في حديث وديّ مع أحد الأصدقاء الأعزاء، قال لي: ليتك تتحدث في إحدي مقالاتك عن التَّرك: ترك الإنسان لرفيقه، لوالديه، لإخوته، لأهله، لأبنائه، بل لله أيضًا. لقد أصبحت ظاهرة العصر!»، وانتهت جِلْستنا. ولٰكن ظلت أصداء كلمات صديقي تتردد في عقلي، وأخذت الأفكار تتدفق واحدة تَلو الأخري وبدأت أسطرها تنساب في كلمات: إن الحديث عن المبادئ يتخطي التحدث عن الايجابيّ منها فقط، إذ من الجائز بل المفيد أن نتحدث عن بعض الصفات السلبية التي بإبرازها تظهر وتنجلي لنا مبادئ إيجابية أخري، والعكس صحيح. إننا عندما نخوض في المبادئ الإيجابية من جهة أو في مضاداتها السلبية من جهة أخري، نجد أن إحداها تؤدي إلي الأخري بحيث تبرز قيمة الأولي ومدي سلبية الثانية في آن واحد بيسر ووُضوح للذهن؛ وعلي سبيل المثال: حين نتحدث عن انفعال الإنسان الذي يؤدي به إلي نتائج من الممكن أن تدمر حياته هو ومن معه، فإن هٰذا أيضًا يعزز من أهمية الوداعة وقيمة اللطف في حياته. وبينما أتحدث عن «التَّرك»، أجد كلمة أخري تنساب إلي فكري وهي «التخلي»؛ فالكلمتان تحمل المعني نفسه تقريبًا. وبالكشف في «معجم المعاني الجامع»، نجد أن من معاني الفعل «تَرَكَ»: «ترَك فلانًا أيْ خلاّه وشأنه، وانصرف عنه وفارقه»، و»ترَك المنزل أيْ رحل عنه». أمّا من معاني «تخلَّي»: «يتخلي عن حقه أيْ يتنازل عنه أو عن عمله بمعني أن يتركه»، و»لا تتخلَّ عن صديقك في وقت الشدة أيْ لا تخذُلْه أو تتركْه لمصيره». وحين يتحدث إنسان عن «التَّرك» أو «التخلي»، فسَُِرعان ما يتبادر إلي الذهن صورة سلبية عن تلك الكلمة، لٰكن بقليل من التروي نري أن كلمة «التَّرك» قد تحمل في طِياتها معنًي إيجابيًّا لحياة الإنسان: فإنه حين يترك الإنسان خطاياه وآثامه فهذا أمر إيجابيّ حثت عليه الأديان، إذ هو عودة للطريق الصحيح في حياته، وكما قال أحد الآباء: «التوبة هي ترك الأمور الرديئة والندم عليها»؛ وهٰكذا تصبح التوبة طريق عودة وتصحيح لمسار خاطئ سلكه الإنسان في الحياة. كذٰلك عندما يترك الإنسان الصفات السلبية في حياته، في محاولة منه أن يستبدل بها أخري إيجابية، فإن تركه أو تخليه يُعد مبارَكًا، إذ يُعدِّل فيه الإنسان من شخصه وأساليبه ووسائل تفكيره ليصل إلي طريقة حياة تساعده علي النجاح والاقتراب من الآخرين في سلام ومحبة ورحمة؛ فيَضحَي تركه للأمور السلبية كبِناء له يدِّعم من شخصه في الحياة، ويصاحبه دائمًا في اكتساب الأمور الإيجابية والنافعة اللازمة لنمو فكره وشخصيته ومواهبه. وتتضمن أنواع هٰذا التخلي ترك الشخص لعادات ضارة مثل التدخين أو الإدمان، والأمور التي تهدم حياته وتشتت أيامه، في سلسلة قاسية من الألم والاحتياج التي غالبًا ما تنتهي بالدمار. ترك آخر إيجابيّ للإنسان وهو ترك أصدقاء السوء أو مشيري السوء؛ ففي الحياة يلتقي الإنسان كثيرين من البشر يتنوعون في عاداتهم وأفكارهم وسلوكهم، ومنهم من يساعده علي الترقي والتميز والتعلم، ومنهم من وعند هٰذا يحتاج الإنسان إلي قرار حاسم: أن يترك أمثال هٰؤلاء