«سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    الخارجية الأمريكية تكشف ماذا طلبت طهران منها بعد تحطم مروحية رئيسي    لا يظهر كثيرا.. من سيكون رئيس إيران التالي بعد وفاة رئيسي؟    شهداء وجرحى فى قصف للاحتلال الإسرائيلى على عدة مناطق بقطاع غزة    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    حسين لبيب: شيكابالا أسطورة نادي الزمالك    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تجيب (فيديو)    الأرصاد: الموجة الحارة مستمرة حتى الخميس    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    وزير الصحة لا مساس بحقوق العاملين بالمنشآت الصحية في ظل القانون الجديد    اتحاد منتجي الدواجن: السوق محكمة والسعر يحدده العرض والطلب    حلو الكلام.. دموع على ضريح القلب    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    جدول مباريات الدوري المصري اليوم والقنوات الناقلة    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    مصدر ليلا كورة: اتجاه في الأهلي لتجديد عقد علي معلول    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    إبراهيم عيسى: حادثة تحطم طائرة الرئيس الايراني يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة    كيفية الاستفادة من شات جي بي تي في الحياة اليومية    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: مصر المكون الرئيسي الذي يحفظ أمن المنطقة العربية    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    خريطة تلاوات إذاعة القرآن الكريم اليوم الثلاثاء    أحمد حلمي لمنتقدي منى زكي بسبب السيرة الذاتية ل أم كلثوم: اظهر وبان يا قمر    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    حقيقة ما تم تداوله على "الفيس بوك" بتعدي شخص على آخر وسرقة هاتفه المحمول بالقاهرة    نشأت الديهي: قرار الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو سابقة تاريخية    جهاز تنمية القاهرة الجديدة يؤكد متابعة منظومة النقل الداخلي للحد من التكدس    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    المجلس التصديري للملابس الجاهزة: نستهدف 6 مليارات دولار خلال عامين    خفض الفائدة.. خبير اقتصادي يكشف توقعاته لاجتماع البنك المركزي    بعد تعاقده على «الإسترليني».. نشاط مكثف للفنان محمد هنيدي في السينما    أفلام صيف 2024..عرض خاص لأبطال بنقدر ظروفك الليلة    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    ضحية جديدة لأحد سائقي النقل الذكي.. ماذا حدث في الهرم؟    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    كأس أمم إفريقيا للساق الواحدة.. منتخب مصر يكتسح بوروندي «10-2»    على باب الوزير    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آعجبني هؤلاء
عبدالرحمن بدوي.. فيلسوف الوجودية المصرية
نشر في أخبار اليوم يوم 06 - 01 - 2012

اختلفت الناس عليه، وحاروا في أمره. وأدهشهم أن يتقن كل هذه اللغات: الفرنسية والألمانية والإيطالية والاسبانية واليونانية واللاتينية.. أما أنه كان طالبا نابها.. فهذه حقيقة. وأما أن طه حسين قد تنبأ له فهذا صحيح وهو الذي أوفده في بعثة إلي فرنسا. ولما قدم رسالة الدكتوراه قال عنه إنه أول فيلسوف مصري. وللحقيقة التاريخية قد سبقه فيلسوف آخر هو أفلوطين السكندري »502 072م« ولا يعرفون له صديقا ولا زميلا ولا من يجلس إليه ويقول له. وهو شديد الاعتزاز بعلمه.
وهو متكبر. وقالوا: متغطرس وهو رجل خجول فقالوا: نافر وشاذ. وأسلوبه في التدريس مختلف تماما عن كل أساتذتنا في كل فروع الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال قالوا: انه يغرق العقول بالمعلومات ولا يعطي أحدا فرصة في أن يفكر. ومن الذي يستطيع؟ فهذه العلوم أكداس من الورق والمراجع والوقت ضيق.
والأعصاب مشدودة. وكل شئ جديد علينا فقد انتقلنا من الدراسة الثانوية إلي الجامعية من الدار للنار. انتقلنا إلي أساتذة ينطقون الكثير من الكلمات الأجنبية وأسماء غريبة للفلاسفة والأساتذة ونظرياتهم والرد عليها ومناقشاتها وقبولها أو رفضها.
وقالوا انه جاف خشن يصدم الطلبة دون رحمة. عدواني وهو مكتئب دائما ويشعرك بأن المادة التي يعرضها عليك تحتاج إلي متابعة حتي نهاية السنوات الجامعية. ولا يجرؤ واحد من الطلبة أن يسأل. وإذا سأل فسوف يكون الرد سخرية منه. لا أحد يسأل ولا أحد يستوقفه إذا كان واقفا أو جالسا. وبعد أن يفرغ من محاضراته فإنه يعود إلي بيته كما جاء مشيا علي قدميه مرفوع الرأس وله طربوش أحمر قاتم. والبشرة سمراء. والعينان سودوان. والحاجبان غليظان. والشفتان ممتلئتان مزمومتان. والجاكت أزرق و البنطلون رمادي لا يتغيران ولن يتغيرا طول العام الدراسي أو كل الأعوام الدراسية. بخيل؟ يؤكدون ذلك.
