور مشرفة »قنطرة الذي كفر» وكان المفكر سلامة موسي والأب الروحي للعظيم نجيب محفوظ يكتب آنذاك في جريدة المستقبل ثم في الهلال وكان علمانيا، اشتراكيا ليبراليا ولقد كتب فيما بعد مصطفي بك أمين الكتاب الممنوع »أسرار ثورة 1919» وكان يوسف بك وهبي يساند الثورة من خلال فرقته المسرحية »الشهرة» وأيضا نجيب الريحاني، أما مصطفي بك أمين الذي نشأ في بيت الأمة لأن سعد باشا كان خاله فنقشت في ذاكرة الطفل والصبي الذي كان الأحداث والتفاصيل التي اكتنزتها مخيلة رائد الصحافة العربية، وأعود للموسيقار السابق لعصره، الفذ سيد درويش والذي استبق مايسمي بالبوب آرت أو الفن الشعبي وهذا الثنائي الرائع الذي كونه مع الشاعر الشيخ محمد يونس القاضي فكان نشيد بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي مستلهما من كلمات الزعيم مصطفي كامل، وأنا هويت وانتهيت، زوروني كل سنة مرة، يمامة بيضا، أهو ده اللي صار، ثم كانت كلمات يونس القاضي خفيفة الظل، المناوشة للحواس مثل »ارخي الستارة اللي في ريحنا لحسن جيرانا تجرحنا»، »تعالي ياشاطر نروح القناطر»، »أبوها راضي وأنا راضي» وأصبحت ثورة 19 بمثابة البوابة الذهبية لازدهار الفنون والآداب فالهواء في المحروسة يرصعه الإبداع وأكسير الفن الخالد. وفي ذات العام النفيس 1919 يعود د.طه حسين بالدكتوراه من باريس في علم الاجتماع أما جيل الستينيات بأكمله فكان نتاج الحقبة الملكية فقطف ألق الثمار اليانعة لثورة 19 التي حلقت في آفاق التنوير. والفترات العظيمة للأوطان والحضارات تكون بفعل الاستنارة وليس الثقافة فحسب فهي دائما موجودة ولكن الأوطان تنتعش وتبعث بفعل أنوار سعة الأفق، التسامح والانفتاح علي الآخر ويكون المحرك لهذه العصور المضيئة أهل الفكر والإبداع حدث في فرنسا إبان عصر التنوير في القرن الثامن عشر فكان فولتير، ديدرو، روسو، ومونتيسكيو ثم في مصر إرهاصات 1919 بفعل رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، عباس العقاد، سلامة موسي، طه حسين، أحمد لطفي السيد، يقول العقاد: »حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق يمتنع علي المخلوق أن يعطل مرضاة لمخلوق مثله أو خوفا منه ولو كان هذا المخلوق جمهرة من الخلق تحيط بالجماعات وتتعاقب مع الأجيال» وانتعش الفن التشكيلي بفعل نسائم التنوير فكانت روائع محمود سعيد، ناجي، محمود مختار، راغب عياد ولم تكن رياح الإظلام قد غزت المحروسة فكان الجمال سيد الموقف هو الآمر الناهي وكان شعب مصر يعرف الهوي ولا يعرف الابتذال فالجميع من أهل الهوي، والرقي المجدول بالحرية يتنفسه ويرتشفه كل مصري بكل طبقاته واختلافاته. تثاءب جسدها الناعس.. اللدن.. ببطء وكسل الاستغناء.. تطل بقوامها اللين قادمة من مملكة الخدر.. بأقل حركة وأعمق أثر تتقن الشوق المباح.. بأقل حركة وأفدح إثارة تتقن الشبق المحتشم.. في خلوتها النائية والقريبة في آن عاشقة لذاتها، ربع متر مساحة سلطنة أعظم راقصة في تاريخ الرقص الشرقي تحية كاريوكا، في فبراير 1919 ولدت لتبقي.. رمزاً »لطرب الجسد» وطرب الحواس الراقي، رمزاً للأنثي الحرة صاحبة المواقف الإنسانية، الوطنية والسياسية، ممثلة فريدة في تلقائيتها. رقصت في زفاف »الملك فاروق عام 1936 حيث غنت أم كلثوم: »أنتي بتغني بوسطك ياتحية»، قالت لها ضاحكة أم كلثوم، واجتمعتا مرة ثانية في حفل النادي الأهلي. بجسدها الناعس اللين تهمس.. بنعومة نسمة تؤدي ارتعاشاتها الغارقة في العذوبة، تنثر هفيفا يترنح في منطقة وسطي بين الحلم واليقظة، إيروسية محلقة »أي شاعرية الجنس» بعيدة المنال لا تُطال فهي تترفع عن استجداء الشهوة وابتزاز الغريزة مثل الراقصات الغارقات في الحركات والاهتزازات الهستيرية.. تحية تعرف قيمة ذاتها، تثمن كل جزء من جسدها يكفي حضورها، يكفي أنها هنا متدثرة بغلالتها الوامضة الموشاة بالترتر واللآلئ، نجمة عالية، قصية ولكنها تشعل النشوة والمخيلة الثملة عن بعد، هي أذكي من الوصول إلي الذروة، جسدها مراود يتقن الانسحاب في اللحظة الحاسمة الفارقة.. تتقن.. تقتفي أثر النقصان، هي تحاكي شهرزاد في الفرار من النهاية، الاكتمال والذروة، هي آلهة الغواية المقطرة.. هي تارة كارمن، تاييس ورادوبيس، بقامتها المهيبة مكانها مملكتها الربع متر لا تذهب إلي أحد، لا تعربد بين الطاولات معتدة بذاتها، عيونها ضاحكة والثغر يترنح دوما بين الابتسامة والضحكة لايدري عن خطورة الجسد الموحي الماثل، المتمايل في ثمالة ساحرة، ترنيمة جسدية عجيبة.. وهي شفاعات الشبقة في »شباب امرأة» و »سمارة» المغرية، لا أنسي مقال المفكر الفلسطيني الأشهر إدوارد سعيد عن تحية كاريوكا فإلي جانب غزله في تلك الراقصة والأنثي الاستثنائية التي شاهدها في كازينو بديعة صبيا 1950 في بدلتها الزرقاء المضوية، رآها تحاكي العالمة التي وصفها المستشرقون إدوارد لين، فلوبير ونيرفال تتمتع بالذكاء والمواهب المتعددة والرمز الوطني وأخيرا بعد 100 عام من التجليات ندعو »فليحفظك الله يا مصر.. فليحفظك الرب».