عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: ما كنا نستطيع أن نقول «قال رسول الله» حتى قُبض عمر، كنا نخاف السياط. لماذا؟ لأن النبى نهى عن تدوين أحاديثه. وما لا يفهمه المسلمون المعاصرون أن هذا نهى واضح، حتى لا تكتسب أحاديثه شرعية القرآن، وليس فقط حتى لا تختلط بالقرآن فتتشابه على المسلمين. فالنبى كتب القرآن (ولم يجمعه) فى عهده، إنما بدأ الجمع فى عهد عمر بعد موقعة اليمامة، وتم فى عهد عثمان بمصحف عثمان الذى اعتمد، ثم حرقت كل المصاحف الأخرى. أعنى أنه كان حريصا على تدوين القرآن، ولو كان حريصا على تدوين أقواله لفعل، لكنه، على العكس، نهى عن تدوينها. يقولون لك: ولكن كيف يعرف الناس دينهم؟ كيف يعرفون كيفية الصلاة، ووقت الفطور والسحور؟ قولى لهم. لقد فهم صحابته الأقربون ذلك تمامًا، لذلك قال عمر موضحا: «أقلوا الرواية عن رسول الله (لاحظى!) إلا فى ما يعمل به». وما يعمل به هو السنة، وما «أمر» الصحابة بفعله -بالأقوال- متواتر بأفعالهم. أما الأحاديث التى بدأ تدوينها بعد مئتى سنة من وفاة النبى، فعدد كبير جدا منها تعبير عن معارفه الشخصية، وهى معارف لا يتميز فيها عن غيره من معاصريه، مجرد آراء كان الصحابة يراجعونه فيها فينزل على آرائهم إن رآها أصوب. قلت فى مقال أمس إن الأقدمين ركّزوا على صحة الإسناد، أى ضمان أن يكون الحديث منقولًا عن رواة «ثقاة»، لا يكذبون فيه. تقول المنظومة البيقونية عن درجات الحديث: أولها الصحيحُ وهو ما اتصلْ / إسنادُه ولم يشُذّْ أو يُعَلّْ / يرويه عدلٌ ضابطٌ عن مثلِهِ / مُعتَمَدٌ فى ضبطِهِ ونقلِهِ. كل هذه الصفات، إلا الشذوذ والعلة، تتعلق برواة الحديث وليس بمتنه. ولذلك فإن درجات الحديث تنخفض تبعا لمنزلة رواته، فتمضى المنظمومة فى شرح درجات الحديث الأقل من الصحيح: و«الحَسَنُ الخفيفُ ضبطًا إذ غدت / رجالهُ لا كالصحيحِ اشتهرتْ.. إلخ. لكنهم لم يركزوا بالقدر الكافى على صحة المتن. لم يركزوا على اكتشاف عيوب المتن، وهى عيوب لا تتعلق بتعمد الكذب على النبى، إنما قد تنبع من مجرد طول المدة، وانتقالها من فم إلى أذن. فأوردوا أحاديث تخالف القرآن وادّعوا صحتها. منها هذا الحديث فى الصحيحين، البخارى ومسلم، مرويًّا عن أبى هريرة، «إن الله خلق آدم على صورته». هذا حديث يخالف القرآن مخالفة صريحة، رغم صحة السند، ورغم إجماع الصحيحين عليه. فالقرآن يقول: «ليس كمثله شىء». ولأنه حديث واضح فى مخالفته القرآن (رغم أنه فى الصحيحين) فقد أنكره الإمام مالك، وقال ابن حجر العسقلانى فى شرحه لكتاب البخارى، ومن فضلك اقرئى هذا التعليق جيدًا لتعرفى إلى أى حد من التحجر والجبن فى المعرفة أوصلك الإسلامجية المصريون الحاليون. يقول ابن حجر تعليقًا على زيادة فى الحديث تصف آدم بأنه كان ستين ذراعًا طولًا، «ويشكل على (يعارض) هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار عاد وثمود، فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة فى الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق (........) ولم يظهر لى إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال». إن ابن حجر يستخدم ما جد على المسلمين يومها من معارف، لكى يقدح فى متن الحديث، الصحيح، بل المذكور فى الصحيحين. يستخدم ما رآه الناس رأى العين لكى يقول إن المعارف الجديدة أثبتت أن هذا الحديث لا يستقيم. يستخدم الصورة المبسطة من «الأبحاث الأركيولوجية» -آثار الأمم السالفة- لكى يبرز إشكالًا، ثم يخلص إلى أن الإشكال لا يزال قائمًا لا يجد له حلا. لو طبقت نفس المنطق اليوم، باستخدام المعارف الجديدة، العلوم الحديثة، لاتهمك الإسلامجية المصريون بالسعى إلى تخريب الدين، والتشكيك فى «السنة»، ولأرسلوا إليك إمعاتهم الجهلة المجهلين يسبونك بأقذع الشتائم. وأنا لا أدرى ما السنةُ فى خبر كهذا؟! ماذا يفيد المسلمين أن يكون الأقدمون ستين ذراعًا أو خمس أذرع ونصف؟ بل -لنكن صرحاء- إن حديثا كهذا يشكك الناس فى «السنة» بدلًا من دعوتهم للاقتداء بها. هذا ما أدركه مباشرة ابن حجر العسقلانى، ولم يخرج له مَن يتهمه بتخريب السنة والتشكيك فيها وتكذيبها. هنا تلاحظين الفرق بين رجل فاهم، كعمر بن الخطاب، وبين الحفّاظ بلا فهم كالمشتغلين بالدين حاليًا. إن هؤلاء وأجدادهم أهم أسباب تخلفنا المزمن، المستمر، المتواصل، المستقبلى، طالما لا نزال نتبع كل ناعق يضحك علينا بظاهرٍ فيه الرحمة، وباطنٍ فيه من قبله الغباء. أعيد عليك قول عمر «أقِلُّوا الرواية عن رسول الله إلا فى ما يعمل به». لا أزال عند وعدى بالإشارة إلى الأمثلة الذكية التى أوردها الشيخ محمود أبو رية، بمقارنته لمتون الأحاديث، ونظريته عن مصدر الزيادات فيها. مرة أخرى، ليس هذا انتصارًا للآراء التى توصل إليها مؤلف كتاب «أبو هريرة – شيخ المضيرة»، إنما انتصار لفكرة الاجتهاد، والمراجعة المستمرة لما تلقيتِه من موروثات، وتحقيقها وتنقيحها، باستخدام ما يجد من علوم. هذا منهج تفكير، نجاحه فى أى مجال يمهد لنجاحه فى المجالات الأخرى، وإفشاله يمهد لإفشالنا فى كل شىء آخر.