يفرض علي المسلمين الاستيقاظ والعودة لوحدتهم في الحج دعوة صريحة لإعمار الأرض بالإنتاج والتنمية في مثل هذه الأيام من كل عام، تعيش الأمة الإسلامية أجواء إيمانية فريدة تأتي بها رحلة الحج المقدسة، والتي جعلها الله تعالي الأنموذج الكامل للتعبد والتسليم له والتقرب إليه بكل سبيل؛ لذا كان ثوابها الثواب الكامل. والحج هو العبادة المشتملة علي معاني العبادات الأخري، ففيه الطواف والدعاء الذي هو روح الصلاة، وفيه بذل المال وإطعام الفقراء الذي هو لب الزكاة، وفيه ضبط النفس وإمساكها عن الرفث والفسوق والجدال بما يمثل جوهر عبادة الصوم. وفي الحوار التالي يكشف د.علي جمعة مفتي مصرالمزيد من أسرار العبادة الشاملة: بداية.. ما سرالتوجه إلي بيت الله الحرام في الحج والعمرة؟ نتوجه في الحج والعمرة إلي بيت الله الحرام لأنه محل نظر الله، وفيه الصلاة بمائة ألف صلاة، وفيه يستجاب الدعاء، فهو بيت النظر إليه عبادة، وهذه أسرار لا يعرفها غير المسلمين، فغير المسلمين يعتقدون أنها مجرد حجارة، والمسلم ينظر إليها مستحضرًا ما يروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في شأن الكعبة: "النظر إلي الكعبة عبادة". وعن الحسن البصري قال: "إنَّ صدقة درهمٍ فيها بمائة ألف"، أي: لو تصدقت وأنت من في مكة فإنه يحسب لك بمائة ألفٍ، "وكذلك كل حسنةٍ بمائة ألفٍ"، فعندما تصلي ركعتين مثلًا فإن أجرهما يعدل أجر مائتي ألف ركعة، ويقال: إنَّ السيئات تتضاعف بها كما تتضاعف الحسنات، فلو أتيت بسيئة فإنها تحسب عليك بسيئتين: سيئةٍ للذنب، وسيئةٍ لعدم احترامك للمكان. وقد جعل الله تعالي أشهر الحج، والتي تدخل برؤية هلال شوال، وتستمر بذي القعدة إلي نهاية عشرٍ من ذي الحجة ميقاتًا زمنيًا لهذا القصد المبارك الشريف إلي بيته الحرام، حتي إذا انحرفنا عما أراد، وتفككت كلمة الأمة صارت أحوال المسلمين كما نري؛ لعلنا نستيقظ ونعود إلي وحدتنا وإلي تكاتفنا، وإلي إعلاء كلمة الله فينا. ومتي فُرِضَ الحج؟ اختلف العلماء في تحديد وقت فرض الحج، والرأي المشهور أنه فرض بعد الهجرة، وأنه فرض في السنة السادسة. لاشك أن لكل عبادة إسلامية حكم عديدة منها ما يتعلق بشؤون الدنيا ومنها ما يختص بأمور الآخرة.. فما الحكمة من مشروعية الحج؟ لا وصول إلي الله سبحانه وتعالي إلا بالتنزه عن طغيان الشهوات، والخروج عن غفلة اللذات، ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق، وآثروا التوحش عنهم لطلب الأنس بالله عز وجل، فتركوا لله عزوجل اللذات الحاضرة، وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة طمعًا في الآخرة، فلما اندرس ذلك وأقبل الخلق علي اتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل بعث الله عز وجل نبيه محمدًا صلي الله عليه وسلم لإحياء طريق الآخرة، وشرع الحج للناس سياحةً لهم؛ تجردًا لله، وتهذيبًا وتربيةً لنفوسهم، فقد روي أن رجلًا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "إنَّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالي " والحج نوع من أنواع الجهاد، قال صلي الله عليه وآله وسلم: "جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة". كما أن للحج حكما أخري جليلة نذكر منها ما يلي: أولا صلاح القلب: ففي رحلة الحج ما يرسخ في قلب الإنسان معاني الفرار إلي الله واللواذ بالجناب الإلهي، قال تعالي: (فَفِرُّوا إِلَي اللَّهِ) ثانيا تاريخ وحضارة: إذ في زيارة بيت الله الحرام تأكيد علي ارتباط المسلم بحضارته وتاريخه، وسيره علي نهج أنبياء الله ورسله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه). ثالثا