بداية الحكاية كانت عندما تواترت تسريبات عبر وسائل الإعلام المختلفة عن مشاورات تجريها جماعة الأخوان المسلمين مع المجلس العسكري للاتفاق علي شخص يرضي عنه الجيش ويجد في نفس الوقت قبولا لدي التيار الإسلامي صاحب الاغلبية البرلمانية ، وهو ما أطلقت عليه وسائل الإعلام مصطلح " الرئيس التوافقي " ، وفي بداية الأمر كان اسم رئيس المجلس الاستشاري منصور حسن حاضرا بقوة ليكون المرشح التوافقي ، غير أنه رد علي هذه التسريبات بتأكيده علي أنه لم يحدد موقفه بعد من الترشح للرئاسة ، وسوف يحدده في وقت لاحق . وتحت عنوان " كشفت مصادر مطلعة " طالعتنا بعض وسائل الإعلام عن وجود إجتماعات يومية بين حزب " الحرية والعدالة " الذراع السياسي لجماعة الأخوان المسلمين وأحزاب ليبرالية أخري وبين المجلس العسكري، وقد اتفقوا علي شخص د. نبيل العربي الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية ليدفعوا به في السباق الرئاسي ، ولكن الرجل سارع بنفي هذه الاخبار ، وأكد في أكثر من مناسبة علي أنه لا ينوي الترشح للرئاسة . وما بين نفي د. نبيل العربي لوجود مشاروات للاتفاق علي شخصه ليكون الرئيس التوافقي ، وبين عدم حسم موقف منصور حسن من الترشح للرئاسة حتي الآن شهد الشارع السياسي المصري جدلا ساخنا ما بين المؤيدين والمعارضين لفكرة الرئيس التوافقي ، وقد تبارت الأحزاب لتحديد موقفها في هذا الشأن .. وفجأة تحولت الفكرة أو البدعة إلي أزمة.. حزب "الحرية والعدالة " فاجأنا منذ أيام علي لسان رئيسه د.محمد مرسي عن رفضه لفكرة "الرئيس التوافقي" عندما أكد مرسي عقب إدلائه بصوته في جولة الإعادة بانتخابات مجلس الشوري أن رئيس مصر القادم سيكون منتخبا بإرادة المصريين، والشعب قادر علي التمييز وحر في اختياره. وشدد مرسي علي أن الرئيس المقبل لابد أن يحمل عقيدة أغلبية هذه الأمة ويعلن احترامه للشريعة الإسلامية والتزامه بالمنهج الإسلامي ، معاودا تأكيده علي أن حزبه ليس له مرشح في الانتخابات الرئاسية . وهي التصريحات التي اختلفت بعض الشئ عما جاء في حوار د. محمد بديع المرشد العام لجماعات الاخوان المسلمين مع صحيفة " الحرية والعدالة " الناطقة بلسان حزب الحرية والعدالة ، حيث نفي د. بديع وجود صفقة بين الجماعة والمجلس العسكري للاتفاق علي شخص معين والدفع به في الانتخابات الرئاسية، غير أنه أكد أن وضع عدد من الضوابط للرئيس القادم أهم من الرئيس نفسه . وقال د. بديع : أما عن تأييد مرشح بعينه فباب الترشيح لم يفتح بعد، وسننتظر حتي يفتح باب الترشيح، وسيتقدم من يتقدم، ونقوم بعدها بحصر عدد المتقدمين وندرس بعدها برامجهم، وتقوم مؤسسة الإخوان بالاختيار بينهم بالشوري، ثم نحاول أن نوجد حالة توافق عام ليس علي مرشح واحد ولكن علي عدد محدود من المرشحين، وعندها يكون التنافس دون تشتيت الأصوات. وتابع قائلا : والتوافق ليس معناه إجماع المصريين علي شخص، ولكن تقليل عدد المرشحين المتصفين بصفات وطنية، وفي النهاية تقرر مؤسسة الجماعة دعم أحد هؤلاء المرشحين بعينه، والمرشح الذي سندعمه لن يكون مرشحا محسوبا علي تيار إسلامي بعينه، وإلا كنا نحن أولي، ولا بد أن يكون المرشح ذا خلفية إسلامية، وحتي الآن الجماعة لم تحسم أمرها ولم تناقش الأمر في مؤسساتها. الوصيف يرفض أما حزب النور السلفي وصيف حزب الاغلبية في البرلمان فقد اتخذ موقف المعارض لفكرة الرئيس التوافقي ، وأكد علي لسان المتحدث الرسمي باسمه نادر بكار أنه لايقبل اختيار رئيس الجمهورية المقبل من خلال الغرف المغلقة، لأن ذلك يعد وصاية علي الشعب لا يقبلها أحد. وأكد بكار أن الرئيس التوافقي أسئ طرحه في وسائل الاعلام، لذلك لانقبله، ونريد رئيسا لديه أجندة وطنية ويراعي الثوابت الإسلامية وله برنامج ورؤية واضحتين، ولن نوقع شيكا علي بياض لأي شخص لمجرد أنه يظهر في