أسعار الذهب اليوم الجمعة 17-5-2024 في مصر    سعر السمك البلطي في الأسواق اليوم    «أوستن» يدعو لحماية المدنيين قبل أي عملية في رفح الفلسطينية    الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    كندا تفرض عقوبات على أربعة مستوطنين    برشلونة فوق صفيح ساخن.. توتر العلاقة بين لابورتا وتشافي    «الأرصاد»: ارتفاع درجات الحرارة اليوم.. والعظمى في القاهرة 35 مئوية    تفاصيل الحالة المرورية اليوم الجمعة 17 مايو 2024    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    الدولار يواصل السقوط ويتجه لتسجيل انخفاض أسبوعي وسط مؤشرات على تباطؤ في أمريكا    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    حدث ليلا.. أمريكا تتخلى عن إسرائيل وتل أبيب في رعب بسبب مصر وولايات أمريكية مٌعرضة للغرق.. عاجل    «الأرصاد» تكشف طقس الأيام المقبلة.. موجة حارة وارتفاع درجات الحرارة    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    باسم سمرة يروج لفيلمه الجديد «اللعب مع العيال»: «انتظروني في عيد الاضحى»    طائرات الاحتلال تطلق النيران بشكل مكثف على مناطق متفرقة في مخيم جباليا    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    أضرار السكريات،على الأطفال    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    «رايحة فرح في نص الليل؟».. رد محامي سائق أوبر على واقعة فتاة التجمع    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    سيد عبد الحفيظ ل أحمد سليمان: عايزين زيزو وفتوح في الأهلي (فيديو)    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كورونا وأدب الرحلة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 02 - 08 - 2021


‬منصورة ‬عز ‬الدين
حُكِي ‬الكثير ‬عن ‬التأثيرات ‬السلبية ‬لوباء ‬كورونا ‬المستجد ‬على ‬صناعة ‬النشر ‬في ‬العالم ‬كله، ‬وكيف ‬تسبب ‬في ‬إلغاء ‬معظم ‬معارض ‬الكتب ‬الدولية ‬وأجبر ‬كثيرًا ‬من ‬الناشرين ‬على ‬وقف ‬أنشطتهم ‬وأغلق ‬المكتبات ‬في ‬فترات ‬الحظر ‬الكلي، ‬لكنّ ‬قطاعًا ‬بعينه ‬من ‬النشر ‬يبدو ‬أنه ‬تأثر ‬أكثر ‬من ‬غيره، ‬وأقصد ‬به ‬النشر ‬المتخصص ‬في ‬السفر ‬والرحلات، ‬وهو ‬لا ‬يعني ‬فقط ‬أدب ‬الرحلات ‬بمعناه ‬المنتشر ‬لدينا، ‬إنما ‬يمتد ‬ليشمل ‬كل ‬ما ‬يخص ‬السفر ‬والارتحال ‬والبلدان ‬الأجنبية.‬
