تعد هناك دولة اسمها العراق، فقد تحول العراق إلى منطقة جغرافية لا نظام سياسى، وقامت دولة «كردستان» فى الشمال، وتوسعت فى أراضيها استثمارا لضعف المركز الافتراضى فى «بغداد»، وتستعد لاستفتاء تؤكد به انفصالها النهائى، فيما تحولت بغداد عمليا إلى عاصمة لدولة الشيعة، بعد أن جرى التطهير الطائفى فيها، وفى مناطق الوسط والجنوب، وجرى طرد السنة إلى المحافظاتالغربية التى احتلتها «داعش»، وقد تتحول «الموصل» أو «الرمادى» إلى عاصمة لدولة سنية جديدة، قد يجرى إلحاقها فيما بعد بامتدادها السنى فى سوريا عبر بادية الشام. وما جرى فى العراق يراد لسوريا اليوم، وفى سياق تصور جارٍ لتقسيم المشرق العربى، تزول معه دول «سايكس بيكو» القائمة من قرن، وتقوم دويلات جديدة يغلب عليها الطابع الطائفى والعرقى الصرف، ويزول معه الطابع العربى للمنطقة كلها، وعلى نحو ما دعت إليه «خطة إسرائيل فى الشرق الأوسط»، والتى ظهرت فى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وبدأ تنفيذها فى العراق بعد عشرين سنة مع الاحتلال الأمريكى، ثم يجرى تنفيذها فى سوريا الآن بعد ثلاثين سنة، ومع جهد مضاف فى لبنان، تطور مع إعلان السعودية ودول الخليج لحزب الله كمنظمة إرهابية حسب الوصف الإسرائيلى، والبدء فى حملة اعتصار وتجويع وتفكيك لبنان إلى ثلاث دويلات طائفية أو أربع. وبالطريقة ذاتها التى جرت فى العراق، تتم قصة التقسيم فى سوريا، وباستخدام «حصان طروادة» اسمه التحول إلى الفيدرالية، وبادعاء أن الفيدرالية نظام سياسى كغيره، وأن الولاياتالمتحدة والاتحاد السويسرى والاتحاد الروسى كلها دول فيدرالية، وهو كلام حق يراد به الباطل، وفذلكة جهولة، ففيدرالية الدول المشار إليها وغيرها جرت كنظام عند بناء الدولة، وليس بمناسبة، ولا فى مرحلة السعى إلى تفكيكها، ولا فى مرحلة غزو واحتلال أجنبى، ولا فى ظروف «تدويل» لحرب أهلية كافرة، بينما العراق ولد كدولة موحدة فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وولدت سوريا كذلك، وعلى أساس كونها دولا وأقطارا عربية الانتماء، والعروبة هى أول ما يراد محوه، وكما جرى فى دستور دولة العراق الذى وضعه حاكم الاحتلال الأمريكى «بول بريمر»، فقد جرى اختصار عروبة العراق فى مجرد كونه عضوا بكيان ميت اسمه «جامعة الدول العربية»، وجرى اعتبار القومية العربية فى العراق واحدة من قوميات بلا عدد، وجرى تكريس حق «الانفصال الفيدرالى» لأى مجموعة محافظات تتفق عليه، وهو ما جرى عليه العمل فيما بعد، برسم خطوط اقتتال الميليشيات، وحروب التطهير العرقى والطائفى، ومع مد جغرافيا النفوذ الإيرانى إلى محافظتى «ديالى» و»صلاح الدين»، وهما اللتان كانتا من مراكز السنة العرب، فى حين استولى الأكراد على «كركوك» ومناطق من محافظة «نينوى»، بدعم مباشر من التحالف والنفوذ الأمريكى، والذى يسعى لرعاية الدولة السنية اليتيمة فى الغرب العراقى، وربما دمجها لاحقا بالجهد الأمريكى ذاته فى منطقة سنية سورية متصلة عبر عشائر البادية العابرة للحدود، وباستدعاء ما يسمى «قوات سنية عربية» من السعودية والأردن وغيرهما، وبهدف رسم جغرافيا نفوذ أمريكى فى سوريا، مماثلة لما جرى فى العراق، تضم شقا كرديا فى شرق الشمال السورى كما فى الشمال العراقى، وتضيف شقا عربيا باستخدام مال وقوات السعودية، والتى تتصور لنفسها دورا يخصها فى سوريا، بينما دورها مجرد وظيفة فرعية فيما تسميه واشنطن بالخطة (ب)، والتى تعارضها روسيا فى الظاهر، بينما تتحسب لها عمليا، وتعلن احتمال قبولها لحل «فيدرالى» فى سوريا، يضمن لها المكاسب التى تحققت عسكريا على الأرض، والتى مدت نطاق سيطرتها إلى المناطق الأكثر حيوية فى سوريا، وتضم مدن ومناطق الساحل والوسط والشمال الغربى حتى الحدود التركية، إضافة بالطبع لمناطق الجنوب من حول العاصمة دمشق وصولا إلى حدود لبنان ونزولا إلى «درعا»، كما تنسق روسيا مع «قوات سوريا الديمقراطية» التى يتحكم بها الأكراد، وبهدف مقاسمة واشنطن نفوذها على المنطقة الكردية ذات الإدارة الذاتية القائمة بالفعل، وتلك هى خرائط السلاح الممهدة لخرائط التقسيم السياسى، وبتحويرات هنا أو هناك عبر معارك لاحقة، والتحول إلى دويلات لن تخلو بدورها من احتمالات حروب أهلية، وتفوز فيها روسيا ومن خلفها إيران بالنصيب الأكبر من الكعكة السورية استراتيجيا، فيما تلتحق دول الخليج كالعادة بذيل الخيبة الأمريكية. وقد تسأل عن مصر ؟، فقل إنها غائبة بالجملة عن أى دور مؤثر فى حوادث سوريا اليوم، ومشغولة حتى حافة الرأس بأحوالها الداخلية، ومرهقة تماما بأزماتها الاقتصادية المنهكة، وربما كان ذلك هو ما يراد لها بالضبط فى هذه المرحلة، وإلى أن تنتهى عملية تمزيق وتقسيم سورياولبنان، ونقل الخطر إلى الأردن على عتبة الحدود المصرية، صحيح أن ثمة موقفا مصريا دبلوماسيا حذر الألفاظ، لا يمانع فى خجل من التدخل الروسى العسكرى فى سوريا، ويتجنب الصدام مع السعودية فى قضية مصير بشار الأسد، ويتحدث عما يسميه حفظ كيان الدولة السورية، ومؤسسات الأمن والسلاح فيها، ويتواصل إلى حد ما مع تيارات المعارضة الوطنية السورية، وهو موقف يبدو صحيحا فى عمومه، لكنه يفتقر إلى قوة التأثير فى حركة سير الحوادث السورية المتلاحقة، ويتقدم خطوة ليتأخر خطوات، وبما يفقده قوة المعنى المبدئى فيه، مع أنه لا شئ يحفظ وحدة سوريا سوى موقف مصرى صلب حازم، مستعد لدفع تكلفة وضوحه، وصياغة ملامح وإجراءات عملية لدور مصرى إنقاذى فى سوريا، لا يكتفى ببيانات إبراء الذمة، ولا بالهمهمات التى تصدر أحيانا عن وزارة الخارجية، فتمزيق سوريا يعنى ضرب القلب المصرى، وضياع سوريا يعنى قص جناح مصر الشرقى. واللهم قد أبلغت، فاللهم فاشهد على من خذلوا سوريا باستخذاء مصر.