إنها إحدي الصفات التي يروجها خصومه وهم كثيرون. ولم نعرف لماذا ونحن طلبة. وفي يده دائما دوسيه وإذا حاول أن يعبر الشارع من طرف إلي طرف وقف تماما. والتفت يمينا وشمالا واستأنف السير دون أن ينظر إلي أي شئ متجها إلي حيث لا نعرف. وعلي الرغم من أنه لا يعرف أحدا. كنا نتابعه من بعيد وعلي حذر.. لماذا؟ رغبة في أن نعرف. وما فائدة أن نعرف أين يسكن: لا فائدة. ولكننا نريد أن نعرف. وغير قادرين علي مقاومة هذه الرغبة في فك هذا الرمز.. هذه الأسطورة الفلسفية عبدالرحمن بدوي. ولم يخطر علي بالي لحظة انني سوف أقوم بالتدريس لهذه المادة في نفس المكان..
ولايزال عبدالرحمن بدوي أسطورة تمشي بخطوة منتظمة وقدمين منفرجتين وصدر عال ومبادئ كرش. وللبنطلون حزام. والقميص بنفسجي لونه غريب مثل لون كتبه. وهو اللون الذي قد اختاره فيلسوف الحضارة اشبنجلر. وهو يري أنه أرقي الألوان المعقدة التي لم تعرفه الحضارات القديمة. وفي بيت عبدالرحمن بدوي غرفة مغلقة. دخلتها فرائحتها كأنها لم تفتح منذ طليت جدرانها باللون البنفسجي وفيها تمثال للفيلسوف اشبنجلر وكنت أتوقع أن أجد تمثالا للفيلسوف الوجودي هيدجر.
ولا تزال الحكايات و الخرافة نسمعها عن عبدالرحمن بدوي الذي نراه داخلا خارجا. فهو لم يدرس لنا بعد، فنحن في السنة الأولي.
وكنا مبهورين بأستاذنا د.لويس عوض. وهو يدرس شكسبير. لم يكن كلامه عن الشاعر الانجليزي ولا عن عصره. وإنما عن كل العصور. أفكاره جديدة،. أحكامه غريبة. لم نسمع بها ولم نقرأ عنها من قبل. ثم إن د. لويس عوض كان يرأس جمعية موسيقية اسمها »جمعية الجراموفون«. ولا أحد الآن يعرف الجراموفون أو الفونوغراف إنه سجل للأسطوانات الموسيقية. وكنا نستمع إلي هذه الأسطوانات في المدرجات وكنا سبعة: ستة شيوعيون وأنا. ولويس عوض شيوعي. وكلنا من قسم الفلسفة. وكان الجو طبيعيا. نستمع إلي الموسيقي ونأكل سندوتش الفول »بيتهوفن«! فليكن ما دمنا لا نستطيع ان نأكله بالكافيار والشمبانيا.
مرة سمعنا أن د. عبدالرحمن بدوي قد جري وراءنا متجها كالصاروخ إلي المكتبة العامة. ولا نعرف ماذا يفعل ولا كيف جلس يقرأ. وما هي الكتب التي هنا وليست في بيته. وعرفنا فيما بعد انه يستطيع ان يجلس في المكتبة يوما كاملا..
أما الذي يحيرني دائما كيف ان خطه جميل. أما خطي فردئ. ومن الصعب علي أحد أن يقرأه إلا سكرتيري. الذي يحفظني منذ أربعين عاما!
رأيته صدفة في إحدي مكتبات القاهرة. أفسحت له المكان وواضح جدا فرحتي لذلك. لاحظ هو ذلك فسألني: أين تدرس؟ قلت: في قسم الفلسفة. فقال: ولكن لم أرك. قلت: أنا ما أزال في السنة الأولي. وتركني كأنه كان يكلم الكتب أو الجدران. لم يظهر عليه اي معني. وإنما برقت عيناه وتحركت الحدقتان بسرعة. وتحولت عيناه إلي شئ آخر.
واكتفيت بهذه الجرعة. ولم أقل لأحد إنني رأيته أو كلمني. وحرصت علي أن أسمع بقية الحكايات عنه. ولكن الحكايات لاتنتهي. فقط طلبة السنة الثانية والثالثة والليسانس هم الذين يعرفون أكثر. وصار لي صديق في السنة الثانية هو قال وأطال ونفخ في الأسطورة بعبارات الحقيقة الأسطورية: عبدالرحمن بدوي.
