مازلت أذكر وجهه المغضن وعينيه المفتوحتين طول الوقت لكنهما لا تبصران، وصوته المفعم بالشجن لم يكن عاليا، بينما يسمعه المتحلقون من حوله ومن هم بعيدون هناك، أحاول أن أتبين موضعي من الكون وهو ينادي السماء يا الله أمطر علينا رحماتك، ماذا يفعل الناس بالناس، أين هي القلوب التي ترحم المساكين والعراة والجوعي، هل شاهدتم يا أولادي من بالأمس قتل عياله ثم نفسه من أجل كسرة الخبز، لعن الله الفقر لو كان رجلا لقتلته، لم ينم لي جفن منذ هذه الليلة، والأولاد كلهم يلعبون في الفناء أمام الكتاب، وأنا أخاصم اللعب، وأعرض عن الكلام، هذا الرجل الذي علمني القرآن لم ينس أن يعلمني الشفقة التي تكمن في أعمال الانسان من طفولته فإن ماتت، مات هو قبل أن يستوي عوده، ويبدأ صراعه الحتمي مع الدنيا وصروفها، وأتذكر كيف مات سيدنا في داره التي حوائطها من طين وفي حجر زوجته التي كان الحزن يسيل من عينيها دون أن تملك القدرة علي العويل المعهود في مثل هذا الموقف، وكنت أنا أرقب زجاجة الدواء الفارغة والقلة الفخارية والفراش البسيط يكاد يتمزق من تحت جسده، وجلال الموت هو الشيء الوحيد الذي جعلني أبكي بحرقة وأتذكر كلماته عن الفقر وآلامه. لم أتخل عن شوقي الجارف لها، وهي الساهرة حتي مطلع الفجر، في البداية كان الحسين هو محط نزعاتي لا أفارق المشي بين دروبه وحاراته، يضمني بعد التعب فأذهب للوضوء، كأن الماء يحييني مرة أخري، فقد ذبت من فرط الدهشة وانفلات الحنين، يشدني آذان سيدنا في طفولتي حين كنت أقلده فيقف الصوت في حلقي ولا أستطيع أن أكمل، واليوم مئذنة الحسين تعانق صوتي المشروخ من الحزن وتصب في أذني تسابيح أعمق، ليست من فعل البشر، هذه الاجواء موصولة بالسماء، وهنا عرفت كيف تكون ذات البروج، وارتجف جسدي كأنني أتخلص من الخوف، وازداد شوقي إلي الماضي البعيد والقريب، وأخذت أتأمل المجاذيب من حولي والأيادي الممدودة، عارية تنشد العطف من أياد مقبوضة، مستميتة لحظتها ولجت، وإذا بالليل يغشي، والأصوات الهائمة تتذاكر، وقلبي المشتاق يعاود الحنين إلي ذاكرة الجوع والموت. لم يكن هذا طريقي، ضللت إليه، وأخلدت إلي رغده ولينه، وكنت أشعر بشيء ما يضيع مني رويدا، وأسرفت في الفرح، رغم أن آخر ما نظرت إليه هناك كان الحزن المبهج الذي يسكن في القلب والخلجات لا يفارق، وكأن من حولي موتي يترنحون، أبادلهم البسمات الباهتة، وتصدر منهم الأصوات المنكرة، فأستفيق علي صوته هو من الترتيل إلي الأذان إلي التوبيخ والوعيد، حيث يسمع أزيزا وهمهمات، ويصفها بأنكر الأصوات، ولم يكن يذكر الحمير، وهم في هذا البهو الملبد بغيوم من الدخان والضجيج، يصرون علي ما تفعله الحُمر المستنفرة، إذا رأت وجه شيطان، وأنا أضل، وأواصل افتقادي للحنين، وابتعادي عن الأشواق القديمة، رغم أن ما بداخلي لم يجف بعد فمازالت الروح تعتصر نفسها وتدفع ببقايا الرحيق. أشعر في هذا الصباح بدفقة جديدة من الأمل، فقد رأيت في منامي شموعا يوقدها سيدنا بنفسه وهو مسرور مشرق الوجه، كأنه عاد إلي الصبا، ومن خلفه زوجته التي كانت تحمل جرة الماء، وترش من تحت قدميه، أخذ يقرأ سورة الكوثر، ويزيد في ترتيلها، وأنا اردد معه، ثم وجدت المساكين من الحسين من كانوا يمدون أيديهم هم الوارثون، يتصدقون علينا بالماء، هل كان ماء الورد أم هو ماء الحياة التي فقدناها في حياتنا الدنيا، انتبهت يقظان، أحاول أن أمسك بكل شيء، والتفاصيل المثيرة وثياب سيدنا البيضاء، والفرحة التي كانت تبشرني وتسوق إليّ ضفاف الآمال البعيدة، لعله ينتشلني من هذه الآتون الكاذبة. أفتح كتاب ذكرياتي وأقرأ، وأفتش عن الكلمات، وأعماق الحكمة، لم أجد قط أسوأ ولا أبشع ولا أحط ممن يشمت في