أ ش أ بدا جليا على مدى الأسابيع القليلة الماضية تفاقم الفجوة بين صندوق النقد الدولي ومنطقة اليورو بشأن كيفية المضي قدما في معالجة الأزمة اليونانية. ويأتي ذلك مع إصرار خبراء الصندوق على إدخال ديون القطاع الرسمي في برنامج إعادة الهيكلة المقترح، فيما يعارض العديد من القادة الأوروبيين مثل هذه الخطوة التي تستدعي شطب جزء من ديون اليونان لشركائها الأوروبيين، خاصة ألمانيا التي يبدي شعبها نظرة سلبية إلى حد كبير عن اليونان، ما يجعل الإقدام على هذه الخطوة بمثابة كارثة مع بدء العد التنازلي لمعركة انتخابية شرسة تواجه المستشارة الألمانية ميركل. ويرجح خبراء أن منطقة اليورو تقترب من لحظة الحسم فيما يتعلق باليونان، فالفشل في وضع مسألة إعادة الهيكلة على الطاولة الآن سوف يؤدي إلى خروج صندوق النقد الدولي من خطة إنقاذ اليونان، ما يضع ضغوطا إضافية على القادة الأوروبيين، خاصة ألمانيا باعتبارها المساهم الرئيسي في تمويل برنامج الإنقاذ. يضاف إلى ذلك أن بلدان الاتحاد الأوروبي يتعين عليها أن تحسم خلال الأشهر المقبلة القرارات الخاصة بتمديد الفترة الممنوحة لليونان لتصحيح أوضاعها المالية، والدور الذي ستلعبه آلية الاستقرار الأوروبي في معالجة ديون اليونان المدرجة، وكيف يمكن سد فجوة التمويل اليونانية المحتملة، وبالطبع فإن التدخل الألماني في هذه القضايا يشكل عامل إسراع لتنفيذها داخل منطقة اليورو. ويرى الخبراء أنه على اليونان وشركائها أن يتوصلوا في مرحلة ما من هذه العملية إلى الصيغة التي تعطي فرصة للصمود الاقتصادي، لأن المسار الحالي لا يحقق ذلك، مع ابتعاد الجانبين عن المصلحة المشتركة، وعدم جدوى أن يخرج أي من الجانبين وقد تم إجباره على تسوية غير مرضية. ويدلل الخبراء على ذلك بموجة المظاهرات العارمة التي شهدتها اليونان خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي تعد الأكبر منذ عامين، مع دعوة أكبر نقابتين عماليتين في البلاد إلى الإضراب احتجاجا على سياسة التقشف وخطط الحكومة لخفض مزيد من الوظائف والأجور. في ظل تلك الأجواء جاءت زيارة المستشارة الألمانية ميركل الأخيرة إلى أثينا وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، مخلفة وراءها العديد من التساؤلات عن مغزى الزيارة، وتأثيرها على العلاقات اليونانية الألمانية سواء بالسلب أو بالإيجاب، وأثرها على موقف اليونان من منطقة اليورو، وموقف دول منطقة اليورو من اليونان. ورغم أن ألمانيا ساهمت بأكبر حصة من الأموال في حزمة إنقاذ اقتصاد اليونان المأزوم، إلا أنه يتم تحميل المستشارة الألمانية ميركل، المسؤولية عن مطالبة اليونان بتنفيذ إجراءات خفض قاسية مقابل التمويل الذي حصلت عليه من الاتحاد الأروروبي، وبدا ذلك واضحا في موجة الاحتجاجات التي واكبت زيارة ميركل الأخيرة، وشارك فيها آلاف من اليونانيين ينحون باللائمة على ألمانيا في الضغط على بلادهم لفرض إجراءات التقشف. ويرى محللون أن هناك عدة أسباب لاعتبار إقدام ميركل على هذه الزيارة مخاطرة كبيرة، أهمها أنها جددت الشعور بعدم الاستقرار في وقت يشعر فيه المجتمع اليوناني والنظام السياسي أنهم يتعرضون لضغوط تفوق الاحتمال، فيما تمر بلادهم بمعاناة شديدة من أجل البقاء، بدت أعراضها جلية في الإضراب العام الأخير الذي عم البلاد والاحتجاجات اليومية والمصادمات مع المتظاهرين والتلاسن في البرلمان وتفجر فضائح الفساد والتهرب الضريبي، وتفكك الحزب الاشتراكي اليوناني"الباسوك" وصعود الحزب اليميني المتطرف "جولدن دون" الذي يوصف بأنه حزب النازية الجديدة في اليونان. في هذا الإطار، اعتبر المحللون أن زيارة المستشارة الألمانية المفاجئة لأثينا تعكس مسعى لرأب صدع الخلافات، عبر نهج الدبلوماسية اللبقة، رغم أن الاجتماع الذي جمع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مع رئيس الوزراء اليوناني ساماراس (زعيم حزب الديمقراطية الجديدة)، لم يحل دون تفجر