رأيت مؤلفات عبدالرحمن بدوي في المكتبات كلها من حجم واحد. الغلاف بنفسجي والورق أيضا. و هو مالم أره من قبل. ومددت يدي إلي كتابه عن الفيلسوف نيتشه.. يا الله.. وكتابه عن الفيلسوف اشبنجلر.. وكلهم فلاسفة ألمان. إذن هذه هي أهم معالم فلسفة عبدالرحمن بدوي. فلسفة القوة والفرد والإبداع. هو الذي اهتدي إليهم. أو هم الذين التقطوه واختاروه رسولا لهم بيننا. لا قرأت مثل هذا الأسلوب ولا مثل هذه القوة في الأداء. ولا أعرف أحدا مثله من المؤلفين. ليس له مثيل. كيف اهتدي إلي هذه القوة والإبداع كيف استطاع ان يفي كل هذه المعاني وأن يسوقها أمامه نعاما وزرافات ونسورا. كيف؟ كتابه عن نيتشه شعر بركاني وكتابه عن شوبنهور حزن موجع. كتابه عن اشبنجلر بطولة أسطورية. كان عبدالرحمن بدوي أحد أبناء هذه الأسطورة.
من أين جاء؟ ومن أين أتي بهذا الإبداع وهذا الفن وهذه الأساطير وكيف أتي بكل هذه المراجع الألمانية والفرنسية؟ ثم كيف ابتدع هذه التعبيرات الفلسفية والبلاغية. كيف لا يلتفت إليه كل الناس وكيف لايضعونه في أعلي مكان؟ فلم يستطع أحد ان يعلي من مكانة الفكر الحديث كما فعل في كتبه. لا أحد. وليس مشغولا تماما بأن يكتب عنه أحد.. أو يلفت إليه. إنه نبات بري باسق اختار أن يكون بريا وان يكون شامخا. سواء كان أطول من أشجار اخري تكون أو لم تكن هناك أشجار أو حتي عيون تري. انه نبت وأزهر وارتفع عاليا. وهذا هو المهم. النمو والعلو هذا هو أستاذنا الأسطورة.
زملاؤنا الذين درس لهم قبلنا اكثر هياما به وحبا وغراما تماما كما يصف القرآن عذاب جهنم بأنه كان غراما فتنة أمام اللهب ، لا هم قادرون علي ان يقربوا ولا هم قادرون علي ان يبتعدوا.
فجأة كنت في مطعم جروبي وفي الحديقة وجدت د. بدوي والمخرج أ.ك.م »أحمد كامل مرسي«. أما هذه فيقال لها مديحة يسري. مش معقول أن تكون ملهمة النقاد وعبدالرحمن بدوي. وان كان قد حدث في التاريخ ان تعلق ثلاثة من العظماء بسيدة واحدة.
السيدة هي الاديبة الجميلة: لوسالومي انهم نيتشه وفرويد والشاعر ريلكه. وكانت الصحف تصورهم يجرون عربة تركبها سالومي وتلهب ظهورهم بالسياط.
وإنما كانت مديحة يسري تجلس إلي المخرج الذي يجلس إليه عبدالرحمن بدوي. فلا هو يطيق جهلها بالفلسفة ولا هي قلة ذوق مع المرأة.
أنا الذي ذهبت بعيدا. خيالي ومحاولة أن أحصر الأحداث والمواقف أربط مديحة يسري بعبدالرحمن بدوي. كما ارتبطت وهي فتاة صغيرة بأستاذنا عباس العقاد وقال فيها شعرا بديعا الشعر أروع وأعظم منها. أما الموضوع فلا يهم.
قال كامل الشناوي:
وأنا خلقتك من هواي ومن جنوني
إذن لا يمكن أن تكون كراهية العقاد لعبدالرحمن بدوي بسبب حب الاثنين لمديحة يسري. أما قصة العقاد معها فهي مأساة إغريقية. مديحة يسري كانت تذهب مع أبيها إلي بيت الأستاذ ليصلح شيئا في البيت. وكانت سمراء حلوة تتركز وتتجمد عبرها وعليها النظرات ومن بعدها الآهات والشعر. وكان ما كان مما سوف أذكره.. القصة تدخل مرحلة غامضة. فكانت الفتاة تبحث عن مستقبلها وقد التقطها عديد من المخرجين والممثلين. ولكنها كانت تذكر للأستاذ العظيم عطفه عليها واهتمامه الشديد بها.. اهتمام والد أو سيد. وكانت تعده وتخلف وكان العقاد يقف وراء الباب ينتظر في ملل. ويدخل ويخرج ويبتلع ريقه ويحاول أن ينشغل بتسجيل أبيات من الشعر قد دارت في رأسه أو يجلس إلي المكتب فلا يستطيع فيعود إلي الباب يضع أذنه عليه يسمع حذاءها يدق السلم. وهو الذي اشتري هذا الحذاء ذا الكعب العالي الذي حين يسمعه يخف لاستقبالها.. ولكن كان شئ غريب يحدث وهو أن ورقة صغيرة تدخل من تحت الباب تعتذر عن الموعد.. ولكن العقاد لم يستمع إلي وقع حذائها وهي تصعد الدرج. فهل لم ترتد الحذاء الذي اشتراه أو انها اعطت الورقة لإحدي صديقاتها. إن العقاد يمنعه كبرياؤه أن يفتح الباب وينتظر أو يطل من النافذة. الفتاة لم تعد هي ولن تعود كما كانت فقد التقطتها نسور السينما. وقالوا لها كلاما في أذنيها وفي عينيها أجمل وأكثر مما يستطيعه الأستاذ العظيم.
