جلس الموسيقي الراحل محمد القصبجي على مقعده الخشبي وراء "أم كلثوم" محتضنا عوده لسنوات، مؤثرا أن يكون عضوا كباقي أعضاء فرقتها وهو الموسيقار الكبير، الذي أثرى الموسيقى العربية بالعديد من الأعمال التي كانت سببا في تطورها. أضاف محمد القصبجي للموسيقى الشرقية ألوانا من الإيقاعات الجديدة والألحان السريعة والجمل اللحنية المنضبطة والبعيدة عن الارتجال، كما أضاف بعض الآلات الغربية إلى التخت الشرقي التقليدي. لحن محمد القصبجي لنجوم الطرب في عصره، بداية من منيرة المهدية وصالح عبد الحي ونجاة علي، مرورا بليلى مراد وأسمهان، وانتهاء بكوكب الشرق أم كلثوم ، التي عشق العزف على آلة العود في فرقتها ليظل بجوارها لمدة 43 عاما، حتى أنه عندما مات في نهاية الستينات ظلت "أم كلثوم" محتفظة بمقعده خاليا خلفها على المسرح تقديرا لدوره ومشواره معها. ولد محمد القصبجي في15 أبريل 1892، بالقاهرة، وتوفى 26 مارس 1966 عن عمر 74 عاماً. نشأ في عائلة موسيقية حيث كان والده أحمد القصبجي العازف المبدع ،الحلبي الأصل والمنشأ، ومدرسا لآلة العود وملحنا لعدة فنانين، نما لدى القصبجي حبه للموسيقى منذ صغره وتعلق بها، ولكنه لم يحد عن طريق العلم فالتحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم وانتقل إلى الأزهر الشريف حيث درس اللغة العربية والمنطق والفقه والتوحيد، ثم التحق بعد ذلك بدار المعلمين التي تخرج منها معلما. كان على القصبجي أن يلتحق بالسلك التعليمي ووالده أراد له احتراف العمل الديني، واشتغل بعد تخرجه في مجال التعليم ولكنه لم ينقطع عن الموسيقى، تمكن القصبجى من إتقان أصول العزف والتلحين وساعدت ثقافته العامة في خوض غمار هذا المجال باقتدار وبدأ يعمل في مجال فن، ثم ترك مهنة التدريس وتفرغ تماما للعمل الفني. بدأ الملحن محمد القصبجى حياته عازفا للعود ضمن تخت إحدى الراقصات، وتنقل في عمله بين راقصة وأخرى، وعاش القصبجي حياة الكباريهات والصالات والسهر فاضطر إلى ترك بيت أسرته والاستقلال بحياته فاستأجر شقة صغيرة في إحدى الحواري المتفرعة من شارع محمد علي "حارة الكلاب"،حيث إقامة أغلب العوالم والراقصات والمطربين والموسيقيين. وبسبب نزاعه مع إحدى الراقصات كره حياة العوالم واتجه إلى التلحين، وكانت أول أغنية له من نظمه وتلحينه ومطلعها "ما ليش مليك في القلب غيرك" غناها المطرب زكي مراد والد ليلى مراد وسجلت الأغنية على أسطوانات فكانت بمثابة الانطلاقة الأولى للقصبجي، وقال وقتها: "إنني الآن بدأت رحلة المستقبل المليء بالأمانى الكثيرة إلا أن البداية الحقيقية كانت مع منيرة المهدية التي أعجبت بألحاني وطلبت مني تلحين بعض أوبريتاتها التي كانت تقدمها على المسرح، وبسبب الحاجة إلى المادة اضطررت إلى مجاراة ألوان الغناء السائدة في ذلك الوقت". وعندما بدأ القصبجي العمل مع لأم كلثوم ذاع صيته وارتفع أجره بعد أن غنت له "إن كنت أسامح" حيث عزف على العود ضمن التخت الموسيقي إلى جانب التلحين، وتقاضى عن تلحينه 15 جنيها من شركة الأسطوانات، وهو أعلى أجر في ذلك الوقت، ليكون لحن "إن كنت أسامح" هو الخطوة الأولى لفن كوكب الشرق أم كلثوم في الغناء وجواز مرورها إلى الشهرة والنجاح وعشق القلوب لها، واستمر يلحن لأم كلثوم طيلة 43 عاما منذ تعرف عليها عام 1923، وبعد توقفه عن التلحين استمر يجلس خلفها عازفا حتى آخر يوم في حياته، حيث توفي في 26 مارس 1966. أول عمل تلحيني احترافي للقصبجي هو دور "وطن جمالك فؤادي يهون عليك ينضام" من كلمات شاعر عصره الشيخ أحمد عاشور، ثم انضم إلي تخت العقاد الكبير عازف القانون بعد أن أعجب به هو ومصطفي بك رضا رئيس نادي الموسيقي الشرقية، في عام 1920 اتجه القصبجي اتجاها آخر في تلحين الطقاطيق، والتي كتبها الشيخ يونس منها طقطوقة "بعد العشا" وطقطوقة "شال الحمام حط الحمام" وفي 1923 أستمع محمد القصبجي إلي السيدة أم كلثوم وكانت تنشد قصائد في مدح الرسول وأعجب بها وفي عام 1924 لحن أول أغنية لأم كلثوم وهي "آل إيه حلف مايكلمنيش" وظل من ذلك اليوم يعاونها لآخر يوم في حياته، كما ينسب إليه فضل التجديد في المونولوج الغنائي بداية من "إن كنت اسامح وأنسى الآسية" إلى "رق الحبيب" غناء كوكب الشرق أم كلثوم، وقد كان في كل هذه الألحان وغيرها, وباعتراف أبرز الموسيقيين والنقاد, زعيم التجديد في الموسيقى المصرية. في عام 1927 كون القصبجى فرقته الموسيقية التي ضمت أبرع العازفين أمثال محمد العقاد للقانون وسامى الشوا الملقب بأمير الكمان وكان هو عازف العود في الفرقة، ولم يتوقف عند الشكل التقليدى للفرقة الموسيقية العربية فأضاف إلى فرقته آلة التشيلو وآلة الكونترباص وهما آلتان غربيتان. قدم القصبجي ألحانا عديدة للسينما وكان من أكثر الملحنين إنتاجا طوال 50 عاما وقدم للمسرح الغنائي الكثير، فقد قدم لمنيرة المهدية عدة مسرحيات هي:"المظلومة " و"كيد النسا" و"حياة النفوس" و"حرم المفتش" كما قدم لنجيب الريحاني ثلاثة ألحان في أوبريت "نجمة الصباح". و قام القصبجي بتلحين الفصل الأول من "أوبرا عايدة" الذي غنته أم كلثوم في فيلمها عايدة في أوائل الأربعينات وكان محمد القصبجي يتطور ولكن في إطار المحافظة علي النغمة الشرقية الأصيلة. تتلمذ علي يديه في العزف علي العود كل من رياض السنباطي و محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش .