في بداية القرن الحالي أصدر أنطون افندي ذكري كتاباً صغيراً عنوانه »اللغة المصرية القديمة وأنواع خطوطها وأهم إشاراتها«.. يقدمه قائلاً إنه يهدف إلي تسهيل مبادئ المصرية القديمة إلي جميع الأمة، إذ كثر عدد طلاب معرفة هذه اللغة ولو كان بين أيديهم كتب ترشدهم إليها لبلغوا غايتهم المنشودة، ولكن لا يوجد لها إلي الآن كتب إلا باللغات الأجنبية وهي باهظة السعر جداً، ولذلك رأيت من واجبي كوطني يسعي جهده لنفع أمته أن أسد هذا الفراغ، فوضعت هذا الكتاب الزهيد القيمة المادية، العظيم المنفعة لتعم الفائدة. ثم يستعرض جهود شامبليون في اكتشاف أسرار المصرية القديمة، ويطالب بإقامة تمثال له في المتحف المصري في رأيي انه يستحق تمثالاً بأحد ميادين القاهرة العامة ثم ينتقل إلي شرح أصل لغة المصريين القدماء. يقول أنطون افندي ذكري: إنهم اعتقدوا بوجود مصدر إلهي للغتهم، وتصوروا أنه من المحال أن يكون هذا الاختراع البديع من عمل البشر، اعتقدوا أن المعبود تحوت هو الذي اخترع لهم الحساب والطب والحكمة، وهو الذي اخترع اللغة، وكانوا يرسمونه علي صورة إنسان له رأس الطائر ابيس، حاملاً لوحة بيده اليسري وقلماً بيده اليمني. كان من صميم اعتقادهم أن سعادة الإنسان لن تتم إلا إذا كان متقناً للكتابة أو موظفاً، كانت وظيفة الكاتب من أسني الوظائف، وهي المهنة الوحيدة التي صور أصحابها في أجمل نحت، ولعل تمثال الكاتب المصري الشهير يعد من أجمل التجليات التي قدمتها الإنسانية في تاريخها الطويل، كان الموظف الكاتب هو صاحب المنزلة السامية، ومازال المصريون رغم تدهور أحوال الموظفين يرددون المثل القديم »إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه«، ومازالوا أيضاً يؤمنون بضرورة وجود وظيفة تدر دخلاً ثابتاً يؤمن بعضاً من تكاليف الحياة الأساسية، وإلي جانبها يمكن ممارسة أنشطة أخري تدر دخلاً إضافياً، صحيح ان القيم تتغير الآن، لكن فكرة تأمين الحياة، الخشية من المجهول، كانت ولاتزال تدفع المصري إلي محاولة الانتظام في مسارات المنظومة التي تؤمن المجتمع وأنشطته وحياة القوم، جاء في تعاليم الأديب المصري القديم فتاح حتب ما نصه: »لا تعدل شيئاً في تعاليم أبيك ولو كلمة واحدة، ولتكن هذه المبادئ ذاتها هي تعاليم أولادك«. ومن هنا تجيء الاستمرارية، ومن أهم معالم الاستمرارية والثبات أيضاً صمود اللغة المصرية القديمة لفترة زمنية، المعروف منها حتي الآن أربعة آلاف عام قبل الميلاد، كان الإنسان المصري في عصر الاضمحلال، عندما سقطت مصر تحت سنابك الفرس، والرومان، يمكنه أن يقرأ الخط الهيلوغريفي المكتوب في عصر الدولة القديمة، أي منذ سبعة وعشرين قرناً بالنسبة له وكأنه يقرأ نصاً معاصراً، كانت اللغة المصرية موازية للحياة، ونجحت في الحفاظ علي رموزها، والاستمرار بقوانينها، وقد حاول بعض الدارسين إرجاع أصولها إلي أقوام أخري أو مناطق خارج وادي النيل، ولكن الدراسات العلمية القديمة والحديثة أثبتت مصرية المنشأ، وأسبقية الأبجدية المصرية علي سائر الأبجديات بما فيها اللغة المسمارية، ومنذ أيام فقط جاءت الأنباء بظهور كتاب جديد لمدير القسم المصري في المتحف البريطاني يؤكد أسبقية الأبجدية المصرية، وهذا ما خصص له الدكتور عبدالله محمود »السودان« كتاباً بأكمله استعرضناه خلال الأسابيع السابقة، وهذا ما بحثه العلماء المصريون ومنهم الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم والدكتور عبدالحليم نور الدين صاحب أحدث كتاب عن اللغة المصرية القديمة. يشير أنطون افندي ذكري إلي مصرية الرموز في اللغة القديمة، كل الحروف من وحي البيئة المصرية ومكوناتها، وهذا حقيقي. لا أظن أن حضارة ظلت مثل الحضارة المصرية القديمة، ظلمها الغزاة الذين تعاقبوا علي الوادي، وظلمها اليهود الذين يناصبون مصر العداء الدفين وتمكنوا من فرض وجهة نظرهم المعادية علي الأقوام كافة، وظلمها الأبناء والأحفاد بانقطاعهم عن أصولهم تماماً، بل واتخاذ موقف رافض لجذورهم أحياناً. للأسف، لم يتواصل ما بدأه أنطون افندي ذكري في بداية القرن، وظل الاهتمام باللغة المصرية القديمة محصوراً في دائرة ضيقة جداً من كبار المتخصصين وتلاميذهم القلائل، لعل تساؤلاً مشروعاً يتردد: ألم يحن الأوان ليعرف المصريون لغتهم القديمة التي تعد أول إطلالة للإنسانية علي محيط الوجود؟ اللغة .. ذاگرة لماذا تبدو الكتابة المصرية غريبة عنا؟ كيف يتجاهل الشعب الذي اخترع الأبجدية لغته التي أعيد اكتشاف أسرارها بعد ألف وخمسمائة عام من النسيان؟ إنه حدث مأساوي في مسار أعرق حضارات الإنسانية، بشكل عام أدهش لضآلة المادة المتاحة عن التاريخ المصري القديم، بالقياس إلي السنوات التي تشكل النصف الأول من هذا القرن، أليس هذا ما يسعي إليه أعداء مصر؟ إضعاف ذاكرتها وتعميق الهوة بين الحاضر والماضي البعيد؟ إن تقليص المادة الدراسية الخاصة بتاريخ مصر القديم أول خطوة في اتجاه إضعاف انتماء المصريين بوطنهم وحضارتهم. إن مفاتيح فهم اللغة المصرية القديمة يجب أن تتاح للجميع وهم يدرسون تاريخ بلادهم، ويتعرفون عليه، أما الدراسات الخاصة بهذه اللغة فيجب ألا تترك كلها للأجانب، لقد كان لهم الفضل في اكتشاف أسرارها، وفك رموزها، وأتصور أن ثمة جهداً يجب أن يستمر علي أيدي العلماء المصريين، مثلاً.. كيف كان النطق المصري القديم للكلمات؟، إن ذلك ممكن إذا جرت دراسات صوتية مقارنة، بين اللغة القبطية المستخدمة حالياً في الكنائس، وتعد آخر شكل وصلت إليه اللغة المصرية القديمة، صحيح انها تأثرت باللغة اليونانية، ولكن صلبها مصري أصيل، قديم. ومن أحدث الدراسات الصادرة باللغة العربية في مصر، كتاب عميق للدكتور عبدالحليم نور الدين، وهو من المتخصصين في اللغة القديمة، والكتاب علمي، متخصص، موجه لدارسي الآثار، ويشير المؤلف إلي أستاذه الدكتور عبدالمحسن بكير، أول من أقدم علي دراسة لغتنا القديمة باللغة العربية، ويركز كتاب الدكتور عبدالحليم نور الدين علي اللغة المصرية القديمة في العصر الوسيط، علي أساس بلوغها قمة النضج، ويقدم جديداً من خلال مقارنة المصرية القديمة باللغة العربية، وبينهما شبه وتقارب. أشار المصريون في نصوصهم إلي لغتهم بمسميات كثيرة، من بينها »لسان مصر«، »فم مصر«، »كلام مصر« و»كلام أهل مصر« كما عرفت أيضاً باسم »كلام الإله«. في رأيي ان تفاصيل اكتشاف المصريين للأبجدية، للكتابة، من أشد فصول التاريخ الإنساني غموضاً إلي أن تجود علينا مصر بأسرار ماتزال مخفية، إن اكتشاف الكتابة والحروف يعد التجلي الأول في تاريخ الإنسانية، ولو أن المصريين لم يتوصلوا إلي الأبجدية لكان الوجود بلا معني، فكيف يمكن للعقل الإنساني أن يفصل بين الظلمة والنور إذا لم يعرف أن هذا سواد وذاك ضوء؟ الأمر يتصل بمعرفة الزراعة، ودورتها، وتأمل المصري القديم لدفن البذرة ونموها، وإنتاج القوت، وربط ذلك بدورة نجوم السماء، وحركة الفلك. الآن لا يمكن إدراك وقائع هذه التجربة إلا بالمخيلة والدراسة. يتساءل الدكتور عبدالحليم: من أي مكان بدأ المصري يكتب؟ هل بدأت المحاولة في مكان بعينه ثم انتقلت بالتدريج إلي أماكن أخري؟ أم أنها انطلقت من أكثر من مكان في وقت واحد؟ ويحاول الإجابة فيقول إنه من الأرجح أن تكون البداية قد جرت في مكان بعينه، وبعد التوصل إلي بعض الأساسيات أخذت الفكرة تنتقل إلي جهات أخري، ويرجح المؤلف أن يكون هذا المكان، مدينة العلم والثقافة والفكر الديني »هليوبوليس عين شمس المطرية« والتي كانت تعرف باسم »اون« منبع نظرية مهمة من النظريات التي حاول من خلالها المصريون تفسير خلق الكون، وكان هناك مركز علمي ديني آخر »منف« أقدم عواصم مصر، »ميت رهينة البدرشين الجيزة« حالياً، وكان هناك الأشمونين في المنيا وأبيدوس في سوهاج أقدس أماكن مصر القديمة، وكانت أيضاً منطقة »ثني« بجرجا طينة التي يرجح خروج الملك مينا الذي وحد القطرين، وثمة أماكن أخري عرفت خطوات مهمة، منها حلوان، المعادي، جرزة، الفيوم، البداري، دير تاسا ونقادة وغيرها. يتساءل الدكتور عبدالحليم نور الدين بإلحاح: في أي الأماكن بدأت ونشأت الكتابة المصرية؟ وأقول، إلي أن يكشف لنا التاريخ العميق أسراره لا يعنيني ذلك تحديداً، المهم إن هذا الوطن الذي نعيش فيه، ويعيش فينا، والذي سنصبح ذرات من ثراه يوماً، عرف كل شبر منه جهداً لإتمام نور المعرفة وإضاءة أفق الإنسانية. أليس من المنطقي أن يعرف المصريون تاريخهم القديم جيداً، وأن يعرفوا علي الأقل شكل الأبجدية الأولي في تاريخ البشرية؟