وماذا عساه يقول الأستاذ لها عن الحب والغزل وعن أساطير الأولين والآخرين. وماذا عنده يشعل خيال فتاة صغيرة بسيطة. لا دخل لها في إنها سمراء جميلة. انها جميلة لأسباب أخري. أما هي ففتاة عادية.
وجدت من يقول لها: عيناك آه.. شفتاك آه.. لونك.. مشيتك. ولا مانع من قبلة خاطفة من النجوم الذين شاهدتهم في السينما وبهروها وغمزوها قبل أن تراهم عند يديها وقدميها.. أستاذنا هو الذي ذهب بعيدا بعيدا جدا عن الواقع!
وفي جلسة ضمت عددا من زملائنا الذين درس لهم عبدالرحمن بدوي. كانوا أكثر شجاعة ونشاطا في الحديث عنه. وفي رفع الكلفة بينهم وبين اسمه فيقولون: بدوي. نيتشه الأسمر. الوجودي الأوحد..
وكانوا معه في رحلة. إلي القناطر الخيرية. فحدثهم عن لقائه بمديحة يسري. وكان سعيدا بهذا اللقاء. وأطال. وكان وحده المبهور بها. أما الطلبة فلم يكونوا كذلك. إنهم رأوها علي الشاشة. وإيه يعني؟ وهناك بنات أجمل وأحسن منها.. وراحوا يذكرون صديقات لهم ويفاضلون بينها وبين هذه المديحة يسري. ولكن حماس عبدالرحمن بدوي لرؤية مديحة والجلوس إليها كشف عن سذاجته.. فإنها لا تستحق كل هذا الإطراء. ولو شاء عبدالرحمن بدوي كانت حوله جميلات كثيرات.
ولكنه نافر ومنفر. والعجيب جدا انه كان يردد عبارات له.. ماذا قالت وماذا قال.. الغريب أنه حريص علي أن ينقل كل ذلك لتلامذته الذين وضعوه في السماء. ما قالته وكأنها فيلسوف عظيم اكتشفه وحده أو كأنها نجم وهو عالم فلكي.. ويريد أن يعرفه إلي علماء الفلك.
وأحدهم قال: هذا الرجل بتاعكم ده عبيط واللا إيه؟!
ياخبر! لقد رأيت إن هذا كفر. وليس بدوي الذي يقال عنه شئ من ذلك.
ولكنه مضي يقول: إن الدكتور بتاعكم ده لا يعلم أن المخرجين عندهم طوابير من البنات الجميلات يردن الظهور علي الشاشة.. والعلاقات بين الفنانين علاقات مزيفة.. كعلاقاتهم علي الشاشة.. كذب في كذب.. فاهتمامها به أو المخرج. اعتادت علي ذلك.. فليس خبرا جليلا أن تراه غدا وحده في نفس المكان لو أراد.. لا هي تراه عظيما ولا هو. وبس!
ولكن ليس هذا رأي الأستاذ العقاد انتهت العلاقة. ولا أعرف إن كانت »علاقة« هي الكلمة. فهو مشدود إليها، وليست مشدودة إليه.. وفي يوم طلب أستاذنا العقاد من صديقنا الفنان الكبير صلاح طاهر أن يرسم لوحة يضعها في غرفة نومه لبطرمان من العسل يقف عليه الذباب.. وهذه اللوحة هي أول ما يراه العقاد في الصباح وآخر ما يري في المساء حتي الموت.. أما العسل فهي وأما الذباب فهو كل الوسط الفني مسكين أستاذنا العظيم!
وكان يوماً مشهودا والحفل كان في المدرج رقم 87 لطبة الآداب جامعة القاهرة.
وأحداث كثيرة وقعت في المدرج 87 من كلية آداب القاهرة. فكان من بعده أن جاء حفل ختام عندما طلبنا إلي أستاذنا العقاد أن يلقي محاضرة موضوعها »النسبية عند الغزالي والنسبية عند أينشتين« لقد أبدع الأستاذ ورفع رأسي عاليا بين طلبة وأستاذة الفلسفة..