ففي ‬الغرب، ‬وربما ‬معظم ‬أجزاء ‬العالم، ‬هناك ‬دور ‬نشر ‬متخصصة ‬حصرًا ‬في ‬الكتب ‬المتعلقة ‬بالسفر؛ ‬إذ ‬تنشر ‬أدب ‬رحلات ‬وكتيبات ‬إرشادية ‬عن ‬مدن ‬العالم ‬المختلفة ‬وأهم ‬معالمها ‬السياحية، ‬وكيفية ‬زيارة ‬هذه ‬المعالم ‬في ‬أقصر ‬وقت ‬ممكن. ‬ثمة ‬مثلًا ‬كتب ‬عن ‬كيفية ‬الإلمام ‬بأهم ‬ما ‬في ‬باريس ‬أو ‬لندن ‬مثلًا ‬في ‬يوم ‬أو ‬يومين، ‬وكتب ‬أخرى ‬مخصصة ‬لهواة ‬السياحة ‬الرياضية ‬أو ‬الثقافية ‬أو ‬المهتمين ‬بالمطابخ ‬المحلية ‬في ‬البلاد ‬التي ‬يزورونها ‬وهكذا. ‬وتجدد ‬هذه ‬الكتيبات ‬الإرشادية ‬دوريًا ‬كي ‬تواكب ‬التغيرات ‬المتتالية ‬في ‬المدن ‬المختلفة.‬
ومع ‬اجتياح ‬وباء ‬كورونا ‬للعالم ‬من ‬شرقه ‬إلى ‬غربه ‬وتوقف ‬حركة ‬السفر ‬العالمية ‬إلّا ‬في ‬أضيق ‬الحدود، ‬لم ‬يعد ‬أحد ‬تقريبًا ‬يُقبِل ‬على ‬اقتناء ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الكتيبات ‬وتضررت ‬دور ‬النشر ‬المتخصصة ‬في ‬نشرها ‬تضررًا ‬كبيرًا، ‬لم ‬يُحجِّم ‬منه ‬سوى ‬إقبال ‬القراء ‬على ‬قراءة ‬أدب ‬الرحلات ‬التقليدي، ‬الذي ‬يسرد ‬لهم ‬تجارب ‬كُتَّابه ‬في ‬بلاد ‬بعيدة، ‬تعويضًا ‬عن ‬حرمانهم ‬من ‬السفر.‬
حاولت ‬هذه ‬الدور ‬تقليل ‬خسائرها ‬أيضًا ‬بالتركيز ‬على ‬كتب ‬السياحة ‬المحلية ‬وإصدار ‬كتيبات ‬سياحية ‬عن ‬المدن ‬المحلية ‬في ‬الدول ‬التي ‬تنتمي ‬إليها، ‬كما ‬ركز ‬بعضها ‬على ‬نشر ‬كتب ‬تتناول ‬كيفية ‬السفر ‬مع ‬اتخاذ ‬كافة ‬الاحترازات ‬الصحية ‬اللازمة، ‬أو ‬تلفت ‬النظر ‬إلى ‬أهمية ‬الوعي ‬بالبيئة ‬المحيطة ‬وكيفية ‬رؤيتها ‬بعين ‬جديدة ‬سواء ‬في ‬أماكننا ‬الأصلية ‬أو ‬تلك ‬الأماكن ‬التي ‬نسافر ‬إليها.‬
وفي ‬ظل ‬عودة ‬حركة ‬السفر ‬نسبيًا ‬حاليًا، ‬تحاول ‬دور ‬النشر ‬هذه ‬التأقلم ‬مع ‬المستجدات ‬وتكييف ‬سياستها ‬النشرية ‬مع ‬التغيرات ‬الطارئة ‬على ‬عالمنا ‬لجني ‬أكبر ‬ربح ‬ممكن ‬وتوسيع ‬مفهومها ‬ومفهوم ‬قرائها ‬المحتملين ‬عن ‬الارتحال ‬وعلاقتهم ‬بالأماكن ‬التي ‬يزورونها ‬ودور ‬الإنسان ‬ومسؤوليته ‬عمّا ‬يقع ‬للبيئة ‬التي ‬يعيش ‬فيها.‬
طويت ‬الصفحة ‬الأخيرة ‬من ‬الكتاب ‬وقلت ‬فى ‬نفسي: ‬هذا ‬هو ‬الأدب ‬الذى ‬أود ‬كتابته ‬والكتابة ‬عنه. ‬ جرّبت ‬إنريكه ‬فيلا - ‬ماتاس ‬فى ‬ابارتليبى ‬وأصحابه ‬بترجمة ‬عبد ‬الهادى ‬سعدون ‬وامستكشفو ‬الهاوية ‬بترجمة ‬أحمد ‬مجدى ‬منجود، ‬بالإضافة ‬إلى ‬عمل ‬ثالث ‬قصير ‬عن ‬لغة ‬وسيطة ‬بعنوان‬A Brief History of Portable Literature، ‬وفيه ‬يصهر ‬الرجلُ ‬الفواصل ‬بين ‬التاريخ ‬
وأدب ‬المغامرات ‬والسيرة ‬الذاتية، ‬فيكتب ‬عن ‬تاريخ ‬مجتمع ‬سري، ‬أسماه ‬مجتمع ‬االشانديزب ‬نسبة ‬إلى ‬راوية ‬الأديب ‬الآيرلندى ‬لورانس ‬ستيرن ‬المعقدة (‬حياة ‬السيد ‬النبيل ‬تريسترام ‬شاندى ‬وآراؤه)‬، ‬وهو ‬مجتمع ‬يضمّ ‬مجموعة ‬من ‬الأدباء ‬الذين ‬عاشوا ‬فى ‬القرن ‬الماضى ‬مثل ‬دوتشامب، ‬جومبروفيتش، ‬بورخيس، ‬جويس، ‬سيلين، ‬فالتر ‬بينيامين، ‬لوركا ‬وغيرهم،
