جونتر جراس، وأنا، ثمة قواسم تجمعنا ! كراهية إسرائيل .. بُغض العنجهية الأمريكية .. رفض الرأسمالية المتوحشة .. الغرام بأساليب الكتابة التقليدية، بالورقة والقلم، بعيداً عن »الماوس»، و»الكيبورد»، وكان مدهشاً لي أن يكون الأديب الألماني الأكثر شهرة عضواً في نادي من لا يحملون الموبايل، تماماً مثلي، إلا أنه صمد حتي النهاية، بينما فرضت ضرورات العمل قبل أقل من ثلاث سنوات أن يصبح لي هاتف محمول، وأصبح متاحاً طوال الوقت، الأمر الذي قاومه جراس حتي وفاته رفضاً لفكرة أن يكون تحت المراقبة من الجميع، ذات الفكرة التي كنت أشاطره إياها، سامح الله من أخرجني من جنتها! شريط الأخبار قذف في وجهي خبر رحيل جراس، أو الضمير الأخلاقي لألمانيا، ليستدعي بالتالي شريطاً عمره نحو ستة عشر سنة، عندما ولج الرجل نادي نوبل، التي مُنح إياها في العام 1999. أعترف أنني قبل هذا التاريخ لم أكن معنياً به بالقدر الذي يوازي قيمة جراس الإبداعية، وإنما بقدر اهتمامي بمتابعة مواقفه السياسية المثيرة في الأغلب لجدل لا ينتهي، ولعلها نقيصة أقتسمها مع أبناء جلدتي المتابعين للأدب العالمي، ولا يحتل الإنتاج الألماني ما يستحقه من اهتمام، والمسئولية هنا تقع علي كاهل عديدين. لم يتوقف جراس أبداً عن الاشتباك مع الواقع، بكل دوائره، وفي معظم مواقفه كان مغرداً خارج السرب، ليس بحثاً عن أضواء يجتذبها، أو فرادة يسعي إليها، وإنما إيماناً بحقه في أن يقول ما يراه صواباً. الرسم، الكتابة، السياسة، خلطته المفضلة، إذا شاء أو أبي، لم يكن كما قال يخطط لعملية تستهدف مزج السياسة بإبداعاته، لكنه كان يجدها تتسرب عنوة لأعماله الإبداعية، روائياً، شاعراً، مسرحياً، نحاتاً، رساماً.. و... انخرط في العمل الحزبي، مع الاشتراكيين الديمقراطيين، غير أنه كان يري أن السياسة لا ينبغي أن تترك للأحزاب تعبث بها، فذلك يمثل خطراً شديداً، أما الأدب فإنه يمتلك القوة الكافية لإحداث تغيير، وفي الحزب كان قريباً من المستشار الألماني اللامع فيلي برانت، لكن هذا القرب لم يكن مادة للاتجار أو الاستثمار من جانب جراس، الذي كان خروجه من الحزب مدوياً، إلا أنه استمر داعماً للمبادئ التي يري أن تياره المفضل قادر علي ترجمتها في سياساته. وربما يُقلب هذا الملمح الجراسي المواجع حين يجيل المرء ببصر في صفوف النخب الثقافية والسياسية في مصر والعالم العربي، فلا يستقر بصره علي نظير ل»جونتر» ! لم أرصد وسائل إعلامنا، وصحفنا، ومواقعنا الالكترونية متلبسة بالاحتفاء بمبدع وقف إلي جانب الحق العربي، كما كان شأن جراس ! خبر هنا، وخبر هناك .. تغطيات تقليدية، بعضها »نقل بالكربون» مما نشره آخرون ! كلام مُعاد ومكرر، وصياغات باهتة، بلا عُمق! يبدو أنني كنت واهماً، أو حالماً بأكثر مما يجب! كنت أتصور أن ثمة بيانات سوف تصدر من، أو عن هيئات، ومؤسسات وطنية وقومية، ثقافية وسياسية تنعي جراس، وتشيد بمواقفه، وتحيي وقفاته المبدئية التي لم نجد مثيلاً لها من جانب مثقفين ومبدعين عرب! وزارات الثقافة، في مصر والوطن العربي.. أين؟ الجامعة العربية، اليونسكو العربية، اتحادات الكتاب، روابط المبدعين، أندية القصة والشعر، و... وكل هؤلاء.. أين ؟ بل لماذا لم ينعه الأزهر؟ أري دهشة تعلو ملامح البعض، وتطل من عيون لا تعي ما تسمع آذانهم ! إن جراس صاحب سجل حافل بمواقف رائعة إلي جانب الحق العربي، وضد أولئك الذين اجترأوا عليه. مثلاً، هاجم القمع الصهيوني للشعب الفلسطيني، ووجه انتقادات لاذعة للسياسات الإسرائيلية العدوانية، حتي أن اتحاد الكتاب العبريين اتهمه دون مواربة بأنه كان يشن حرباً صليبية علي إسرائيل! مثلاً، استنكر العدوان الأمريكي علي العراق، ولم يكن موقفه إلا جزءا من سياق انتظم فيه العديد من المواقف المضادة للساسة الأمريكية المتغطرسة، كموقف مبدئي، ونعتها بالحرب الصليبية لبوش! مثلاً، حينما اندلعت أزمة الرسوم المسيئة للرسول، كان مسانداً للمسلمين، مندداً بعنجهية الغرب، واعتبر المواقف المبررة أو المؤيدة انعكاسا لاحتقار الغرب الضمني للثقافة الإسلامية. و..... و...... إجمالاً لم يكن قبل أو بعد منحه نوبل للآداب أسيراً للجائزة، وتأكد ذلك حين كشف عن جانب من ماضيه، في صباه المبكر، عندما انخرط وهو ابن الخامسة عشرة في الشبيبة الهتلرية، ثم بعدها بعامين التحق بالوحدات النازية، وكأنه بهذا الاعتراف يسقط عن كاهله وضميره ما كتمه طويلاً، ثم إنه رجل اعتاد أن يمارس النقد الذاتي بأوسع معانيه. لم يتوقف نقده عند هذه الحدود، بل انتقد الغرب، ودوله الغنية، دائرة انتمائه وحملها مسئولية انتشار الفقر والعوز والظلم، مؤكداً أن الدولة الديمقراطية الاشتراكية وحدها القادرة علي ضمان العدالة. هل كثير علي جونتر جراس أن يلقي حفاوة العرب والمسلمين بعد كل هذه المواقف التي كانت بدرجة أو بأخري تمثل انحيازاً لقضاياهم. للأسف، فإن جونتر جراس بكل ما يمثله، لم يحظ في مصر والوطن العربي بما هو جدير به، حدث ذلك في حياته رغم أنه كان مهتماً بصدق بما يجري في الساحات العربية، وانحيازه لقضايا الإنسان العربي، ونقده للقوي التي تستهدف حريته ومقدراته، فهل يمكن أن نسعي لإحداث »تصحيح مسار» بعد رحيله؟ ثمة دعوة للدكتور أنور مغيث مدير المركز القومي للترجمة، بأن يوسع مركزه الاهتمام بالأدب والثقافة والإنتاج العلمي باللغة الألمانية عموما ضمن إصداراته. وأهمس للدكتور مغيث: جراس ترك مخطوطة جاهزة للنشر من خلال »دار شتايدل» سوف تقوم بإصدارها في الصيف القادم، لماذا لا يسعي لشراء حقوق ترجمتها وطبعها بالعربية بالتزامن مع الطبعة الألمانية، لتكون ضربة معلم؟ ولعلها خطوة تمهد لترجمة ما لم يتم ترجمته من أعمال جراس في خطط المركز المستقبلية. ليس المركز القومي للترجمة وحده المعني بالأمر، فالمجلس الأعلي للثقافة بلجانه النوعية أيضاً لابد أن يشارك في تعريف القارئ المصري بجراس، والاحتفال بإبداعاته، والحفاوة بمواقفه من خلال احتفالية تليق بقامته. ثم لماذا لا يكون لأقسام الأدب الألماني بالجامعات المصرية كذلك دورها في السياق ذاته؟ آن للقارئ العربي، والمبدع العربي، الاقتراب من جراس الأديب الألماني الأكثر تأثيراً في الأدب العالمي، كفانا متابعة لمواقفه السياسية التي كان يجب أن تكون مدخلاً للحفاوة بإبداعه، ، والتفاعل معه، وربما يكون رحيله جرساً مدوياً ينبهنا إلي ما اقترفناه في حق أدبه، وفي حق أنفسنا عندما أغفلنا قراءته، في القليل حتي نهدئ روعه لأنه كان لا يخاف الموت، وإنما كان خوفه من نسيان الناس له بسرعة! جونتر جراس، وأنا، ثمة قواسم تجمعنا ! كراهية إسرائيل .. بُغض العنجهية الأمريكية .. رفض الرأسمالية المتوحشة .. الغرام بأساليب الكتابة التقليدية، بالورقة والقلم، بعيداً عن »الماوس»، و»الكيبورد»، وكان مدهشاً لي أن يكون الأديب الألماني الأكثر شهرة عضواً في نادي من لا يحملون الموبايل، تماماً مثلي، إلا أنه صمد حتي النهاية، بينما فرضت ضرورات العمل قبل أقل من ثلاث سنوات أن يصبح لي هاتف محمول، وأصبح متاحاً طوال الوقت، الأمر الذي قاومه جراس حتي وفاته رفضاً لفكرة أن يكون تحت المراقبة من الجميع، ذات الفكرة التي كنت أشاطره إياها، سامح الله من أخرجني من جنتها! شريط الأخبار قذف في وجهي خبر رحيل جراس، أو الضمير الأخلاقي لألمانيا، ليستدعي بالتالي شريطاً عمره نحو ستة عشر سنة، عندما ولج الرجل نادي نوبل، التي مُنح إياها في العام 1999. أعترف أنني قبل هذا التاريخ لم أكن معنياً به بالقدر الذي يوازي قيمة جراس الإبداعية، وإنما بقدر اهتمامي بمتابعة مواقفه السياسية المثيرة في الأغلب لجدل لا ينتهي، ولعلها نقيصة أقتسمها مع أبناء جلدتي المتابعين للأدب العالمي، ولا يحتل الإنتاج الألماني ما يستحقه من اهتمام، والمسئولية هنا تقع علي كاهل عديدين. لم يتوقف جراس أبداً عن الاشتباك مع الواقع، بكل دوائره، وفي معظم مواقفه كان مغرداً خارج السرب، ليس بحثاً عن أضواء يجتذبها، أو فرادة يسعي إليها، وإنما إيماناً بحقه في أن يقول ما يراه صواباً. الرسم، الكتابة، السياسة، خلطته المفضلة، إذا شاء أو أبي، لم يكن كما قال يخطط لعملية تستهدف مزج السياسة بإبداعاته، لكنه كان يجدها تتسرب عنوة لأعماله الإبداعية، روائياً، شاعراً، مسرحياً، نحاتاً، رساماً.. و... انخرط في العمل الحزبي، مع الاشتراكيين الديمقراطيين، غير أنه كان يري أن السياسة لا ينبغي أن تترك للأحزاب تعبث بها، فذلك يمثل خطراً شديداً، أما الأدب فإنه يمتلك القوة الكافية لإحداث تغيير، وفي الحزب كان قريباً من المستشار الألماني اللامع فيلي برانت، لكن هذا القرب لم يكن مادة للاتجار أو الاستثمار من جانب جراس، الذي كان خروجه من الحزب مدوياً، إلا أنه استمر داعماً للمبادئ التي يري أن تياره المفضل قادر علي ترجمتها في سياساته. وربما يُقلب هذا الملمح الجراسي المواجع حين يجيل المرء ببصر في صفوف النخب الثقافية والسياسية في مصر والعالم العربي، فلا يستقر بصره علي نظير ل»جونتر» ! لم أرصد وسائل إعلامنا، وصحفنا، ومواقعنا الالكترونية متلبسة بالاحتفاء بمبدع وقف إلي جانب الحق العربي، كما كان شأن جراس ! خبر هنا، وخبر هناك .. تغطيات تقليدية، بعضها »نقل بالكربون» مما نشره آخرون ! كلام مُعاد ومكرر، وصياغات باهتة، بلا عُمق! يبدو أنني كنت واهماً، أو حالماً بأكثر مما يجب! كنت أتصور أن ثمة بيانات سوف تصدر من، أو عن هيئات، ومؤسسات وطنية وقومية، ثقافية وسياسية تنعي جراس، وتشيد بمواقفه، وتحيي وقفاته المبدئية التي لم نجد مثيلاً لها من جانب مثقفين ومبدعين عرب! وزارات الثقافة، في مصر والوطن العربي.. أين؟ الجامعة العربية، اليونسكو العربية، اتحادات الكتاب، روابط المبدعين، أندية القصة والشعر، و... وكل هؤلاء.. أين ؟ بل لماذا لم ينعه الأزهر؟ أري دهشة تعلو ملامح البعض، وتطل من عيون لا تعي ما تسمع آذانهم ! إن جراس صاحب سجل حافل بمواقف رائعة إلي جانب الحق العربي، وضد أولئك الذين اجترأوا عليه. مثلاً، هاجم القمع الصهيوني للشعب الفلسطيني، ووجه انتقادات لاذعة للسياسات الإسرائيلية العدوانية، حتي أن اتحاد الكتاب العبريين اتهمه دون مواربة بأنه كان يشن حرباً صليبية علي إسرائيل! مثلاً، استنكر العدوان الأمريكي علي العراق، ولم يكن موقفه إلا جزءا من سياق انتظم فيه العديد من المواقف المضادة للساسة الأمريكية المتغطرسة، كموقف مبدئي، ونعتها بالحرب الصليبية لبوش! مثلاً، حينما اندلعت أزمة الرسوم المسيئة للرسول، كان مسانداً للمسلمين، مندداً بعنجهية الغرب، واعتبر المواقف المبررة أو المؤيدة انعكاسا لاحتقار الغرب الضمني للثقافة الإسلامية. و..... و...... إجمالاً لم يكن قبل أو بعد منحه نوبل للآداب أسيراً للجائزة، وتأكد ذلك حين كشف عن جانب من ماضيه، في صباه المبكر، عندما انخرط وهو ابن الخامسة عشرة في الشبيبة الهتلرية، ثم بعدها بعامين التحق بالوحدات النازية، وكأنه بهذا الاعتراف يسقط عن كاهله وضميره ما كتمه طويلاً، ثم إنه رجل اعتاد أن يمارس النقد الذاتي بأوسع معانيه. لم يتوقف نقده عند هذه الحدود، بل انتقد الغرب، ودوله الغنية، دائرة انتمائه وحملها مسئولية انتشار الفقر والعوز والظلم، مؤكداً أن الدولة الديمقراطية الاشتراكية وحدها القادرة علي ضمان العدالة. هل كثير علي جونتر جراس أن يلقي حفاوة العرب والمسلمين بعد كل هذه المواقف التي كانت بدرجة أو بأخري تمثل انحيازاً لقضاياهم. للأسف، فإن جونتر جراس بكل ما يمثله، لم يحظ في مصر والوطن العربي بما هو جدير به، حدث ذلك في حياته رغم أنه كان مهتماً بصدق بما يجري في الساحات العربية، وانحيازه لقضايا الإنسان العربي، ونقده للقوي التي تستهدف حريته ومقدراته، فهل يمكن أن نسعي لإحداث »تصحيح مسار» بعد رحيله؟ ثمة دعوة للدكتور أنور مغيث مدير المركز القومي للترجمة، بأن يوسع مركزه الاهتمام بالأدب والثقافة والإنتاج العلمي باللغة الألمانية عموما ضمن إصداراته. وأهمس للدكتور مغيث: جراس ترك مخطوطة جاهزة للنشر من خلال »دار شتايدل» سوف تقوم بإصدارها في الصيف القادم، لماذا لا يسعي لشراء حقوق ترجمتها وطبعها بالعربية بالتزامن مع الطبعة الألمانية، لتكون ضربة معلم؟ ولعلها خطوة تمهد لترجمة ما لم يتم ترجمته من أعمال جراس في خطط المركز المستقبلية. ليس المركز القومي للترجمة وحده المعني بالأمر، فالمجلس الأعلي للثقافة بلجانه النوعية أيضاً لابد أن يشارك في تعريف القارئ المصري بجراس، والاحتفال بإبداعاته، والحفاوة بمواقفه من خلال احتفالية تليق بقامته. ثم لماذا لا يكون لأقسام الأدب الألماني بالجامعات المصرية كذلك دورها في السياق ذاته؟ آن للقارئ العربي، والمبدع العربي، الاقتراب من جراس الأديب الألماني الأكثر تأثيراً في الأدب العالمي، كفانا متابعة لمواقفه السياسية التي كان يجب أن تكون مدخلاً للحفاوة بإبداعه، ، والتفاعل معه، وربما يكون رحيله جرساً مدوياً ينبهنا إلي ما اقترفناه في حق أدبه، وفي حق أنفسنا عندما أغفلنا قراءته، في القليل حتي نهدئ روعه لأنه كان لا يخاف الموت، وإنما كان خوفه من نسيان الناس له بسرعة!