هذا هو عنوان الرواية الأخيرة من ثلاثية الإسكندرية للروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد.. الأولي كانت « لا أحد ينام في الإسكندرية « والثانية «طيور العنبر».. هذه الثلاثية الرائعة كافية لأن تجثو جائزة نوبل في الآداب تحت قدمي هذا المبدع السكندري الاستثنائي الذي لم ينل ما يستحقه من تقدير حتي الآن.. وفضلاً عن هذه الثلاثية أبدع إبراهيم عبد المجيد العديد من الروائع وخاصة رواية «البلدة الأخري» التي أري أنها تستحق وحدها جائزة نوبل دون النظر لبقية أعماله.. «اسكندرية في غيمة» تعبر تماماً عما آل إليه حال هذه المدينة التي ضربها الطوفان وتلبدت سماؤها بالغيوم السود.. ولهذه الرواية أهمية أدبية وتاريخية واجتماعية وسياسية بالغة ترجع لرصدها العبقري الدقيق للتغييرات الجذرية و»الكارثية» التي تعرضت لها عاصمة العالم القديم.. تكشف تلك التغييرات كيف تحولت عروس البحر المتوسط المتعددة الأعراق والثقافات إلي بؤرة للتخلف والقبح علي مستوي البشر والحجر.. صحيح أن التغيير الأكبر في التركيبة السكانية للمدينة حدث بعد التأميمات ورحيل عدد كبير من الأجانب بعد 1952، غير أن هذا العامل لم يؤثر كثيراً علي الطبيعة المنفتحة للمدينة وعلي شخصيتها المعمارية والثقافية الفريدة.. وإنما الذي غيرها وقلب كيانها هو «الغزو السلفي الوهابي» الذي بدأ في سبعينيات القرن المنصرم عقب تحالف السادات مع الإخوان والجماعات الإسلامية لضرب قوي اليسار التي كانت تعارض توجهاته الاقتصادية المعادية للعدالة الاجتماعية وسياسته الخارجية التي سلمت مفاتيح المنطقة لأمريكا وإسرائيل.. بدأت الغيوم تتجمع في سماء المدينة وتحجب عنها نور الشمس والمعرفة والجمال مع بدء مخطط سلفي مدعوم بالأموال والتبرعات المتدفقة من بلاد النفط لشراء المسارح والمقاهي وأماكن الترفيه التاريخية ثم هدمها وتغيير طبيعة نشاطها لتتحول إلي زوايا وصالات للأفراح أو متاجر لأزياء المحجبات. وتزامن هذا الغزو السلفي الوهابي المُنظم مع هجمة لا تقل شراسة ولا تخلفاً قادها أثرياء وسماسرة الانفتاح وطبقة الأغنياء الجدد الذين استهدفوا التراث المعماري للمدينة والمتمثل في القصور والفلل والمباني الأثرية النادرة والتي هدموها ليشيدوا مكانها أبراجاً سكنية شاهقة وقبيحة مستغلين فساد المحليات وجهل المسئولين بقيمة هذه الكنوز الأثرية.. وأدي ذلك بطبيعة الحال إلي تدمير البنية التحتية للمدينة وتشويه طابعها المعماري والقضاء علي تراث حضاري لا يقدر بمال ولا يمكن تعويضه بأي حال. والأخطر من كل ذلك تقارير منشورة عن مافيا منظمة تستخدم محامين دوليين ومحليين في تزوير توكيلات تقول إنها من ورثة الأجانب الذين أممت الدولة ممتلكاتهم ويرفعون بالتوكيلات قضايا يستردون بها العقارات المؤممة ويبيعونها لتجار وسماسرة يستصدرون تراخيص بالهدم عن طريق رشوة موظفين فاسدين في المحليات والمحاكم والشهر العقاري. والطامة الكُبري كما يقول القائمون علي «مبادرة انقذوا الإسكندرية» - وهم مجموعة من الغيورين علي المدينة وتراثها - أن الدولة هي التي بدأت هذه المذبحة البشعة للتراث السكندري عندما قرر نظام مبارك عام 2007 رفع عدد من المباني والقصور الأثرية من «مجلد التراث» وهو ما أطلق يد المُلاك في الهدم والبيع والتصرف.. وبلغ عدد ما رُفع من مجلد التراث 36 عقاراً منها 28 بعد منتصف 2013.. ويجري الآن تحت سمع وبصر الجميع ذبح أثرين معماريين نادرين هما «فيلا شيكوريل» و»مسرح السلام» المشيد علي شكل صدفة عملاقة والذي يتردد أنه سيهدم لبناء مول تجاري بتمويل نفطي. إنها مذبحة بشعة للحضارة والثقافة والهوية المصرية تؤكد أن «غيمة الاسكندرية» غيبت العقول وأطفأت مشاعل التنوير بالمدينة فتحولت إلي منطقة عشوائية كُبري تغرق في القمامة والفوضي الشاملة.. وأري أن تقاعس المسئولين عن الإنقاذ الفوري للمدينة وتراثها المعماري والثقافي خيانة عظمي لهذا الوطن العظيم الذي لا نستحقه.