إخاء وسلام: ففي هذه الرحلة المباركة تأكيد علي وحدة المسلمين وترابطهم باجتماعهم في مكان واحد وزمان واحد، متوجهين إلي رب واحد وقبلة واحدة، وقد صار البيت الحرام وطنًا أكبر للجميع ومثابة للناس وأمنًا، وصارت مكة هي أم القري كما سماها الله تعالي، فلا التفات هناك إلي اختلاف الأعراق والبلدان واللغات والألوان والثقافات، ولا فرق بين غني وفقير، فالكل سواء في الفقر والحاجة إلي الله سبحانه. رابعا إعمار للأرض: فإن في حث الشريعة علي الحج لدعوةً صريحة إلي ابتغاء الرزق الطيب والاكتساب، وذلك بالمشاركة في العمل والإنتاج والتنيمية الاقتصادية، فمن المعلوم أن تكاليف هذه الرحلة ليست بالشيء القليل، وكما يحتاج المسلم إلي زاد يكفيه في سفره للحج يحتاج أيضًا لتوفير زاد آخر يكفي أهله وعياله حتي يعود، فأولئك الذين أرادوا صلاح آخرتهم وطمعوا فيما يترتب علي الحج من ثواب عظيم تدعوهم شريعة الإسلام أولًا إلي العمل الطيب وإعمار البلاد، وتحثهم علي الإخلاص والإتقان والإبداع في العمل، وبهذا السبيل يتمكن المسلم من تحصيل نفقات الحج فيصلح في دنياه من حيث يطلب صلاح آخرته. خامسا عبادة العمر: لما كانت هناك عبادة فردية بين العبد وربه (الصوم)، وعبادة جماعية علي مستوي محلة السكن (الصلاة)، وأخري علي مستوي البلدة (الزكاة)، كان (الحج) عبادة جماعية علي مستوي العالم أجمع، ولأجل هذا كانت هي العبادة المتممة والمشتملة علي معاني العبادات التي تمثل أركان الإسلام، ففيها التلبية بتوحيد الله الذي هو أحد ركني الشهادة، وفيها أخذ المناسك عن النبي صلي الله عليه وسلم مما يعني الإقرار برسالته، وهو الركن الثاني من الشهادة، وفيها الطواف والدعاء الذي هو روح الصلاة، وفيه بذل المال وإطعام الفقراء الذي هو لب الزكاة، وفيه ضبط النفس وإمساكها عن الرفث والفسوق والجدال بما يمثل جوهر عبادة الصوم، مع ما في تلك العبادة من مشقة السفر والتعرض لمخاطره لأجل تمجيد الله وتوحيده فأشبه الغزو والجهاد في سبيل الله، وعبادة هذا شأنها لهي عبادة عظيمة جليلة. الحج والعبادات ولكن.. ما الذي يميز الحج عن غيره من العبادات؟ يقول الله تعالي: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَي مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، وقد كثرت النصوص النبوية الشريفة في فضل الحج وعظيم ثوابه،نذكر من ذلك علي سبيل المثال، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه"، وعن أبي هريرة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم ". وهل للحج مبطلات؟ الحج لا يَفْسَد إلا بالجماع سواء في القبل أو الدبر، لقوله تعالي: »فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ«، والرفث الجماع، لكن لا يخرج الشخص من أعمال الحج إذا فعل ذلك؛ بل عليه إكمال المناسك، وقضاء الحج والهدي في العام المقبل، والمضي في العبادة الفاسدة خاص بالحج، أما غيره من العبادات فلا. أما مَنْ فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج؛ لقوله صلي الله وسلم: "الحج عرفة"، وله أن يتحلل بعمرة، لكن عليه القضاء والهدي في العام المقبل. بمجرد حلول أشهر الحج إعتادت المرأة المسلمة أن تستفتي عن أحكام حج المرأة وشروطه..فما القول الفصل في حج المرأة؟ أجمع العلماء علي أن الحج يجب علي المرأة إذا استطاعته، ولكنهم أختلفوا حول هل المحرم لها من شروط الاستطاعة؟ والراجح جواز سفرها دون محرم في رفقة آمنة، وأجمعوا علي أن لزوجها أن يمنعها من حج التطوع، وأما حج الفرض فقال جمهور العلماء: ليس له أن يمنعها منه.
