لا أظن أن مشكلتنا هي نقص »الفتاوي» الدينية، بل ربما كانت المشكلة في إغراق السوق بالفتاوي الصحيحة والمضروبة، والتي يشارك فيها العلماء بأقل القليل، ويشارك فيها أيضا كل من هب ودب، فيتركون الناس ضحايا للجهل أحياناً، وللتطرف في معظم الأحيان!! ولا أعرف من هو »العبقري» الذي أطلق مشروع »أكشاك الفتوي» في محطات المترو!! ولكن إذا كنا أمام مرحلة للتجريب في محطة أو أكثر، فالمطلوب صرف النظر فوراً عن هذا الطريق قبل أن يتحقق الضرر الذي لا نظن مطلقاً أن مجمع البحوث الإسلامية كان يستهدفه حين أطلق هذه الفكرة ظناً بأنها يمكن أن تضيف إلي ما يقدمه في مجال الفتوي الشرعية، أو تصوراً بأنها تقطع الطريق علي دعاوي التطرف التي تستخدم كل الوسائل لغزو عقول الناس.. وخاصة الشباب منهم!! الفكرة فاشلة، وصرف النظر عنها ينبغي أن يتم بأسرع وقت، وبدون الدخول في جدل يستنزف المزيد من الجهد، وينال من قدر مؤسسات نريدها أن تنهض بمسئولياتها في مقاومة التطرف، وفي تجديد الفكر الديني. وهنا ينبغي أن نتوقف أمام نقطتين أساسيتين: النقطة الأولي أننا مازلنا ندور في فلك نهج لا ينتج إلا هذه الأفكار العقيمة، بدلاً من مواجهة المشاكل الحقيقية بشجاعة ومسئولية. والحديث هنا ليس عن المؤسسات الدينية وحدها، ولكن عن العديد من مؤسسات الدولة العاجزة عن فهم الحقيقة الأساسية التي ينبغي أن تحكم تحركنا كدولة وكمجتمع.. وهي أن الفكر الديني لن يتجدد بفتوي هنا أو هناك، وإنما بنهضة فكرية وثقافية شاملة تبني الدولة المدنية، وتنحاز للقيم السامية التي أرستها الأديان السماوية.. من العدل إلي الحرية وكرامة البشر وتسامحهم وإعلائهم للعقل والفكر الحر المستنير. والنقطة الثانية التي ينبغي التوقف عندها.. هي أنه ما دامت الإمكانيات متوافرة لإنشاء »أكشاك الفتاوي».. فلماذا لا تتحول هذه الإمكانيات لنشر هذه الأكشاك في محطات المترو كلها بعيداً عن حكاية الفتوي، لتخصص لبيع الكتب التي تنشر فكر الاستنارة بتخفيضات كبيرة، وكذلك لبيع شرائط الموسيقي والأغاني الراقية بأسعار رمزية. أما المحطات وعربات المترو فلا ينبغي أن يكون فيها إلا صوت الموسيقي الهادئة. الصراع ينبغي أن يكون واضحاً. لسنا أمام »حرب فتاوي» وإنما معركة وجود بين ثقافتين.. واحدة تنحاز للحياة والأخري تنحاز للموت. واحدة تحتفي بالحق والعدل والخير والجمال والفكر المستنير، وأخري لا تملك إلا الكراهية والتكفير والدمار. فلنغني للحياة ونحن نبني المستقبل.. ولنتركهم يحلمون بظلام العصور الوسطي، ولنتفرغ لنشر أنوار الحرية والعدالة والمساواة والتقدم.. بعيدا عن أكشاك الفتوي يرحمكم الله!