شكلت دولة 3 يوليو منعطفًا ونقطة تحول كبرى فى مسار السياسة الخارجية المصرية، بعد عام من العمل على توجيه دفتها نحو محور محدد هو المحور الداعم للحكم الدينى وحركات الإسلام السياسي، إذ لم يكن غريبًا أن يكون المرتكز الرئيسى فى سياسة مصر الخارجية فى ظل حكم جماعة الإخوان الإرهابية هو المحور القطرى - التركي، والدوران فى فلكه، كما لم يكن غريبًا اهتمام الجماعة بتعميق العلاقات مع تركيا وإيران باعتبارهما نموذجى لحكم الاسلام السياسى فى المنطقة، مع تعميق نهج السياسة الخارجية المصرية فى السنوات القليلة التى سبقت وصولها إلى الحكم فى الانصياع للقطب الأوحد وهو الولاياتالمتحدة. لم تتوافق إرادة الشعب المصرى فى 30 يونيو مع إرادة بعض الدول التى رغبت فى استمرار مشروع الإسلام السياسى فى حكم مصر والمنطقة، واعتبرت خروج الملايين رفضًا لحكم جماعة الإخوان خروجًا عن الديمقراطية، ولذلك عبّرت الكثير من الدول، وخاصة الأوروبية عن قلقها من التطورات الجارية فى مصر، مؤكدة حينها ضرورة الانتقال إلى حكم ديمقراطى مدني، فيما حاولت دول أخرى منها الولاياتالمتحدة مسك العصا من المنتصف، والحديث بنبرة توازن بين الاعتراف بنزول المصريين إلى الشوارع، والتشكيك فى مآلات ما حدث، وصولًا إلى أكثر المواقف رفضًا للثورة وهو تعليق عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي. أدخل ذلك كله مصر فى مرحلة يمكن وصفها بأنها أشبه بالعزلة الدولية، ومن هنا كانت المعركة الرئيسة بعد نجاح المصريين فى إزاحة الإخوان من الحكم هى إقناع العالم بشرعية تحرك المصريين فى التخلص من حكم الجماعة الإرهابية، وهى معركة نجحت فيها الدبلوماسية المصرية بجدارة، تحولت بعدها مصر من العزلة الدولية إلى التأثير فى محيطها الإقليمى والدولي، والتحرك كلاعب فاعل فى مختلف القضايا، بل واختيارها لشغل مقعد غير دائم لمدة عامين فى مجلس الأمن الدولى فى 15 أكتوبر 2015 بأغلبية 179 صوتًا من أصل 193 دولة، وترؤسها لجنة مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن، وهو ما عُدَّ انتصارًا كبيرًا للدبلوماسية المصرية. انطلقت مصر فى هذه المعركة من أساس صلب وهو ما تملكه من مقومات استراتيجية، ومعرفة أن العالم كله سيكون فى حاجة إليها لما تمثله من قوة إقليمية كبيرة فى الشرق الأوسط، وفاعل لا يُستهان به فى قضايا المنطقة، ولذلك كان النهج المتبع فى استعادة العلاقات مع الدول المختلفة هو نهج تعزيز المصالح المشتركة، وليس السعى إلى كسب رضا الدول الأخرى، بل انتقلت إلى سعى القوى الكبرى إلى تنسيق المواقف معها فيما يخص قضايا المنطقة، ولا سيّما الأزمة فى ليبيا، والاستفادة من خبراتها فى العديد من الملفات مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية. قوة مصر فى المنطقة ظهرت كذلك فى حضورها الكثير من المحافل الدولية الاقتصادية والسياسية، ومنها قمم دولية شاركت فيها مصر للمرة الأولى فى تاريخها، فاقتصاديًا شاركت مصر فى قمة مجموعة العشرين عامى 2016 و2019، وقمة الدول السابع الصناعية الكبرى فى فرنسا 2019 والقمة البريطانية الأفريقية للاستثمار 2020، وقمة التيكاد فى اليابان 2019 وقمة الحزام والطريق فى الصين 2019 وقمة منتدى الصين أفريقيا 2018 والقمة الأوروبية الأفريقية بالنمسا 2018، وقمة بريكس 2017 وقمة الفيشجراد بالمجر 2017، وسياسيًا شاركت مصر فى مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية مطلع العام الجاري، وقبله مؤتمر باليرمو حول ليبيا عام 2018، فضلًا عن مؤتمر ميونيخ للأمن، بجانب استضافة القمة العربية الأوروبية فى شرم الشيخ 2019. تنويع العلاقات السياسة الخارجية لدولة 3 يوليو انتقلت من مرحلة التبعية إلى القطب الأوحد، إلى مرحلة الشراكة مع جميع القوى الدولية، وإقامة علاقات متوازنة مع الجميع، فلم تعد رهينة علاقاتها مع الولاياتالمتحدة فقط كما كان الأمر فى عهد الجماعة الإرهابية وما قبله، وإنما عززت شراكاتها وتعاونها مع روسيا أيضًا، خاصة وأن روسيا من أول الدول التى