برامج التوك شو. وحول فكرة الرئيس التوافقي إختلفت ردود فعل ومواقف السياسيين بين مرحب يراها حلا مناسبا للخروج من الأزمة الراهنة التي تعيشها مصر وسط حالة من الاستقطاب والخلاف السياسي غير المعهود ، وبين من يرفضها ويعتبرها ضد مبادئ الديمقراطية . ويأتي المستشار طارق البشري رئيس لجنة التعديلات الدستورية علي رأس المؤيدين لفكرة الرئيس التوافقي ، ويعتبرها أمرا مقبولا ، ولا غبار عليها ، مؤكدا في الوقت نفسه أن مصر الآن في أشد الحاجة للتوافق حول مرشح رئاسي يتمتع باحترام وثقة الناخب المصري ، الأمر الذي يجعله قادرا علي مواجهة جميع التحديات التي تواجه مصر داخليا وخارجيا . وقال البشري : يوجد في مصر الآن قوي سياسية عديدة داخل السلطة وخارجها إلي جانب التيارات الشعبية الأخري ، وهذا الوضع يحتاج إلي رئيس تتوافق عليه هذه القوي وتلك التيارات ، لاسيما أن منصب الرئيس يشغله فرد واحد ، صحيح أن اختصاصاته وسلطاته سيتم تقليصها في الدستور الجديد ، ولكنه يبقي ذات سلطات يقررها بذاته ، وبالتالي يكون التوافق عليه أمرا صائبا ، خاصة أنه ليس لدينا الآن قوي سياسية غالبة في المجتمع المصري ، وقد أسفرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن وضع سياسي جديد لايوجد فيه حزب صاحب أغلبية مطلقة يمكن أن يعبر عن الشعب بأكمله ، ومن ثم فإن التقارب بين القوي السياسية ذات الثقل والتأثير في الشارع المصري يؤدي إلي نوع من التوافق الحميد ، والعبرة في النهاية هي لنتيجة الانتخابات ، وهذا التوافق لن يكون حاسما لأن السيادة بيد الشعب وحده ، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية . ليست سيئة السمعة وإنتقد البشري الذين يرفضون فكرة الرئيس التوافقي رغم أنها في حد ذاتها فكرة جيدة ، مؤضحا أن الذين يرفضون الرئيس التوافقي الآن كانوا في السابق يلحون ويصرون علي تشكيل برلمان توافقي ، وكانوا يرفضون أن تكون هناك أقلية وأغلبية في البرلمان ، وهو الأمر الذي يمثل تناقضا عجيبا لا يمكن فهمه ، مؤكدا أن التوافق لاختيار رئيس الجمهورية أمر مقبول بينما غير مقبول بالنسبة للبرلمان . كلام وهمي أما المعارضون لفكرة الرئيس التوافقي فيأتي في مقدمتهم د. محمد أبوالغار رئيس حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي ، والذي وصف الحديث عن الرئيس التوافقي ب " كلام وهمي " ، مكذبا كل ما قيل حول وجود مشاورات بين الأخوان والاحزاب الليبرالية والمجلس العسكري لترشيح د. نبيل العربي للرئاسة ليكون مرشحا توافقيا . وقال د. أبوالغار : لم يحدث مطلقا أن تم طرح فكرة الرئيس التوافقي ، ولم يحدث أيضا أن تم طرح اسم د. نبيل العربي ليكون مرشحا توافقيا ، وأنا أعرف د. العربي بصفة شخصية ، وأعرف جيدا أنه لم يتحدث أحد معه بشأن ترشحه للرئاسة . وأكد رئيس حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي أن الرئيس التوافقي هو من يتوافق عليه الناس في الانتخابات الرئاسية المقبلة ، وليس هناك معني للرئيس التوافقي غير هذا ، وهو المعني الذي نؤيده ولا نقبل غيره ، مشيرا إلي أن القوي السياسية قد تتفق علي شخص بعينه ، ولكن في النهاية الأمر بيد الشعب وحده هو الذي يقرر من يكون الرئيس القادم وأشار د. أبوالغار إلي أن ما يهمه ويهم حزبه هو أن يتم اختيار رئيس يقف علي مسافة واحدة من كل أطياف الشعب المصري ولا ينحاز لفئة ولا لمجموعة معينة، وتكون قراراته لمصلحة الوطن وليست لمصلحة قوي أو تيار سياسي بعينه . إرادة الشعب ومن جانب آخر أكد السفير محمد رفاعة الطهطاوي مساعد وزير الخارجية سابقا أن إتفاق بعض القوي السياسية علي شخص معين مجرد وعد بدعمه في الانتخابات ، ولكن الذي يحدد لمن يكون المنصب الرئاسي هو الشعب وحده ، ومادام الأمر هكذا فليترشح كل من يريد ، ولتدعم القوي السياسية من تشاء. وقال الطهطاوي: الشعب المصري سيختار بإرادته الحرة الرئيس الذي يشعر أنه يمثله ويلبي طموحاته واحتياجاته ، وبالتالي فإن أي محاولة لفرض شخص بعينه علي الشعب لن يُكتب لها النجاح ، ونؤكد هنا أن مصر لا تحتاج لرئيس توافقي ، وإنما تحتاج لرئيس قوي يستطيع أن يواجه التحديات بالقدرة علي الحسم والقدرة علي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. ومن جانبه وصف د.