‬وكان ‬اكتشافاً ‬بحق. ‬اشتُهرت ‬أعمال ‬ماتاس ‬بالتناص ‬المكثف ‬مع ‬نصوص ‬أدبية ‬الأخرى ‬وعلى ‬الأخص ‬نصوص ‬روبرت ‬فالزر ‬وبيكيت ‬وجويس ‬ومونتين ‬ولورنس ‬شتيرن، ‬وكذلك ‬الرسم ‬بحُرَّية ‬من ‬تفاصيل ‬حياته ‬الغريبة، ‬وتحوم ‬نصوصه ‬حول ‬بقعة ‬رمادية ‬ما ‬بين ‬الأحداث ‬والتأملات ‬والسرد ‬المسهب ‬تتخلله ‬استطرادات ‬طويلة.‬ الدكتور ‬باسافنتو:‬
فى ‬هذا ‬العمل ‬ينهى ‬ماتاس ‬الثلاثية ‬التى ‬بدأها ‬ب ‬بارتليبى ‬وأصحابه ‬حول ‬كُتَّاب ‬ال ‬الاب ‬الرافضين ‬للكتابة، ‬أو ‬الكُتَّاب ‬الذين ‬كتبوا ‬عملاً ‬واحداً ‬ثم ‬هجروا ‬الكتابة ‬أو ‬الذين ‬غرقوا ‬قى ‬صمت ‬أبدى ‬حتى ‬رحلوا، ‬وأتبعه ‬بكتاب ‬Montanoصs Malady [‬وَفق ‬الترجمة ‬الإنجليزية] ‬وأخيراً ‬رواية ‬الدكتور ‬باسافانتو ‬التى ‬أنجز ‬ترجمتها ‬الشاعر ‬والمترجم ‬العراقى ‬حسين ‬نهابة. ‬
بطل ‬الرواية (‬ماتاس ‬شخصياً) ‬يصرّح ‬بوضوح ‬فى ‬مقابلاته ‬وأعماله ‬أنه ‬مهووس ‬بفكرة ‬الاختفاء ‬والتلاشى ‬عن ‬أعين ‬الجميع. ‬لماذا؟ ‬يبرر ‬ذلك ‬بقوله ‬لأنها ‬محاولات ‬تأكيد ‬الذات. ‬وبعد ‬أسبوعين ‬من ‬سؤال ‬المجهولين ‬له ‬يعرِفُ ‬ماتاس ‬أن ‬رجلاً ‬اسمه ‬ادكتور ‬باسافانتوب ‬اختفى ‬قُرب ‬برج ‬مونتين، ‬البرج ‬الذى ‬عاش ‬فيه ‬أستاذه ‬الأسلوبى ‬كاتب ‬المقالات ‬الفرنسى ‬ميشيل ‬مونتين، ‬من ‬دون ‬أن ‬يترك ‬أثراً، ‬وتبدأ ‬اللعبة. ‬يُدعى ‬السارد/‬الكاتب ‬إلى ‬إلقاء ‬محاضرة ‬فى ‬إشبيلية ‬حول ‬موضوع ‬اكيف ‬أن ‬الحقيقة ‬تراقص ‬الخيال ‬على ‬الحدود، ‬فينطلق ‬فى ‬رحلة ‬كيخوتية ‬ممزوجة ‬بطابع ‬ماتاسي، ‬لكنه ‬يقرر ‬فى ‬اللحظة ‬الأخيرة ‬عدم ‬إلقاء ‬المحاضرة ‬والاختفاء ‬بدلاً ‬من ‬ذلك. ‬رواية ‬دكتور ‬باسافينتو (‬إن ‬جاز ‬لنا ‬نسبها ‬إلى ‬ذلك ‬الجنس ‬الأدبي) ‬هى ‬حكاية ‬كاتب ‬يسعى ‬وراء ‬الاختفاء، ‬فيحاول ‬أن ‬يحذو ‬حذو ‬الكاتب ‬السويسرى ‬روبرت ‬فالزر ‬الذى ‬انسحب ‬من ‬مجد ‬العالم ‬الأدبى ‬ليعيش ‬فى ‬تعاسته ‬الجميلة ‬وليكسبَ ‬حياته ‬الحقيقة ‬عبر ‬إخفاء ‬هويته ‬فى ‬مستشفى ‬للأمراض ‬العقلية. ‬بل ‬أغلو ‬فأقول ‬إنها ‬محاولة ‬لإعادة ‬تمثيل ‬حياة ‬روبرت ‬فالزر، ‬ولا ‬سيما ‬فى ‬الثلث ‬الأخير ‬من ‬العمل؛ ‬حيث ‬يبدأ ‬الساردُ ‬كل ‬فقرة ‬تقريباً ‬بجُملة ‬ثابتة: ‬اوضعتُ ‬قبعة ‬اللباد ‬على ‬رأسى ‬وغادرت ‬غرفة ‬الكُتاب ‬أو ‬الأرواح، ‬وهى ‬نفسها ‬افتتاحية ‬قصة ‬روبرت ‬فالزر ‬اتمشيةب = ‬Der ‬Spaziergang (‬للقصة ‬ترجمة ‬عربية ‬بعنوان ‬مشوار ‬المشي).‬