مشاعر غضب كثير من اليونانيين تجاه ما عانته بلادهم خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فيما وصف حزب"سيريزا" اليساري، الذي يقود المعارضة في البلاد زيارة ميركل بأنها "مسرحية للدعم السياسي لإئتلاف بدأ في الانهيار". ويرصد مراقبون أن المكونين الأساسيين في تفجر الأوضاع في اليونان خلال العامين الأخيرين، وهما المناخ المتوتر والوجود المكثف لقوات الشرطة في شوارع اثينا، كانا حاضرين بكثافة يوم زيارة ميركل للبلاد، ما أسفر عن انقلاب الزيارة إلى كارثة لكلا الطرفين، بغض النظر عن مدى ودية المحادثات وراء الأبواب المغلقة. ويرى هؤلاء أن زيارة ميركل كانت مقامرة بكل المقاييس، معتبرين أن الفوضى التي عمت الشوارع اليونانية أكدت للشعب الألماني أن اليونان قضية خاسرة لبلادهم، من خلال مشاهد الإضطرابات التي رسخت الصورة النمطية لدى الأوروبيين عن الشعب اليوناني بأنه شعب عنيد لا يستحق الإنقاذ، خاصة أن تلك المشاهد تضمنت حرق أعلام ألمانيا والاتحاد الأوروبي ورفع لوحات تصور المستشارة ميركل كجندي نازي. واعترف رئيس الوزراء اليوناني ساماراس من جانبه أن الزيارة بدت له فرصة لتعزيز شرعيته داخليا وخارجيا، رغم أن تكتيكاته كانت محدودة خلال هذه القمة التي فضل أن يتخذ خلالها موقفا دفاعيا بشأن قدرة بلاده على تحمل الديون. وأضاف " كان هدفي أولا إنهاء المفاوضات مع اللجنة الثلاثية للمانحين "الترويكا" (الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) وضمان حصول أثينا على الدفعة الجديدة من قروض الإنقاذ التي تصل قيمتها إلى 5ر31 مليار يورو، ثم يأتي بعد ذلك النظر في المسائل الأخرى". أما بالنسبة لميركل فإن الغرض من زيارة اليونان بدا أكثر عملية، بعد دلائل أوضحت أن المستشارة الألمانية تخلت خلال الأسابيع القليلة الماضية عن موقفها غير الحاسم من عضوية اليونان في منطقة اليورو، واتخذت موقفا واضحا مؤيدا للاحتفاظ باليونان داخل منطقة اليورو، رغم معارضة من بعض أعضاء حزبها وحكومتها. ويلفت خبراء النظر إلى أنه يصعب التغاضي عن التناقض في تصريحات المتحدث الرسمي باسم المستشارة ميركل عن اليونان، قبيل الزيارة بأسبوع، وبين تصريحات وزير ماليتها فولفجانج شيوبله، الأكثر حذرا تجاه مساعدة اليونان، الذي اعتبر "أن كل الدول في أحرزت تقدما في برنامج التقشف، عدا اليونان التي يعتبر وضعها صعبا بصورة خاصة"، وبعد تلك التصريحات بيوم واحد، قال المتحدث الرسمي باسم ميركل "نحن نرى أن جهود الإصلاح قد ازدادت في ظل حكومة ساماراس، ونرغب في دعم تلك الجهود". ويرى الخبراء في زيارة ميركل المفاجئة لليونان رسالة إلى زملائها بأن استمرار عضوية اليونان في منطقة اليورو أصبح الآن الاتجاه الذي يتبناه حزبها وحكومتها، في دعوة منها للمتشككين إما بالمساندة وإما بالتزام الصمت. ومع بدء العد التنازلي للانتخابات الفيدرالية الألمانية العام المقبل، تأمل انجيلا ميركل في موقف تزايد به على منافسيها الرئيسيين الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي ، الذي كان ينتقد بشدة الطريقة التي تعاملت بها المستشارة الألمانية مع المشكلة اليونانية، والذي حافظ على موقف أكثر وضوحا خلال الأزمة في صالح بقاء اليونان في منطقة اليورو. وليس من قبيل الصدفة أن تأتي زيارة ميركل بعد أيام فقط من إعلان الحزب الديمقراطي الاشتراكي، التالي مباشرة وراء حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في استطلاعات الرأي، اسم وزير المالية السابق بير شتاينبروك مرشحا له لخوض الانتخابات ضد المستشارة ميركل. وصرح شتاينبروك، بعد فوزه بترشيح الحزب أنه ينبغي إعطاء المزيد من الوقت اليونان لاستكمال دعم شئونها المالية، داعيا ميركل إلى مصارحة الشعب الألماني بحقيقة أن اليونان لن تكون قادرة على اقتراض أموال من الأسواق المالية خلال السنوات السبع أو الثماني القادمة، وأنه يتعين علينا مساعدتها حتى ذلك الحين".