رفعت سيد أحمد مدير مركزيافا للدراسات العربية فكرة الرئيس التوافقي بالفكرة المشبوهة التي في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب ، مؤكدا أن الفكرة تبدو في ظاهرة جيدة هدفها إيجاد حالة من التوافق بين القوي السياسية تجنبا لمزيد من الخلافات والصراعات الحزبية والسياسية ، ولكنها في باطنها تعمل علي إعادة إنتاج نظام حسني مبارك في شكل يبدو ديمقراطيا. وقال د. رفعت:علينا أن نترك مسألة تحديد الرئيس القادم للمنافسة السياسية الحقيقية في أول انتخابات رئاسية حقيقية ، فليترشح من يريد ، ولتساند القوي السياسية من يريد ، ولكن دون وصاية علي الشعب أو فرض شخص معين علي الشعب ، فهذا الأمر بالتأكيد يضرب مفهوم الديمقراطية. وتابع د. رفعت: ليس مهما في أن تتوافق القوي السياسية علي شخص الرئيس القادم ، ولكن المهم أن يشارك هذا الرئيس في بناء شخصية مصر كما حددها جمال حمدان ، تلك الشخصية التي تجمع بين توافق الاديان وتوافق المفاهيم ومدنية الدولة واحترام الإسلام ، ومن المهم أيضا أن يفهم الرئيس القادم قيمة العدل والديمقراطية ، ولا يكذب علي الناس ، ولا يستخدم الإعلام لاثبات حسن سمعته السياسية ، كما أننا نحتاج لرئيس صادق لا يستند إلي الإعلام لبناء نفسه . الاستعارة من لبنان ومن ناحية أخري قال د.عاصم الدسوقي استاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة : فكرة الرئيس التوافقي مأخوذة من النظام السياسي في لبنان ، وهو في الاساس نظام طائفي بدأ عندما وضع اللبنانيون الميثاق الوطني عام 1943 " م " ، وفي هذا الميثاق توافقت الطوائف اللبنانية علي أن يكون رئيس الدولة مسيحي ماروني ، ورئيس الحكومة مسلم سني ، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي ، ثم توزع باقي المناصب العليا في الدولة وفقا للنسبة والتناسب ، وبالتأكيد هذا النظام لا يتناسب مع مصر لأنها ليست دولة طوائف إلا إذا أراد هؤلاء أن يحولوها إلي طوائف. وأشار د. الدسوقي إلي أنه ليس صحيحا أن الرئيس التوافقي هو الحل الوحيد لتجاوز الأزمة التي تعيشها مصر حاليا ، مؤكدا أن وصول مصر إلي بر الأمان لن يتحقق إلا بترسيخ وتعزيز مبادئ دولة القانون ، وأن تعود مصر وطنا واحدا متماسكا ، مؤكدا أن فكرة الرئيس التوافقي تعد التفافا علي إرادة الشعب الذي خرج في ثورة شعبية للمطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن ثم يجب أن يسترد الشعب المصري حقوقه السياسية في اختيار الرئيس القادم بحرية مطلقة بعد أن سلبت منه علي مدار ثلاث عقود ماضيه ولا يحق لأي قوي سياسية أن تفرض عليه رئيس توافقي. وبرؤية أخري أكد الخبير الاقتصادي د. محمدعبدالحليم عمر استاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر أن انقاذ الاقتصاد المصري من الانهيار ليس بحاجة إلي رئيس توافقي، ولكنه يحتاج فقط لاستقرار أمني وسياسي، وهو الأمر الذي يتحقق عندما ترضخ القوي السياسية المختلفة والمتصارعة لإرادة الناس واختيارهم للرئيس القادم، في هذه الحالة فقط سوف يهدأ الناس وتعود عجلة الانتاج من جديد ، وتجذب مصر استثمارات داخلية وخارجية جديدة. وقال د.عبدالحليم عمر: من حق كل مواطن أن يختار وفق إرادته الرئيس الذي يؤمن بتوجهاته ويشعر أنه يستطيع أن يحقق أهداف وطنه ، وبالتالي يكون التوافق علي شخص معين من قبل القوي السياسية حجرا علي إرادة الناخبين.