دعمت مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، وأيدت قرار الشعب المصري. وتكلل ذلك بتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية كاملة بين القاهرة وموسكو فى أكتوبر 2018، بالإضافة إلى إسناد مهمة إنشاء محطة الضبعة النووية إلى شركة روساتوم الروسية. وفى خضم ذلك كله، تبقى الولاياتالمتحدة حليفًا مهمًا لمصر، وشريكًا استراتيجيًا، وساهمت الدبلوماسية المصرية فى عودة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلى مسارها الصحيح مع الحفاظ على كونها علاقات استراتيجية بنّاءة وفعّالة، دون الهيمنة الأمريكية على القرار المصري، إذ تتحرك مصر وفق مصالحها مع كل القوى الدولية. وهذا ما ظهر فى تعزيز مصر فى الوقت ذاته لعلاقاتها مع الصين، وخاصة العلاقات الاقتصادية، وتجلى ذلك فى إعلان البلدين الارتقاء بمستوى الشراكة بينهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية فى عام 2014.. بناء على ما تقدم، يمكن الإشارة إلى أهم أهداف ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية لدولة 3 يوليو فيما يلي: الحفاظ على مقدرات المصريين: فى منطقة تموج بالعديد من المتغيرات وتحيط بها الكثير من الأطماع، وخاصة بعد الاكتشافات الكبيرة للغاز الطبيعى فى منطقة شرق البحر المتوسط، كان الحفاظ على هذه الثروات والمقدرات هدفًا رئيسًا من أهداف سياسة مصر الخارجية ودبلوماسيتها، ولذلك عمدت مصر إلى إحياء علاقاتها مع كل من قبرص واليونان وتبادل الزيارات معهما، وصولًا إلى ترسيم الحدود البحرية فى شرق المتوسط؛ للحفاظ على مقدرات المصريين فيها، وقطع الطريق أمام أى محاولة للنيل منها. المصالح المصرية فوق أى اعتبار: على العكس من السياسة الخارجية المصرية فى عهد جماعة الإخوان التى تبلورت حول تحقيق المصالح العليا للجماعة وليس للوطن، كان الهدف الرئيسى للسياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو هو تحقيق مصالح مصر العليا بصرف النظر عن أى مصالح ضيقة أخرى؛ إذ أعلت مصر فى علاقاتها مع الدول الأخرى مبدأ أن مصالحها مقدمة فوق أى اعتبار، ومنها اعتبارات الصراع أو التنافس بين القوى الكبرى، إذ تبحث مصر عن مصلحتها مع كل القوى الدولية الكبرى دون التبعية لأى منها. دعم الدول الوطنية: ملمح رئيسى من ملامح سياسة مصر الخارجية بعد ثورة 30 يونيو ومرتكزاتها هو دعم الدول الوطنية فى حربها ضد الميلشيات المسلحة والإرهابية التى تريد انتزاع السيطرة على هذه الدول، وهو ما ظهر فى مواقف مصر فى كل من أزمات سوريا وليبيا واليمن، إذ أكدت دعمها للدول الوطنية فى مواجهة الجماعات والحركات والميليشيات التى تخوض حروبًا فى هذه الدول منذ 2011، وذلك سعيًا من مصر لإنهاء حالة عدم الاستقرار التى يشهدها الإقليم، والقضاء على الإرهاب. ورغم أن هذا الثابت الأصيل فى سياسة مصر الخارجية بعد ثورة 30 يونيو كان أحد أسباب نشوب خلافات مع بعض البلدان التى انتهجت نهجًا مغايرًا داعمًا لهذه الميليشيات والفواعل من دون الدول، فإن مصر ظلت متمسكة بهذا الخيار ولم تحد عنه. بعد عام من حكم الجماعة الإرهابية التى دعت علنًا لمحاربة الدول الوطنية فى صف الميليشيات المسلحة. تعزيز العلاقات مع العمق العربي: حرصت مصر بعد ثورة 30 يونيو على تعزيز علاقاتها مع الدول العربية كافة، وخاصة الدول الخليجية التى وقفت موقفًا داعمًا بشكل قوى للثورة منذ يومها الأول، مع إعادة مصر لموقعها الريادى والقيادى للأمة العربية من جديد -بعد فترة من عدم الاهتمام بالعلاقات مع الدول العربية سوى قطر- وذلك من خلال الحفاظ على علاقات قوية ومتينة مع كل الدول العربية، وتبادل الزيارات معها، والدفاع عن قضاياها داخل جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي، ومن ذلك دعوة مصر لقمة عربية طارئة لإدانة التدخل التركى فى سوريا "عملية نبع السلام 2019"، هذا بجانب تدشين آلية التعاون الثلاثى بين مصر والعراق والأردن لدفع التعاون والتنسيق والتكامل بين الدول الثلاث فى مختلف المجالات.