وكأنني قلت للأستاذ العقاد: اخرج عليهن. فخرج فقطعن أيديهن.. لقد قطع الأستاذ العقاد كل اعناق الذين لم يظنوه مفكرا عظيما لا في الأدب والشعر والقصة.. وإنما في الفلسفة أيضا..
ثم المحاضرة التي ألقاها الأديب الفرنسي أندريه جيد وقدمه لنا طه حسين وداعبه وأشار إلي شذوذه الجنسي الذي بسببه طردوه من روسيا.
فقال طه حسين: انه طوال حياته مولع بالشباب. هاها..
وضحك منا الذين يعرفون ذلك..
ثم هذه المناقشة الفريدة للسيدة جيهان السادات والتي حضرها الرئيس السادات وأفراد الأسرة وأنا. وانتهت المناقشة وفي اليوم التالي سألني الرئيس: إيه رأيك؟ قلت له: مدام جيهان مذاكرة واستطاعت أن ترد علي كل الأسئلة. فقال: لا.. أنت لم تأخذ بالك إنها كانت تقول لهم: أيوه يا افندم حاضر يا افندم أنا ما بشوفش الحاجات دي في البيت يا أنيس هاها.. هاها..
وبعد ثلاثين عاما ذكرت السيدة جيهان هذا الكلام. فضحكت وقالت: وهو معقول أن تقول الزوجة لزوجها سيادتك.
ثم هذا اليوم الذي أذهلنا وجعل عبدالرحمن بدوي تاجا علي رأس طلبة الفلسفة في كل وقت. وكان ذلك يوم مناقشة رسالة الدكتوراه..
جلس بدوي يقلب في الأوراق أمامه. هل كان مضطربا. يبدو انه ليس كذلك. وإنما كنا نحن المضطربين القلقين علي المثل الأعلي ان يهتز أو يتهجم عليه أحد. وكانت القاعة قد امتلأت تماما. وليس كل هؤلاء طلبة الفلسفة. إنما جاء الطلبة من كل الكليات يشاهدون لأول مرة الأسطورة الفلسفية.. وتعالي التصفيق فقد دخل اعضاء اللجنة: طه حسين و الشيخ مصطفي عبدالرازق وعميد الكلية حسن إبراهيم حسن وعلي عبدالواحد أستاذ علم الاجتماع. ثم المستشرق الألماني باول كراوس.. وقف بدوي وتعالي التصفيق وجاء صمت رهيب!
ولم أكن قد رأيت مناقشة رسالة فلسفة أو حتي رسالة جامعية. ثم من الذي يمتحن عبدالرحمن بدوي وما عساه أن يقول وأن يقولوا.. ونظرنا إلي المكان الذي سيقف فيه عبدالرحمن بدوي. ومنضدة صغيرة ومصباح. وجاء عبدالرحمن بدوي وقد ارتدي الروب الجامعي. أسمر اللون لامع العينين تحت منظار غليظ. حاد صارم شفتاه مزمومتان تماما مع ضغط عليهما. ولكنه واثق الخطوة يمشي ملكا. كما تقول أم كلثوم. وجلس وأمامه رسالة ضخمة. وهو يقلب في الملخص الذي سوف يقرؤه أمام اللجنة. وبعد ذلك يناقشونه ويناقشون عبدالرحمن بدوي. يا تري كيف.. كيف تكون المناقشة؟ كيف يسألونه وكيف يرد؟ وبسرعة مضي الوقت. وبإشارة من رئيس اللجنة طلب من الطالب عبدالرحمن بدوي أن يقدم للجنة الموقرة موضوع الرسالة.
أكذب لو قلت إنني استوعبت أكثر الذي قال. إنها تراكيب فلسفة غريبة.. أعرف المفردات ولكن لا أعرف هذه التراكيب العجيبة التي يقولها بمنتهي الثقة واليقين. ومضي نصف الساعة من الألغاز والفوازير الفلسفية. وكانت القاعة قد امتلأت تماما. وليس عدد طلبة الفلسفة بهذا الكم الهائل. إننا لانزيد علي مائتي طالب في السنوات الأربع »كان عدد الطلبة عندما كنت أنا أقوم بتدريس الفلسفة سنة 3591 خمسمائة طالب« وجاءت التعليقات كلها درجات مختلفة بين الإطراء علي طالب الدكتوراه وتمنياتهم له بالتوفيق. وقد استاء الحاضرون من مناقشة د. علي عبدالواحد له. وقد أغاظه عبدالرحمن بدوي عندما صحح له نطق اسم باحثة فرنسية فأصر الأستاذ علي النطق الذي قدمه وأصر عبدالرحمن بدوي علي التصويب. وابتسم طه حسين. وجاء دور طه حسين وهو من المعجبين بالطالب ويحبه عبدالرحمن بدوي وهو الذي أوفده في بعثة إلي فرنسا. ثم قال: يسعدني أن أقدم لكم أول فيلسوف مصري.