‬دفعتْ ‬رغبة ‬باسافنتو ‬فى ‬الاختفاء ‬من ‬دون ‬أن ‬يلاحظه ‬أحد ‬إلى ‬استبدال ‬جهاز ‬الكمبيوتر ‬الخاص ‬به ‬وقلمه ‬الجاف ‬ب ‬اقلم ‬رصاصب (‬لروبرت ‬فالزر ‬قصة ‬بالاسم ‬نفسه!)‬، ‬بحيث ‬‬أن ‬ضربة ‬صغيرة ‬لسنّ ‬القلم ‬الرصاص ‬كفيلة ‬بنسف ‬فكرة ‬الكتابة. ‬يفطن ‬السارد ‬إلى ‬حقيقة ‬أن ‬الاختفاء ‬فى ‬الواقع ‬سيكون ‬غاية ‬فى ‬الصعوبة، ‬لكنه ‬يفكر ‬أيضًا ‬فى ‬الآلهة ‬الغامضين ‬المنعزلين ‬مثل ‬موريس ‬بلانشو ‬وتوماس ‬بينشون ‬وج. ‬د. ‬سالينجر، ‬فيتوجه ‬إلى ‬نابولي، ‬متخذًا ‬اسم ‬الدكتور ‬باسافينتو ‬ومحتفظاً ‬باسم ‬الدكتور ‬بينشون ‬كاسم ‬احتياطي. ‬
لا ‬يمل ‬الكاتب ‬على ‬مدار ‬الصفحات ‬من ‬إيراد ‬أسماء ‬الكّتاب ‬الذين ‬أَحَبَّهم ‬وتأثّرَ ‬بهم، ‬ولحسن ‬الحظ ‬أنهم ‬من ‬طينة ‬الكُتاب ‬الذين ‬أعاود ‬قراءتهم ‬والترجمة ‬لهم ‬أحياناً. ‬كاتب ‬ماتاس ‬الأثير ‬هو ‬السويسرى ‬روبرت ‬فالزر، ‬عميد ‬أدب ‬الاختفاء ‬عن ‬البلاد ‬والعباد ‬وحامل ‬صليب ‬الأدب، ‬وكاتبه ‬الأسلوبى ‬المفضل ‬هو ‬الألمانى ‬فينفريد ‬جيورج ‬زيبالد، ‬الذى ‬كان ‬يشعر ‬أن ‬كل ‬ما ‬حوله ‬فى ‬طريقه ‬إلى ‬الاختفاء ‬والتلاشى ‬والزوال. ‬ماتاس ‬مولعٌ ‬ب ‬زيبالد، ‬المستشهد ‬دوماً ‬بشعرية ‬الزوال ‬والمتناص ‬دوماً ‬مع ‬أعمال ‬الآخرين،
‬وكذلك ‬بموريس ‬بلانشو، ‬صمويل ‬بيكيت، ‬سالينجر، ‬جوليان ‬جراك ‬وتوماس ‬بينشون، ‬إلخ. ‬ومثلما ‬كان ‬صمويل ‬بيكيت ‬يختفى ‬وراء ‬الكلمات ‬المتكررة ‬إلى ‬ما ‬لانهاية ‬فى ‬مالون ‬ومولوى ‬واللا ‬مسمّى، ‬يختفى ‬ماتاس ‬وراء ‬الاستطراد ‬المتواصل ‬وإرجاء ‬النهاية ‬إلى ‬أبعد ‬نقطة ‬ممكنة. ‬
من ‬النقاط ‬اللافتة ‬انشغال ‬ماتاس ‬المتواصل ‬بالبحث ‬عن ‬أسلوب، ‬الرجل ‬هو ‬الأسلوب ‬كما ‬يُقال ‬عادةً. ‬فتّش ‬الرجل ‬طويلاً ‬فلم ‬يجد ‬الأدب ‬الحقيقى ‬فى ‬نظره، ‬وفى ‬اعتقادى ‬مؤخراً ‬إلا ‬عند ‬لورانس ‬ستيرن ‬فى ‬احياة ‬تريسترام ‬شانديب، ‬وهو ‬العمل ‬الجامع ‬كل ‬شيء ‬وأى ‬شيء (‬أذكر ‬أن ‬خابيير ‬مارياس ‬قال ‬الكلمة ‬نفسها ‬فى ‬أحد ‬حواراته)‬، ‬كما ‬وجدها ‬فى ‬مقالات ‬مونتين، ‬حيث ‬ابتكر ‬مونتين ‬ولورانس ‬ستيرن ‬جنس ‬المقالة/‬الرواية/‬السيرة، ‬وهو ‬الجنس ‬الأدبى ‬الذى ‬واصلَ ‬زيبالد ‬تطويره ‬وسار ‬به ‬ماتاس ‬فى ‬سِكّة ‬جديدة. ‬
السارد ‬المهووس ‬بفكرة ‬الاختفاء ‬يستخدم ‬تقنية ‬الاستطراد ‬اللا ‬نهائي،
‬وهى ‬استراتيجية ‬تريسترام ‬شاندى ‬الرامية ‬إلى ‬إرجاء ‬النهاية/‬الموت ‬إلى ‬ما ‬لا ‬نهاية، ‬فبطل ‬رواية ‬ستيرن ‬لا ‬يريد ‬أن ‬يُولد ‬لأنه ‬لا ‬يريد ‬أن ‬يموت. ‬المفارقة ‬الساخرة ‬والمتكررة ‬فى ‬نصوص ‬ماتاس ‬ذ ‬حسبما ‬قرأت ‬منها- ‬أن ‬الكاتب ‬الحالم ‬بالهروب ‬من ‬نفسه ‬ومن ‬الموت، ‬والمنتحل ‬لهوية ‬شخص ‬آخر، ‬لا ‬يسعه ‬إلا ‬مواصلة ‬سرد ‬القصة (‬إن ‬كانت ‬ثمة ‬قصة) ‬بضمير ‬المتكلم. ‬بل ‬أن ‬السارد ‬فى ‬بحثه ‬عن ‬طُرق ‬للاختفاء ‬يقتبس ‬تقنياته ‬من ‬الروايات ‬والكتب، ‬الرجل ‬مستغرق ‬بكليته ‬فى ‬عالم ‬الأدب ‬وكأنه ‬لم ‬يُخلق ‬لهذا ‬هذا ‬العالم. ‬وسط ‬مسار ‬السرد ‬يطل ‬علينا ‬ماتاس ‬بآرائه ‬حول ‬الأدب ‬فيتسائل ‬فى ‬حواراته ‬مع ‬بروفيسور ‬مورانتي: ‬لِمَ ‬كان ‬الأدب ‬الجيّد ‬يتخذ ‬دائماً ‬شكل ‬رحلة؟ ‬الأوديسة؟ ‬رحلة ‬اليوم ‬الواحد ‬فى ‬عوليس ‬ج. ‬جويس؟ ‬الكيخوته؟ ‬فيجيب ‬بأن ‬الرحلة ‬هى ‬الحبكة ‬المثالية ‬لأية ‬قصة، ‬لأنهم ‬اكتشفوا ‬منذ ‬العهود ‬الغابرة ‬أنه ‬إذا ‬كان ‬للشيء ‬بداية ‬ونهاية ‬فهى ‬الرحلة، ‬كان ‬للرحلات ‬بداية ‬ونهاية ‬وهذا ‬ما ‬يصنع ‬نسقاً، ‬أو ‬هذا ‬ما ‬يصنع ‬قصة.‬
***‬
كان ‬أرتور ‬رامبو ‬يقول ‬إن ‬الحياة ‬الحقيقية ‬غائبة، ‬وفى ‬ظنى ‬ستظل ‬الحياة ‬غائبة، ‬خلواً ‬من ‬المعنى ‬طالما ‬لم ‬يضعها ‬الإنسان ‬داخل ‬قصة ‬أو ‬قصيدة، ‬ولن ‬يتحقق ‬حضورها ‬إلا ‬بالتقرير ‬الذى ‬يكتبه ‬الإنسان ‬عن ‬نفسه. ‬لا ‬ينبغى ‬لأحد ‬الموت ‬إلا ‬لو ‬كانت ‬لديه ‬قصة ‬تُروى. ‬لكى ‬تغادر ‬عليك ‬أن ‬تحكى ‬قصّتك ‬أولاً ‬ثم ‬تمضي، ‬كاذبة ‬كانت ‬أم ‬صادقة، ‬لا ‬فرق. ‬ذات ‬معنى ‬أم ‬خالية ‬من ‬المعنى، ‬لا ‬ضير. ‬قرأها ‬أحد ‬أم ‬لم ‬يقرؤها ‬أحد، ‬لا ‬يهم. ‬
فى ‬أدب ‬ماتاس ‬الحياة ‬لا ‬وجود ‬لها ‬لو ‬لم ‬يعثر ‬لها ‬الإنسان ‬على ‬شكل ‬سردى (‬حتى ‬لو ‬كانت ‬رواية ‬ملغزة
‬ونقطة ‬النور ‬فيها ‬مدفونة ‬أسفل ‬جملة ‬واحدة ‬فقط، ‬والشاطر ‬من ‬يعثر ‬عليها ‬مثل ‬مولوى ‬بيكيت)‬، ‬فمن ‬دون ‬الأدب ‬لن ‬تكون ‬الحياة ‬أكثر ‬من ‬شيء ‬يحدث، ‬سيرك ‬يمرّ ‬لو ‬استعرتُ ‬عنوان ‬رواية ‬موديانو، ‬أما ‬عبر ‬الفن ‬الذى ‬يتخذ ‬شكل ‬رواية/‬قصة/‬قصيدة/‬لوحة/‬مقالة/‬مقطوعة ‬موسيقية ‬تنفتح ‬أمامك ‬طاقة ‬صغيرة ‬تطلَّ ‬منها ‬برأسك. ‬نقرأ ‬فى ‬صفحة ‬83: ‬االأدب ‬يمنح ‬حبكةَ ‬الحياة، ‬منطقاً ‬لا ‬تمتلكه ‬الحياة ‬نفسها. ‬يبدو ‬لى ‬أن ‬الحياة ‬تخلو ‬من ‬الحبكة ‬وعلينا ‬تقع ‬مسؤولية ‬وضعها، ‬نحن ‬الذين ‬اخترعنا ‬الأدب.‬ب ‬أفكّر ‬الآن ‬فى ‬سبب ‬ارتباط ‬ماتاس ‬القوى ‬بروبرت ‬فالزر. ‬فى ‬منتصف ‬الرواية ‬يزور ‬السارد ‬فى ‬صحبة ‬بروفيسور ‬مورانتى ‬مصحة ‬هريساو ‬التى ‬توفى ‬فالزر ‬فى ‬أرجائها ‬بعد ‬سقوطه ‬فوق ‬الثلج ‬فى ‬أثناء ‬جولات ‬المشى ‬الغامضة ‬التى ‬لم ‬يكشف ‬عن ‬سرّها ‬أبداً ‬حتى ‬وفاته ‬مثلما ‬فعل ‬بطل ‬نوفيلا ‬باتريك ‬زوسكِند ‬الساحرة ‬احكاية ‬السيد ‬زومرب. ‬السارد ‬عثر ‬على ‬وجوده ‬الحقيقى ‬فى ‬نمط ‬حياة ‬فالزر ‬الذى ‬كان ‬منفصلاً ‬عن ‬الحياة ‬العامة، ‬كارهاً ‬للنفاق ‬والابتذال، ‬يعيش ‬حياة ‬كاتب ‬حقيقي، ‬لا ‬أراجوز ‬أدبى ‬يقفز ‬بين ‬الموائد ‬مثل ‬الكرة ‬الجلِد. ‬لم ‬يكن ‬يرغب ‬بشيء ‬سوى ‬أن ‬يبوح ‬بحقائقه ‬البسيطة ‬وأن ‬يخفى ‬آلامه ‬قبل ‬أن ‬يغرق ‬فى ‬الصمت، ‬فالزر ‬هو ‬مالك ‬وسيّد ‬الثرثرة ‬على ‬الورق ‬فقط ‬بحسب ‬كلام ‬ماتاس، ‬البطل ‬السرى ‬لمعركة ‬خاضها ‬بالقصص ‬ضد ‬العالم. ‬يقول ‬السارد ‬فى ‬فقرة ‬لافتة: ‬اما ‬زلتُ ‬لا ‬أستطيع ‬أن ‬أعتبر ‬نفسى ‬كاتباً ‬بمعنى ‬الكلمة، ‬وأعتقد ‬أننى ‬لستُ ‬مهتماً ‬بأن ‬أصبح ‬ذلكب (‬ص ‬257). ‬الا ‬بد ‬من ‬الانسحاب ‬من ‬العالَم ‬لفهمهب، ‬هكذا ‬يقول ‬أحد ‬الأبطال ‬إلى ‬ماتاس. ‬سؤال ‬من ‬عندي: ‬ألن ‬يقابل ‬المبدعُ ‬الموتَ ‬راضياً ‬مرضياً ‬لو ‬عاش ‬هكذا؟ ‬أقوى ‬المشاهد ‬عند ‬ماتاس ‬ذ ‬فى ‬ذوقي- ‬هى ‬المشاهد ‬التى ‬يحكى ‬فيها ‬عن ‬الكتب ‬التى ‬يُحبها ‬والكُتاب ‬الذين ‬يحبّهم ‬والمواقف ‬التى ‬اختلقها ‬ليقابلهم. ‬ففى ‬كلامه ‬عن ‬زيارة ‬مصحة ‬هيرساو ‬لمستُ ‬سرداً ‬ساخناً ‬متحركاً ‬إذ ‬قال: ‬اسأكون ‬كاذباً ‬إن ‬لم ‬أقل ‬أن ‬انطباعاً ‬تولّد ‬في، ‬أثناء ‬صعودنا ‬الصامت ‬إلى ‬مستشفى ‬هريساو، ‬بأننى ‬أعيش ‬المغامرة ‬الكبرى ‬التى ‬بدأ ‬فيها ‬المستشكف ‬يقترب ‬أخيراً ‬من ‬شىء ‬حقيقىب. ‬
نحن ‬نكتبُ ‬لنختفي، ‬لنغيّبَ ‬أنفسنا، ‬هكذا ‬يقول ‬ماتاس ‬قرب ‬نهاية ‬الرواية (‬ص ‬229). ‬وهنا ‬تكمن ‬المفارقة ‬الجميلة؛ ‬حينما ‬يكتب ‬الكاتب ‬فإنه ‬يغيّبَ ‬اأناهب ‬الظاهرة ‬ويُظهر ‬ظلّه ‬الناطق ‬باسم ‬الحقيقة. ‬يغرس ‬أناه ‬فى ‬أرض ‬الخمول ‬بتعبير ‬ابن ‬عطاء ‬الله ‬السكندرى ‬لتنبتَ ‬شخوصاً ‬أخرى ‬أقدر ‬على ‬التعبير ‬عن ‬نفسه ‬منه، ‬يصرّح ‬هيرمان ‬هسّه ‬فى ‬فصل ‬من ‬سيرته ‬الذاتية ‬حَمل ‬عنوان ‬اطفولة ‬الساحرب ‬بأن ‬أكثر ‬أمانيه ‬حماسةً ‬وهو ‬صغير ‬أن ‬يمتلك ‬القدرة ‬السحرية ‬على ‬الاختفاء.‬

طالما ‬شغلتنى ‬فكرة ‬مستقبل ‬الأدب ‬أو ‬أدب ‬المستقبل. ‬إلى ‬أين ‬يتجه ‬الأدب؟ ‬أجاب ‬ماتاس ‬نفسه ‬عن ‬السؤال ‬فى ‬أول ‬الرواية، ‬ناسِباً ‬الإجابة ‬إلى ‬الفرنسى ‬المحتجب ‬موريس ‬بلانشو ‬بقوله: ‬ايتجه ‬نحو ‬ذاته، ‬نحو ‬جوهره ‬الذى ‬هو ‬الاختفاء.‬ب
فى ‬حوار ‬أُجرى ‬مع ‬ماتاس ‬سنة ‬2018 ‬على ‬موقع ‬Tin House ‬قال ‬إنه ‬عثر ‬عند ‬الكاتب ‬الفرنسى ‬جورج ‬بيريك ‬على ‬رأى ‬مؤداه ‬أن ‬الأدب ‬يتقدم ‬نحو ‬فن ‬الاقتباسات، ‬وهو ‬ما ‬يمثل ‬فى ‬رأيه ‬توجهاً ‬إلى ‬الأمام، ‬وأضاف ‬أنه ‬يعمل ‬على ‬رسم ‬شخصية ‬مهتمة ‬بجمع ‬الاقتباسات ‬النادرة ‬من ‬كل ‬نصوص ‬العالم ‬وبكل ‬اللغات، ‬وهى ‬تعمل ‬لصالح ‬أحد ‬تلامذة ‬الروائى ‬الأميركى ‬الغامض ‬توماس ‬بينشون، ‬الكاتب ‬الذى ‬اختفى ‬عن ‬الأنظار ‬منذ ‬خمسينيات ‬القرن ‬الماضى ‬ويُشكّك ‬فى ‬وجوده ‬من ‬الأساس ‬برغم ‬حصده ‬الجوائز ‬ومواصلته ‬إصدار ‬المزيد ‬من ‬الروايات ‬من ‬بقعة ‬خفية ‬فى ‬نيويورك (‬انتحل ‬السارد ‬ماتاس ‬فى ‬الصفحات ‬الأخيرة ‬من ‬هذا ‬الكتاب ‬شخصية ‬بينشون ‬أيضاً!) ‬البطل ‬مشغول ‬بإعداد ‬موسوعة ‬متنقلة ‬تحوى ‬كافة ‬الاقتباسات ‬والاستعارات ‬الأدبية ‬المتاحة ‬فى ‬كل ‬كتب ‬العالم، ‬ولا ‬أستبعد ‬تأثّر ‬ماتاس ‬القوى ‬بأدباء ‬مولعين ‬بالتناص، ‬وعلى ‬رأسهم ‬كاتب ‬أشار ‬إليه ‬ماتاس ‬أكثر ‬من ‬مرة ‬فى ‬هذا ‬العمل، ‬وهو ‬الألمانى ‬ف.‬ج.‬زيبالد، ‬الذى ‬يتشابه ‬أسلوبه ‬مع ‬أسلوب ‬ماتاس. ‬وإن ‬اصطبغ ‬الأخير ‬بصبغة ‬هذيانية ‬استطرادية ‬متطرفة. ‬
سُئِل ‬ماتاس ‬عن ‬وجهة ‬نظره ‬إزاء ‬الأدب ‬الذى ‬يكتبه ‬fractal literatureت (‬أدب ‬الفراكتل ‬أو ‬أدب ‬الصدوع ‬والكسور)‬، ‬فغالباً ‬ما ‬تظهر ‬فى ‬أعماله ‬تفصيلة ‬دقيقة، ‬كمصادفة ‬أو ‬قرار ‬أو ‬تحوير ‬لغوى ‬لعبارة، ‬لكنها ‬ما ‬تلبث ‬أن ‬تكتسب ‬شيئًا ‬فشيئًا ‬مزيدًا ‬من ‬الأهمية ‬فتبتلعُ ‬الروايةَ،
‬وتنزلق ‬إلى ‬نسيج ‬العمل ‬لتخلق ‬شكلًا ‬سرديًا ‬جديدًا. ‬يستمر ‬هذا ‬لبعض ‬الوقت ‬حتى ‬تظهر ‬تفصيلة ‬أخرى ‬تسير ‬على ‬المنوال ‬ذاته ‬لتبتلع ‬العمل ‬خالقةً ‬شكلًا ‬سرديًا ‬آخر. ‬وهكذا ‬لا ‬تتوقّف ‬الرواية ‬عن ‬مقاطعة ‬نفسها ‬مُشيَّدةً ‬هذا ‬النظام ‬الجميل ‬الخلو ‬من ‬المنطق (‬ظاهرياً)‬، ‬الأمر ‬يشبه ‬إلى ‬حد ‬بعيد ‬كيف ‬يوظّف ‬الرسام ‬أشكال ‬الفراكتل ‬والمنحنيات ‬المتعرجة ‬لتبنى ‬لنفسها ‬شكلًا ‬جمالياً ‬على ‬درجة ‬عالية ‬من ‬التعقيد ‬والتناسق ‬الخفي. ‬راق ‬لماتاس ‬التعبير ‬وراق ‬له ‬وصف ‬أدب ‬الكسور ‬والشظايا ‬الذى ‬يكتبه ‬بالنظام ‬الجميل ‬الخالى ‬من ‬المنطق. ‬قال ‬إنه ‬لم ‬يسبق ‬وأن ‬قرأَ ‬وصفًا ‬مُماثلًا ‬يقترب ‬من ‬تصوير ‬الطريقة ‬التى ‬تُشيد ‬بها ‬أعماله، ‬مضيفاً ‬أنه ‬أدرك ‬بوضوح ‬حقيقة ‬دمجه ‬بين ‬جنس ‬المقالة ‬الأدبية ‬والقصة ‬والسيرة، ‬وأن ‬الخيوط ‬المفترض ‬نسجها ‬من ‬قماش ‬السيرة ‬الذاتية ‬التى ‬يضمّها ‬إلى ‬هذين ‬الجنسين ‬السرديين (‬المقالة ‬والقصة) ‬قادمة ‬من ‬صوت ‬سردى ‬قريب ‬للغاية ‬من ‬صوت ‬كاتب ‬المقالة. ‬أضاف ‬ماتاس ‬أن ‬الصوت ‬المتكلم ‬ليس ‬صوت ‬كاتب ‬شبحى ‬يسكن ‬ثنايا ‬النص ‬بل ‬هو ‬صوت ‬المؤلف ‬نفسه ‬المنحدر ‬من ‬سلالة ‬مونتانى ‬والكاتب ‬والمترجم ‬المكسيكى ‬سيرخيو ‬بيتول (‬وللأخير ‬بالمناسبة ‬ثلاثية ‬قرأتُ ‬عنها ‬مراجعات ‬ممتازة ‬تجمع ‬بين ‬فن ‬المذكرات ‬والنثر ‬والحر ‬والتأملات ‬الأدبية ‬والقراءات ‬الشخصية ‬تحمل ‬عنوان: ‬Triology ‬of Memoryوهى ‬ثلاثية ‬جديرة ‬بانتباه ‬المترجمين ‬المتخصصين.‬
