على غير عادته، هاتفنى لأول مرة بعد منتصف الليل، فقد كان حريصا على أن يتواصل معنا صباحا، هو دائما يعمل على عدم إزعاجنا بمشاكله، وجدته سعيدا، لم تفارقه الضحكات طوال حديثه معى، نادانى لأول مرة باسم الدلع الذى كثيرا ما طالب والدتى بحذفه من ذاكرتها، فهو كما يقول يريدنى رجلا، أتحمل مسئولية أسرتى وقت سفره الطويل.. لا أعرف لماذا كان يرسم سيناريو عودته من غربة استمرت 30 عاما بهذه الطريقة المنظمة، قال «بمجرد عودتى سنقضى شهرا كاملا فى إحدى المدن السياحية، سأشترى لك الهاتف الذى تريده، وسألبى لشقيقاتك كل طلباتهن، أما والدتك فسأعوضها عن سنوات الغربة، هى تستحق ذلك، فقد تحملت الكثير من أجلكم. الغريب أنه لم ينس عائلته ضمن مشروع عودته، فقد أخبرنى أنه سينهى حالة الخصام مع أعمامى، وسيحقق مطالب «خلانى» بشأن ميراث أمى .. سعدت بهذه المكالمة، لكننى لم أدرك أنها كانت آمالا وأمنيات فقط، وأن القدر سيكون له رأى آخر». منذ صغرى وعمرى لم يتجاوز العاشرة، كان مدير المدرسة يهرع إلى الفصل، ينادى بصوت مرتفع باحثا عن اسمى ومكاني، وعندما يجدني، يجذبنى من يدي، ويطلب منى التوجه بسرعة إلى سنترال القرية المجاور للمدرسة، فهناك اتصال من والدي. كنت أخجل، وأرفض الذهاب إلى السنترال، لكن والدى كان حريصا على سماع صوتى والاطمئنان علي، لذلك كان يصر على حضوري، والحديث معي، يرسل موظف السنترال لإحضارى من الفصل، وكانت كلمة «والدك جاى الأسبوع داه» هى شفرة إقناعى للذهاب والحديث معه عبر الهاتف. كان يسعد وأنا أرد بكلمة «أيوه»؛ عندما أمسك سماعة التليفون لأول مرة .. يقابلها والدى بابتسامته المعهودة، ثم كعادته يحاول أن يقتل الخجل الذى جعلنى صامتا ملتصقا فى سماعة التليفون، أردد فقط حاضر وأيوه، فيلجأ إلى مداعباته المعتادة، يسألنى عن مقالب شقيقتى الصغرى فى أمي، وينجح من خلالها فى تحريك لسانى واعتدال وجهى إلى لونه العادى بدلا من الاحمرار الذى كان يكسوه طوال المكالمة، فكنت أشعر أن الجميع ينظر إلى، لذلك كان ينجح فى دفعى للحديث معه، لدرجة أننى كنت أبكى عندما ينقطع الاتصال بيننا فجأة ويخبرنى موظف السنترال أن المكالمة انتهت، وعلى العودة إلى مدرستي. كان اتصال والدى يتكرر مرتين أسبوعيا، إحداها معى والآخرى مع والدتى بوجودي، هكذا تعودت على محادثته، وكثيرا ما كنت أرسم صورة له بعد انتهاء كل اتصال، أتخيل بها شكله الذى لم أره منذ عامين، ثم أعود وأمزق الورقه، فكان عقلى يخبرنى أنه أفضل مما رسمت. هكذا كانت حلقة الاتصال الوحيدة مع أبي، فهو منذ ولادتى والغربة رفيقته، يعمل سائقا بإحدى المزارع فى السعودية، يقطع إجازته مرة كل عامين، يجلس معنا شهر، ثم يهرع إلى السفر، كعادته. كان أبى وأمى حريصين على توفير مستقبل جيد لى ولشقيقاتى البنات، لذلك حرصت والدتى على تربيتنا، على الرضا بالأمر الواقع، أتذكر أننى لم أقل لا لطعام قدمته لى، أو ملابس اشترتها لنا، كنا راضين بكل شىء، ننتظر قدوم والدنا، الذى كان يغدق علينا بالهدايا ويحضر لنا أفضل الطعام والشراب والملابس وقت عودته من سفره، لكن سرعان ما يتملكنا الحزن وانتظار السنوات لرؤيته مرة أخرى، بعد سفره الطويل. أعود إلى اتصال أبى، إلى ابتساماته وقهقهته المتواصلة معى فى آخر مكالمة جمعتنا، كان حريصا على أن يذكرنى بكل لحظة فى حياتى، منذ يوم مولدى وحتى بلوغى السابعة والعشرين عاما من عمرى، وجدته مرة واحدة يوصينى بوالدتى، دائما ما كان يعدنى جيدا حتى أكون رب الأسرة وهو فى غربته، كانت وصيته شقيقاتى، أما والدتى فهى روحه ورفيقة عمره، التى وعدنى خلال المكالمة أنه سيعوضها عن كل لحظة فرقتهما الغربة فيها. خصنى أبى بموعد عودته، وقراره النهائى بترك الغربة والعيش معنا دائما، طلب منى أن أجعله سرا بينى وبينه، أراد مفاجأة والدتى وشقيقاتى، كان