وكان ذلك فوق احتمال الحاضرين فصفقوا وهللوا. ومنحه الدكتوراه مع مرتبة الشرف وانفرط نظام القاعة وحملوه علي الأكتاف إعجابا به وإنصافا له وإعلاء من شأنه.. وخرجوا إلي خارج القاعة. وانتهي يوم كان له دوي بعده ولسنوات طويلة! وكان يوم الجمعة موعد صالون العقاد. وتحدث أحد الحاضرين عن مناقشة رسالة عبدالرحمن بدوي. فتساءل العقاد: وهل فهمت يامولانا ما سمعت؟ فقال: الكلام والله صعب يا أستاذ.
قال العقاد: الأديب الروسي تولستوي له عبارة مشهورة: وهي أن الذي لا يستطيع أن يشرح فلسفة أو نظرية في ثلاث دقائق، فهو مفكر فاشل.. هاها ولم يضحك أحد!
وهمست في أذن جاري وهو زميلي في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية قلت: ما رأيك نزور أستاذنا طه حسين!
وقال انه يسكن بالقرب من فيلا »رامتان« وهي الفيلا التي يقيم فيها طه حسين وأمامها حديقة جميلة. وننظر إلي الاشجار والزهور والطيور ونحاول أن نجد لها علاقة بطه حسين. ولا يخطر علي البال أن طه حسين لا يري.
ولأن الخدم قد اعتادوا علي رؤيتي وعلي أننا نجلس طويلا إلي أستاذنا طه حسين. فأشاروا لنا أن نتفضل بالدخول وإن كنا نشرب قهوة أو أي شئ آخر.
وطه حسين قد اعتاد علي مجئ تلامذته في ساعة مبكرة يستقبلهم قبولا حسنا. ولم يطل انتظارنا حتي جاء طه حسين. ورفعنا أصواتنا بالتحية والامتنان. وقال بصوته الذي يحتضن تلامذته مع ابتسامة حلوة: أهلا بك يا سيدي ومن معك؟
وقدمت له زميلي. فحياه ورحب به كأنه يعرفه.
وبدأت أنا فقلت: أستاذنا أنا حضرت مناقشة دكتور عبدالرحمن بدوي. وقد أسعدنا ما حدث. مع أن اكثرنا لم يكن من تلامذة عبدالرحمن بدوي وأكثر الحاضرين قد علموا بما يلقاه عبدالرحمن بدوي من حقد عليه وحسد علي احتضانك له وعلي مؤلفاته البارعة..
وكأن طه حسين يريد أن يقول هو أيضا شيئاً وأننا اتحنا له هذه الفرصة قال: تساءلت عن هؤلاء الذين حملوه علي الأعناق. كأنه زعيم سياسي. أو كأنه مطرب أو ممثل كبير. شئ من مثل هذا لم يحدث في الرسائل الجامعية إنهم ليسوا طلبة فلسفة وإنما هم دعاة العدل والانصاف. قد ضاق بالظلم الذي يلقاه عبدالرحمن. فهو يستحق اكثر من ذلك. ولا أعرف كم يقدر علي مواجهة هذا النكران..
وقد تنبأ طه حسين بما سوف يحدث بعد ذلك. فقد ترك د. عبدالرحمن بدوي مصر وسافر إلي الكويت وأقام طويلا.. وسافر إلي ليبيا ودخل السجن وعاد إلي فرنسا ولم يرجع إلي مصر. فجأة كما تنبأ طه حسين. لم يطق عبدالرحمن بدوي صبرا علي الحاقدين.
ومن الغريب أن عبدالرحمن بدوي قد اشترك في لجنة وضع الدستور في عهد ثورة يوليو سنة 2591.
وهذه الثورة هي نفسها التي فرضت عليه وعلي أبيه وإخوته وجردتهم مما يملكون من أرض شاسعة وبذلك تحتم علي عبدالرحمن بدوي ألا يبقي في مصر وألا يعود حتي الموت..
وكان من بين الزملاء من تربطه بالشيخ مصطفي عبدالرازق صلة القرابة فلم يكد يعرض علينا أن نزوره، وأكد لنا أنه رجل لطيف وأنه رقيق وأنه شيخ »شياكة«.. شياكة في كلامه وفي حفاوته بالناس.
وأنه أنيق في ملبسه وفي أسلوبه في التعامل مع تلامذته ومع أهله الذين يجيئون من الصعيد ويعرضون عليه مشاكلهم ويتعجلون حلها وهم جلوس عنده. وكان يفعل..