قال ‬ماتاس ‬إن ‬غاية ‬أعماله ‬ليست ‬صنع ‬حبكة ‬أو ‬تتابع ‬سلسلة ‬من ‬الأفكار، ‬بل ‬الخروج ‬بطبخة ‬افيلا-‬ماتاسب، ‬ليسمّها ‬القاريء ‬طريقة ‬تفكير ‬أو ‬أسلوب ‬كتابة، ‬مضيفاً ‬أنه ‬ربما ‬يرجع ‬سرّ ‬أسلوبه ‬فى ‬رغبته ‬فى ‬الزج ‬بالخيال ‬إلى ‬بقعة ‬عدم ‬تصديق ‬القاريء ‬للمكتوب، ‬فمتعة ‬قراءة ‬كتاب ‬لا ‬تكمن ‬فى ‬القصة ‬المروية، ‬بل ‬فى ‬مقابلة ‬المؤلف ‬وجهًا ‬لوجه ‬على ‬طريقة ‬الروائيين ‬الذين ‬يسردون ‬كما ‬لو ‬كانوا ‬يكتبون ‬مقالة ‬أدبية، ‬فى ‬مثل ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الأدب ‬ذ ‬والكلام ‬من ‬نفس ‬المقابلة ‬المُشار ‬إليها- ‬لا ‬ينفك ‬محور ‬الكتاب ‬عن ‬التغيّر ‬والانزياح ‬بقصد ‬الاقتراب ‬من ‬اكتشاف ‬المحور ‬الرئيسى ‬للرواية ‬أو ‬اكتشاف ‬المحور ‬الرئيسى ‬للمقالة ‬المَحكية ‬لو ‬راق ‬للقاريء ‬التعبير. ‬الحقيقة ‬أن ‬ماتاس ‬احدوتة ‬لوحدهب، ‬أسلوبى ‬من ‬طراز ‬رفيع، ‬أعثر ‬دائماً ‬فى ‬حواراته ‬ونصوصه ‬ما ‬يُغوى ‬بمزيد ‬من ‬البحث ‬والتفتيش. ‬
قبل ‬فترة ‬عثرتُ ‬على ‬مادة ‬مشوقة ‬له ‬بالإنجليزية. ‬كان ‬الخطاب ‬الذى ‬ألقاه ‬بمناسبة ‬حصوله ‬على ‬جائزة ‬معرض ‬كتاب ‬جوادالاخارتفى ‬المكسيك ‬سنة ‬2015، ‬تحدّث ‬الرجل ‬عن ‬أزمة ‬نضوب ‬الأفكار ‬فقال ‬إن ‬كل ‬كتاب ‬ألّفه ‬كان ‬يقرّبه ‬شيئًا ‬فشيئًا ‬من ‬نقطة ‬هجر ‬الكتابة، ‬مثل ‬من ‬يخطو ‬بهدوء ‬نحو ‬طريق ‬مسدودة، ‬ثم ‬يعود ‬الأصدقاء ‬ليسألونه ‬كما ‬يفعلون ‬عادة: ‬وماذا ‬بعد؟
يقول ‬ماتاس: ‬اكنت ‬أظن ‬أن ‬الأمور ‬محسومة، ‬مررت ‬بأوقات ‬عصيبة ‬وأنا ‬أحاول ‬الخروج ‬من ‬تلك ‬النهاية ‬الميّتة، ‬لكنى ‬كنتُ ‬محظوظاً، ‬فدائماً ‬كنتُ ‬أتنبّه ‬فى ‬اللحظة ‬الأخيرة ‬إلى ‬أن ‬الذكاء ‬هو ‬فن ‬العثور ‬على ‬فجوة ‬صغيرة ‬يمكن ‬الهروب ‬عبرها ‬من ‬الأزمة ‬التى ‬تحاصرنا. ‬وقد ‬حالفنى ‬الحظ ‬دائماً ‬فى ‬النهاية ‬فى ‬العثور ‬على ‬أصغر ‬فجوة ‬يمكننى ‬الهروب ‬منها ‬لأشق ‬طريقى ‬نحو ‬تأليف ‬كتاب ‬جديد.‬
ماتاس ‬وأدب ‬الاختفاء
فى ‬الخطاب ‬نفسه ‬حكى ‬ماتاس ‬عن ‬لقائه ‬بأديب ‬تشيلى ‬روبرتو ‬بولانيو ‬سنة ‬2001، ‬وتحدّثا ‬فيه ‬عن ‬مستقبل ‬الرواية ‬والكتابة، ‬فأخبره ‬بولانيو ‬أن ‬ذلك ‬النوع ‬من ‬السرد ‬الروائى ‬القائم ‬على ‬الحبكة ‬والسرد ‬الخطى ‬كان ‬حاضراً ‬بقوة ‬فى ‬القرن ‬التاسع ‬عشر، ‬لكنه ‬أيامه ‬ولَّتْ، ‬مضيفاً ‬أن ‬ظهور ‬رواية ‬ااختراع ‬موريلب ‬لكاساريس ‬جعل ‬هذا ‬النوع ‬من ‬الروايات ‬غير ‬قابل ‬للحياة. ‬وربما ‬بعد ‬كلمة ‬بولانيو ‬تأكّدتْ ‬وجهة ‬نظر ‬ماتاس ‬فيما ‬كتب. ‬يغلب ‬اعتقادى ‬دائماً ‬أن ‬النقطة ‬الميتة ‬فى ‬أى ‬نص ‬هى ‬النقطة ‬التى ‬خرجت ‬وستخرج ‬منها ‬كل ‬قصة ‬جديدة ‬حتى ‬ولو ‬كانت ‬قصة ‬عن ‬الاختفاء ‬أو ‬عن ‬انتحال ‬هويات ‬الآخرين. ‬
المصدر : جريدة اخبار الادب



انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.