برواز
الذبح هنا وهناك * سوف أقوم بأداء فريضة الحج هذا العام إن شاء الله تعالي، فهل أكتفي بالذبح هناك، أم علي أهل بيتي الموجودين هنا أن يذبحوا أيضًا؟ إن كنت ستحج متمتعًا أو قارنًا فعليك دم واجب تذبحه هناك في الحرام الشريف: مكة أو مني أو مزدلفة أو كل ما يسمي حرمًا، وهذا من ناحية ما يجب عليك، أما ما يُسن ولا يجب بمعني إذا فعلته أثبت وإذا لم تفعله فلا شيء عليك فهو أن تهدي لفقراء الحرم الشريف ومجاوريه؛ بأن تذبح ما تشاء من النعم هديةً لفقراء الحرم، كما أنه يسن التضحية؛ لأن الأضاحي سنة في حق الحاج وغيره، وهذا عند جمهور الفقهاء، ولكنها غير مرتبطة بالحرم، فيمكنك أن تذبح في الحرم أو في مصر أو في أي مكان فيه مجاعات للمسلمين، كفلسطين والصومال وغيرهما.
حج الصبي * أخذتُ ابني الصبي معي في الحج، فهل يصح حجه؟ وهل يُغني عن حج الفريضة؟ عن ابن عباس رضي الله تعالي عنهما عن النبي صلي الله تعالي عليه وآله وسلم: "أنه لقي ركبًا بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبيًان فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر" رواه مسلم. وعلي ذلك يصح حجُّ ابنك الصبي ما دمت ستستكمل له أركان حجه وواجباته، ويحسب له حسناته كحج نافلة، ولذا لا يغني عن حج الفريضة؛ لأن شرط العبادة المفروضة التكليف، والصبي غير مكلف. توكيل من يحج عنك * أمتلك مالًا يكفي للحج، ولكن صحتي لا تمكنني من أدائه بنفسي، فهل لي أن أوكل من يحج عني؟ عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالي عنهما قال: "كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فجاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله، أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت علي الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم"، وذلك في حجة الوداع. وهذا الذي لا يستطيع أن يثبت علي الراحلة يعرف في الفقه ب "المعضوب". وعليه فلك أن توكل من يحج عنك. لابأس من النفرة علي مراحل * هل يجوز شرعًا أن تكون نفرة الحجيج من عرفات علي مراحل؛ لتتم النفرة في سهولة ويسر لهذه الأعداد الغفيرة المتزايدة؟ وهل هذا يعتبر تغييرًا لمناسك الحج؟ الإسلام دين راقٍ في تعاليمه ونظامه؛ فهو يهدف في العبادات الشرعية إلي أدائها بطريقة تحفظ علي المكلفين أمنهم وراحتهم وسلامتهم، ويقدم المصلحة العامة في ذلك علي المصلحة الخاصة، ولا مانع من ترك التقيد ببعض المذاهب الفقهية إذا كانت المصلحة في غيرها، كما قلنا في الرمي مثلًا؛ إذ في التقيد بأدائه في بعض الأوقات دون بعض مشقة كبيرة علي الحجيج، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه "إذا ضاق الأمر اتسع". وعلي ذلك فيمكن للجهات المسئولة أن تنظم النفرة والإفاضة من عرفات متخيرة من أقوال الفقهاء ما يتلاءم مع أعداد الحجيج ويمنع تكدُّسهم وتدافعهم، ومن المقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه يجوز لولي الأمر تقييد المباح للمصلحة العامة، وله أن يتخير من مذاهب العلماء ما يراه محققًا للمقاصد الشرعية والمصالح المرعية، فتصرفه علي الرعية منوط بالمصلحة. وعليه فيجوز لحكام المسلمين القائمين علي تنظيم الحج أن يتخيروا من المذاهب الفقهية المعتبرة ما يرونه أنسب لسلامة الحجاج وأقرب لأمنهم وراحتهم، ويجوز لهم أن يجعلوا النفرة من عرفات علي مرتين أو أكثر حسبما تقتضيه المصلحة العامة للحجيج، ولا يعد هذا تغييرًا لمناسك الحج بحال من الأحوال، وإنما يكون حسن تطبيق لشعائر الله تعالي مع رعاية ضيوفه والمحافظة علي وفده سبحانه.