ولم يسعدني الحظ أن أنفرد به فقد امتلأت القاعة بالأقارب والعلماء والطلبة من مصر وخارجها. وكان ينظر إليهم واحدا واحدا ويناديهم بأسمائهم ويسألهم عن قضاياهم وكانوا يشرحون ويطيلون ولا يظهر عليه الضيق مما يقولون. غريبة! وكان يجاوبهم. ويشجعهم. فلم يكن لنا أمل في أن نلقاه وحدنا. ولكنه أدرك بذكائه وبصيرته فالتفت إلي زميلنا وقال: أما أنت وزملاؤك فلنا لقاء اليوم مساء وحدنا.
فشكرناه ونهضنا. وعدنا في المساء واتفقنا علي توزيع الأسئلة. فأبدأ أنا بالكلام. فقلت: أستاذنا الجليل لقد كانت المناقشة مع الدكتور بدوي رفيعة جداً. علي عكس ما فعله د. عبدالواحد وافي أما المستشرق الألماني باول كراوس. وهو علي حق..
ولأول مرة نسمع فضيلة الشيخ مصطفي عبدالرازق يكلمنا في الفلسفة الحديثة. وقد اعتدنا أن نستمع إليه محدثا في الفلسفة الإسلامية. وكان يحسن الشرح والأداء ويشجعنا علي أن نستوضحه. قال د. بدوي شاب لامع طموح عالم. ولأنه شاب فهو شديد الحماس. ولا يقبل مناقشة تمس ما اهتدي إليه من معان لطيفة دقيقة. وأنا طلبت إليه أن يبحث في الفلسفة الصوفية علي مثل هذه المعاني التي وجدها في الفلسفة الألمانية. وقلت له: إن الشعراء هم السباقون إلي أجمل المعاني وهم بذلك يسبقون الفلاسفة. وكذلك المجاهدات عند الصوفية تهديهم إلي أعمق المعاني التي تساعد د. بدوي علي توسيع مجال الرؤية عنده. وقلت له إنه سوف يجد عند محيي الدين بن عربي الكثير جدا من المعاني التي شرحها بأسلوب حديث جاد صارم. وقد وجدت استجابة تامة عند بدوي. وأيدني في ذلك طه حسين بل إنه ألقي علينا أبياتا لأبي العلاء المعري ولأبي تمام تكاد تكون ترجمة للمصطلحات الجديدة في الفلسفة الوجودية الألمانية. وأعتقد أنه سوف يفعل فهو بذكائه وحسن فطنته قادر علي ذلك..
قلت: شكرا أستاذنا الجليل!
اليوم الأول لمحاضرة د. عبدالرحمن بدوي.. كأنه اليوم الأول في كل شئ.. أول الدنيا.. أول التاريخ.. أول يوم في شهر العسل.. أول يوم نحس له طعما.. ولكن انتظار ودهشة والخوف من أن يصطدمنا فقد قيل لنا إنه يصدم الناس..
فجأة ظهر الدكتور بدوي.. نفس الرأس المرفوعة.. ونفس الملامح الحادة المتجهمة.. أسمر اللون لامع العينين .. عيناه تتحركان ولا تركيز علي شئ فينا أو حولنا.. ويمشي أمامنا خطوة إلي اليسار خطوات إلي اليمين.. ووضع يده في جيبه وبدأ في الكلام وفي الموضوع مباشرة.
دون أن يقول لنا إن كان البرنامج طويلا أو قصيرا صعبا أو سهلا وهو لا شأن له طبعا ان كنا نعرف شيئا عن هذا أو حتي عن الفلسفة.. ومضي يتكلم. وهو لا يركز عينيه في أي شئ وحتي لو فعل سوف يجدنا قد انكفأنا نكتب لأنه يتكلم بسرعة. ولا أحد قد رفع رأسه. ولا في نيته.
ومضي الوقت طويلا. وهو لايزال يحاضر بنفس السرعة والأداء..
ودقت ساعة الجامعة. وحمل الأوراق التي وضعها علي الترابيزة واتجه إلي الباب. وخرج. وتلفتنا بعضنا إلي بعض. لم يقل أحد شيئا فمن يتوقع هذا الذي رأيناه. ما الذي أصابنا؟ صدمة. نعم. خيبة أمل؟ نعم. تساءلنا ما هذا فكان الجواب إنه هكذا.. ثم لم نعد نتساءل فلا جدوي من السؤال.
ولابد أن محاضرة الغد سوف تكون بنفس الطريقة.
ثم التقينا في اليوم التالي وانفتحنا بعضنا علي بعض وتساءلنا: ما هذا؟ الجواب: إنه هكذا. إن زملاءنا الذين سبقونا يؤكدون أنه لم يتغير. إنما سوف يلاحظ أنه يبدأ محاضرة الغد من حيث انتهي بالأمس بالكلمة والحرف.