الموت. مازلت أذكر وجهه المغضن وعينيه المفتوحتين طول الوقت لكنهما لا تبصران، وصوته المفعم بالشجن لم يكن عاليا، بينما يسمعه المتحلقون من حوله ومن هم بعيدون هناك، أحاول أن أتبين موضعي من الكون وهو ينادي السماء يا الله أمطر علينا رحماتك، ماذا يفعل الناس بالناس، أين هي القلوب التي ترحم المساكين والعراة والجوعي، هل شاهدتم يا أولادي من بالأمس قتل عياله ثم نفسه من أجل كسرة الخبز، لعن الله الفقر لو كان رجلا لقتلته، لم ينم لي جفن منذ هذه الليلة، والأولاد كلهم يلعبون في الفناء أمام الكتاب، وأنا أخاصم اللعب، وأعرض عن الكلام، هذا الرجل الذي علمني القرآن لم ينس أن يعلمني الشفقة التي تكمن في أعمال الانسان من طفولته فإن ماتت، مات هو قبل أن يستوي عوده، ويبدأ صراعه الحتمي مع الدنيا وصروفها، وأتذكر كيف مات سيدنا في داره التي حوائطها من طين وفي حجر زوجته التي كان الحزن يسيل من عينيها دون أن تملك القدرة علي العويل المعهود في مثل هذا الموقف، وكنت أنا أرقب زجاجة الدواء الفارغة والقلة الفخارية والفراش البسيط يكاد يتمزق من تحت جسده، وجلال الموت هو الشيء الوحيد الذي جعلني أبكي بحرقة وأتذكر كلماته عن الفقر وآلامه. لم أتخل عن شوقي الجارف لها، وهي الساهرة حتي مطلع الفجر، في البداية كان الحسين هو محط نزعاتي لا أفارق المشي بين دروبه وحاراته، يضمني بعد التعب فأذهب للوضوء، كأن الماء يحييني مرة أخري، فقد ذبت من فرط الدهشة وانفلات الحنين، يشدني آذان سيدنا في طفولتي حين كنت أقلده فيقف الصوت في حلقي ولا أستطيع أن أكمل، واليوم مئذنة الحسين تعانق صوتي المشروخ من الحزن وتصب في أذني تسابيح أعمق، ليست من فعل البشر، هذه الاجواء موصولة بالسماء، وهنا عرفت كيف تكون ذات البروج، وارتجف جسدي كأنني أتخلص من الخوف، وازداد شوقي إلي الماضي البعيد والقريب، وأخذت أتأمل المجاذيب من حولي والأيادي الممدودة، عارية تنشد العطف من أياد مقبوضة، مستميتة لحظتها ولجت، وإذا بالليل يغشي، والأصوات الهائمة تتذاكر، وقلبي المشتاق يعاود الحنين إلي ذاكرة الجوع والموت. لم يكن هذا طريقي، ضللت إليه، وأخلدت إلي رغده ولينه، وكنت أشعر بشيء ما يضيع مني رويدا، وأسرفت في الفرح، رغم أن آخر ما نظرت إليه هناك كان الحزن المبهج الذي يسكن في القلب والخلجات لا يفارق، وكأن من حولي موتي يترنحون، أبادلهم البسمات الباهتة، وتصدر منهم الأصوات المنكرة، فأستفيق علي صوته هو من الترتيل إلي الأذان إلي التوبيخ والوعيد، حيث يسمع أزيزا وهمهمات، ويصفها بأنكر الأصوات، ولم يكن يذكر الحمير، وهم في هذا البهو الملبد بغيوم من الدخان والضجيج، يصرون علي ما تفعله الحُمر المستنفرة، إذا رأت وجه شيطان، وأنا أضل، وأواصل افتقادي للحنين، وابتعادي عن الأشواق القديمة، رغم أن ما بداخلي لم يجف بعد فمازالت الروح تعتصر نفسها وتدفع ببقايا الرحيق. أشعر في هذا الصباح بدفقة جديدة من الأمل، فقد رأيت في منامي شموعا يوقدها سيدنا بنفسه وهو مسرور مشرق الوجه، كأنه عاد إلي الصبا، ومن خلفه زوجته التي كانت تحمل جرة الماء، وترش من تحت قدميه، أخذ يقرأ سورة الكوثر، ويزيد في ترتيلها، وأنا اردد معه، ثم وجدت المساكين من الحسين من كانوا يمدون أيديهم هم الوارثون، يتصدقون علينا بالماء، هل كان ماء الورد أم هو ماء الحياة التي فقدناها في حياتنا الدنيا، انتبهت يقظان، أحاول أن أمسك بكل شيء، والتفاصيل المثيرة وثياب سيدنا البيضاء، والفرحة التي كانت تبشرني وتسوق إليّ ضفاف الآمال البعيدة، لعله ينتشلني من هذه الآتون الكاذبة. أفتح كتاب ذكرياتي وأقرأ، وأفتش عن الكلمات، وأعماق الحكمة، لم أجد قط أسوأ ولا أبشع ولا أحط ممن يشمت في الموت.