يقول لى «أريد أن أتلمس لهفتهم بنفسى، أحتضن شوقهم إلى، فأنا مقصر معهم، كبرت شقيقاتك وارتادوا الجامعة، ولم أفرح بذلك، كانت أمك تنقل لى كل لحظة تحدث، لكن المسافة والإحساس بالغربة تقتلان أى لهفة». انتهت مكالمة أبى، نهضت من فراشى، اتجهت صوب حجرة شقيقاتى البنات، رمقتهن بعين تتخللها السعادة، ثم جلست فى «البلكونة» أحلم كشاب ينتظر والده ليكون رفيقه فى كل ما هو قادم فى حياته. حقيقة كنت أفتقد أبى فى الجامعة وفى البيت والشارع ومع أصدقائى، وفى كل مكان أذهب إليه، أحلم مثل الأطفال بأن يمسك بيدى، ونذهب معا إلى المقهى، أو نجلس أمام بيتنا، وينهرنى لعدم تنفيذ أوامره، ويصرخ فى وجهى، وأنا أتشاجر مع شقيقتى، أشياء صغيرة كنت أفتقدها، فهى فى نظرى السعادة كلها. ثلاثة أيام ويعود أبى، هذا هو التاريخ الذى أخبرنى به، أرسل لى موعد تذاكر الطيران، وأوصانى أن أكون فى استقباله بمفردى وألا أخبر أمى أو شقيقاتى بموعد عودته كما اتفقنا. ذهبت إلى فراشى كعادتى متأخرا كل يوم، غلبنى النوم، رن هاتفى كثيرا، لكننى لم أستطع مقاومة النوم، وفجأة، صوت صراخ يملأ جنبات منزلنا، استيقظت مفزوعا، الطرق شديد على حجرتى، نهضت مسرعا، فتحت الباب، ومشهد حزين أمام عينى. أمى تبكى وتصرخ، وشقيقاتى يحتضنها، ماذا حدث؟، كان سؤالى الذى تمنيت ألا يكون له إجابة فى حياتى، اقتربت منى شقيقتى الصغيرة، كانت أقوانا فهى لم تتعود كثيرا على رؤية أبيها. قالت: «مات أبى فى حادثة بمنطقة الرياض، كان فى طريقه لتسليم سيارته والعودة من غربته نهائيا، أخبرنا صديقه بالحادث، وجثمانه سيعود صباح باكر». هنا أدركت أن من أردت مفاجأتهم بعودته، هم من فاجأونى بعودته، ولكن النهاية مختلفة، لسانى كان سينطق حياة، لكن لسانهم نطق موتا. حقيقة بعد كلام شقيقتى لم أستطع النطق، ما شغل عقلى فى هذه اللحظة، هى أحلام ذلك الأب، آماله بإسعاد أسرته، خطته التى رسمها معى، وعده بتعويض شقيقاتى وأمى عن كل لحظة غربة عاشها بعيدا عنهم». كان خبر وفاته قاسيا، ومصير اختاره القدر، آمنت به، لكن فى هذه اللحظة أدركت لماذا كان ذلك «المغترب» يعدنى جيدا حتى أكون رب أسرة مكانه، ووسط كل ذلك كان حزنى الأكبر صوب أمي، تلك الزوجة التى لم تعش مع زوجها سوى أعوام قليلة، لكنها رغم ذلك كانت صابرة، قبلت جبهة أبى، ثم ودعته بكلمات عذبة. قالت: «نم زوجى العزيز، كثيرا ما تعبت من أجلنا، دع جسدك المتعب يسترح قليلا، كلها دقائق أو أيام أو سنوات وسأحضر إليك، هناك لن أتركك، ولن أسمح بغربة أخرى». لم أستطع وداع أبى، ولم أتخيل أن تكون هذه النهاية التى اختارها له القدر، كانت هناك نهاية أخرى، رسمها معى وحلم بتحقيقها، لكنه مات، وترك لى أسرة ومسئولية كبيرة، أعدنى لها منذ زمن، وكأنه كان يشعر بهذه اللحظة. الغريب أن هناك مشهدا الآن أمامي، الأعداء تجمعوا فى منزلنا، أعمامى وخلانى، أمام عينى، لكن ليس لوداع أبى، فقد مر على فراقه 6 أشهر، ولكن لتقاسم تركته وتعبه 30 عاما. نعم هم الآن يوزعون عرق وتعب ذلك الرجل «المغترب»، أشاهد عمى يتمسك بميراثه من أبي، وهذا حقه، وأمى تبكى كلما ذكر أحدهم اسمه امامها، وشقيقاتى ينظرن باستغراب إلى الحضور فقد تجمعوا فى بيتنا لأول مرة منذ ولادتنا، لكننى وسط كل ذلك أتذكر وعد ذلك «الرجل العظيم» سأتصالح مع الجميع، لذلك أشعر الآن أنه سعيد، ينظر إلينا مبتسما، روحه تحاصرنا فى كل مكان نذهب إليه، نتذكر القليل من الذكريات التى عشناها معه يوميا. حتى إن شقيقاتى تحولن إلى مؤلفين، يجلسون ليل نهار بجوار والدتهن، يدونون كل لحظة جمعتهن بأبي.. هن الآن يردن أن يصدرن كتاب يعبرن فيه عن حبهن لهذا المغترب العظيم.. وأنا ليس أمامى سوى أن أقول له .. ارقد بسلام يا أبي. اقرأ أيضاً|هل تقبلين الزواج بدون شبكة؟.. فتيات يجبن على السؤال الصعب