الكثيرون ينادون بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، أو من الحبوب، وهذا شئ جميل، ولاشك أنه مفيد للغاية لأنه يحررنا من ضغط الدول التي تتحكم في غذائنا وتستطيع تجويعنا. لكن هذا الهدف يحتاج وقتاً، وإمكانات مادية كبيرة، ويري كثير من المتخصصين أن نتيجته غير مضمونة، لذلك أري أن نجعل الأولوية في هذه المرحلة للاكتفاء الذاتي من الملابس الجاهزة بدلاً من الاكتفاء الذاتي من الحبوب، لأن هذا الهدف سهل التحقيق، ولايحتاج لوقت طويل لتحقيقه، ويخلق فرص عمل بلا حدود لأبنائنا، ويوفر لنا عملات صعبة، بل ويمكننا من التصدير والمنافسة. وقبل أن أدخل إلي الموضوع أحب أن أقول إن مصر اشتهرت تاريخيا بالمنسوجات المتميزة، وكان العرب في الجاهلية يكتبون المعلقات الشعرية علي حرير مصري ويعلقونه في جوف الكعبة، وكان لدي مصر مدينة متخصصة في النسيج الفاخر، هي مدينة تنيس، التي يقول عنها المقريزي إن الثوب الكتان من إنتاجها يصل ثمنه إلي مائة دينار. أي أن لنا تاريخاً عظيماً في هذا المجال، وعار علينا أن ننساه ونتحول لدولة تستورد الثياب من بلاد الله. البداية لابد أن تكون من الاهتمام بالخامات التي تستخدم في الصناعة : القطن، الكتان، الصوف، الحرير. إن زراعة القطن مثلاً صارت مصدراً دائماً للشكوي كل عام. وإذا أردنا أن نمضي في الطريق الصحيح للاكتفاء الذاتي فلا بد من حل مشاكل زراعة القطن، وأن نعرف الكمية التي نحتاجها للتصنيع المحلي، والكمية التي نحتاجها للتصدير، ونحرص علي إنتاجها. وما يقال عن القطن يقال عن بقية الخامات المستخدمة في الصناعة، باختصار لابد من حل مشكلة إنتاج المواد الخام قبل الكلام عن أي شيء آخر. طبعاً سيقول قائل إن المنتجات الطبيعية لم تعد وحدها في الساحة، وإن الألياف الصناعية صارت لها كلمة مسموعة في عالم النسيج، وأقول : وما المشكلة ؟ لابد أن ندرس المتغيرات بمنتهي الدقة إذا أردنا أن ننجح. وليس هناك مايمنع من إنشاء مصانع لسد احتياجاتنا من الألياف الصناعية إذا كنا في حاجة إليها. وإذا كان المنتج المحلي من الأقمشة لايكفي فلامانع من الاستيراد، وهنا لابد من الإشارة إلي تجربة سوريا في إلغاء الجمارك علي الأقمشة، مما أسهم في ازدهار صناعة الملابس الجاهزة، حتي أن المصريين كانوا يسافرون إلي سوريا لشراء ملابس جاهزة بأسعار خارج المنافسة. بعد حل مشاكل الخامات يجب حل مشاكل التصنيع، وإعطاء الفرصة للمؤسسات الموجودة للعمل بكامل طاقتها، وفتح الباب لزيادة الجهات المنتجة، خصوصاً من القطاع الخاص الذي يقود التنمية الآن. أقترح أيضاً أن ندرس أيضاً تجربة الصين في إنتاج ملابس جاهزة جيدة بسعر زهيد. أذكر أني رأيت في استراليا القميص القطني عام 99 بسعر يساوي أربعة جنيهات ونصف، وفي نفس الفترة كان ثمن القميص الصيني الفاخر في بورسعيد لايزيد عن عشرة جنيهات. وأذكر أني في زيارة للكويت عام 2000 وجدت الدشداشة المصنوعة في الصين تباع بما يساوي اثني عشر جنيهاً مصرياً. فالمسألة ليست مجرد إنتاج بل لابد أن ندرس اقتصاديات الملابس الجاهزة لنكون قادرين علي المنافسة. ولكي تكتمل المنظومة فلابد من إنشاء مدارس صناعية متخصصة لتخريج العمالة الماهرة اللازمة لهذه الصناعة، وليس سراً أن بعض أصحاب مصانع الغزل والنسيج كانوا يستجلبون عمالة هندية لأنها أكثر مهارة من المصريين. لابد كذلك من إنشاء أقسام بكليات الفنون لتصميم الملابس، بحيث لانكون عالة علي الغرب في استيراد المودات. ومن الضروري أن يكون لدينا مرصد يرصد المودات التي تظهر في العالم، لكي لانتخلف عنها. تبقي مشكلة التسويق، وأري أن علينا أن نقوم بدراسات للأسواق الخارجية، بحيث لايكون هدف الصناعة هو الاكتفاء الذاتي فقط، بل غزو الأسواق العالمية، فلسنا أقل من دول جنوب شرق آسيا.