وهذا ما حدث. بدأ المحاضرة هكذا فكمل الكلام.
وفعلا من حيث انتهي ابتدأ كأنه لم يمض علينا 42 ساعة انشغل فيها وحاضر في موضوعات وفي سنوات أخري. ولكنه في كل المحاضرات يفعل نفس الشئ. وأنا عملت مدرسا للفلسفة تحت رئاسته ووجدتني إلي حد كبير أشبهه لولا أنني لا أستطيع أن أكون جافا خشنا. بل كنت أمزج الجو بفكاهة تخفيفا علي الطلبة وعلي نفسي. ولكن نادرا ما رأينا د. بدوي يبتسم.. إلا ساخرا من أحد وخاصة إذا كان زميلا له في قسم الفلسفة!
في ذلك الوقت لم يكن هناك مكان للنزهة سوي حدائق القناطر الخيرية وأنا الآن لا أذكر كيف ذهبنا إلي هناك. بالأتوبيس أو بأحد المراكب النيلية حاولت أن أتذكر لم أستطع. ولم أجد أحدا من زملاء الدراسة أساله. اللهم إلا زميلة تعيش في كندا. طلبتها ولم أجدها. ولم أحاول مرة أخري.
وحدث شئ غريب. فقد كان أستاذنا هو عبدالرحمن بدوي الذي رافقنا في هذه الرحلة. ولا نعرف كيف نتصرف معه. ولا كيف هو، ولكن حدث شئ أغرب. لقد كان الطلبة يغنون وفوجئنا بأنه هو الذي يغني معنا. وسكتنا لكي نسمعه وحده. ولم يتردد. ولابد أنه يعتقد أن صوته جميل. أو أن أحدا قد قال له ذلك. وظهر البهجة علي وجهه والدهشة علي وجوهنا وتلاقت نظراتنا نتساءل: ما هذا؟ وكيف؟ وهل هذا معقول بل إننا لاحظنا انه شديد التلطف إلي زميلاتنا. ولم يكن ذلك لا معروفا و لا مألوفا.
وكنت أقرب الطلبة إليه. وكان يري أن لي مستقبلا هاما في الفلسفة. وقد كنت طالب الامتياز الوحيد في قسم الفلسفة لمدة عشر سنوات.
وكان عبدالرحمن بدوي حريصا علي أن أكمل دراساتي الفلسفية معه. ولما أنشئ قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عين شمس طلب مني أن ألتحق بالقسم ووافقت.
وقبل ذلك بسنوات كنت قلقا أريد أن أعمل كاتبا صحفيا. واعترض أساتذتي جميعا: طه حسين وعبدالرحمن بدوي ولويس عوض وشوقي ضيف ورأوا أنه لا مكان لي إلا في الجامعة والاستمرار في الدراسة حتي منتهاها. وكان أبي قد مات في يوم تخرجي في الجامعة. ذهبت إليه لأزف له نجاحي مع مرتبة الشرف وأن ترتيبي الأول فابتسم ودعا لي، وذهب!
وقيل لي إنهم مستعدون أن يساعدوني بإعطائي منحة دراسية في مصر أو خارجها؟ وكيف أترك أمي؟!
كان لابد أن أعمل. وجاء عملي في الصحافة مجرد صدفة، فقد كنت مترددا، ذهبت أزور زميلا في قسم الفلسفة. فاجأني بقوله: ولماذا لا تعمل معنا. قلت ماذا؟ قال: تكتب في الصفحة الأخيرة وهي صفحة أدب.
ومنذ ذلك الحين وأنا أكتب في الصفحة الأخيرة طوال حياتي الصحفية. وكنت أكتب في الأدب والفلسفة والنقد الأدبي. وأكتب القصة القصيرة والقصة المترجمة وابتكرت ألوانا اندهش أنها ما تزال في الصحف وفي الإذاعة. من بينها باب اسمه: قالوا.. هذا الباب ابتكرته سنة 8491 في جريدة »الأساس« ولايزال مناسبا للموضوعات تنشر تحته والتي تذاع في الإذاعة والتليفزيون ثم إنني أصدرت كتابا من عدة أجزاء بعنوان: قالوا.. وفيه وضعت كلماتي الساخرة عن المرأة والحياة الزوجية والحب وغيرها من المعاني..
وفي اللحظات الأولي للقاء طلب مني عبدالرحمن بدوي أن أقوم بتدريس هذه المواد من الشهر القادم: تاريخ الحضارة الأوروبية في الثورة الصناعية والفلسفة الوجودية عند سارتر..
وأشار إلي عدد من المراجع، وتركني!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.